وَما يَنْبَغِي لِلرَّحْمنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَدًا
(92)
قولُهُ ـ تَعَالى شَأْنُهُ: {وَما يَنْبَغِي لِلرَّحْمنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَدًا} عَطْفٌ عَلَى قولِهِ ـ عَزَّ مِنْ قائلٍ: {وَقالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمنُ وَلَدًا} الآيةَ: 88، السابقةِ مِنْ هذِهِ السُّورةِ المُباركةِ. أَيْ: "مَا يَنْبَغِي" ما يَصْلُحُ، مَا يَتَأَتَّى، مَا يَجُوزُ، ما يَلِيقُ. والمَعْنَى: {وَقالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمنُ وَلَدًا} وَالحالُ أَنَّهُ لَا يَلِيقُ بِجَلاَلِ اللهِ وَعَظَمَتِهِ اتِّخاذُ الوَلَدِ، وَلَا يَسْتَقِيمُ فِي العَقْلِ أَنْ يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ، لِاسْتِحَالَةِ ذَلِكَ عَلَيْهِ ـ تَعَالى، لِأَنَّ اتِّخاذَ الوَلَدِ يَقْتَضِي المُجَانَسَةَ، فَكُلُّ مَنِ اتَّخَذَ وَلَدًا اتَّخَذَهُ مِنْ جِنْسِهِ، وَاللهُ ـ عَزَّ وجَلَّ، مُنَزَّهٌ مِنْ أَنْ يُجانِسَ شَيْئًا، أَوْ يُجانِسُهُ شَيْءٌ، وَإِنَّ إِثْبَاتَ الوَلَدِ لَهُ يَقْتَضِي حُدُوثَهُ تَعَالَى وَحَاجَتَهُ، تَنَزَّهَ اللهُ تَعَالَى عَنْ ذَلِكَ وَتَعَالَى. ولذلكَ فاتِّخاذُ الوَلَدِ مُحَالٌ فِي حَقِّهِ ـ تَبَارَكَتْ أَسْمَاؤُهُ، بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْمُسْتَحِيلَ لَوْ طُلِبَ حُصُولُهُ لَمَا تَأَتَّى لِأَنَّهُ مُسْتَحِيلٌ لَا تَتَعَلَّقُ بِهِ الْقُدْرَةُ، لَا لِأَنَّ اللهَ عَاجِزٌ عَنْهُ.
وَقَدْ وُضِعَ اسْمُهُ "الرَّحْمَن" مَوْضِعَ الضَّميرِ إِشْعَارًا بِعِلِّيَّةِ الحُكُمْ، لِأَنَّ كُلَّ مَا سِوَاهُ ـ سُبْحانَهُ، مُنْعَمٌ عَلَيْهِ بِرَحْمَةِ "الرَّحْمَن" مَشْمولٌ بِهَا، فَكَيْفَ يَتَصَوَّرُ العَقْلُ أَنْ يُجَانَسَ هذا المُنَعَّمُ المَشْمولُ بالرَّحمَةِ، مَنْ هُوَ مَبْدَأُ النِّعَمِ ومَصدَرُ أُصُولِهَا وَفُرُوعِها، حَتَّى يُتَوَهَّمَ أَنْ يَتَّخِذَهُ وَلَدًا لهُ ـ تَعَالى اللهُ عَنْ ذَلِكَ عُلُوًّا كبيرًا.
وَالِانْبِغَاءُ: مُطَاوِعُ فِعْلِ "بَغَى" الَّذِي بِمَعْنَى "طَلَبَ". وَمَعْنَى، مُطَاوَعَتِهِ: التَّأَثُّرُ بِمَا طُلِبَ مِنْهُ، أَيِ اسْتِجَابَةُ الطَّلَبِ. وَنَقَلَ الطِّيبِيُّ عَنِ الزَّمَخْشَرِيِّ أَنَّهُ قَالَ فِي "كِتَابِ سِيبَوَيْهِ": كُلُّ فِعْلٍ فِيهِ عِلَاجٌ يَأْتِي مُطَاوِعُهُ عَلَى الِانْفِعَالِ كَ "صَرَفَ" وَ "طَلَبَ" وَ "عَلِمَ"، وَمَا لَيْسَ فِيهِ عِلَاجٌ، كَ "عَدِمَ" وَ "فَقَدَ"، لَا يَتَأَتَّى فِي مُطَاوَعِهِ الِانْفِعَالُ الْبَتَّةَ. فَبَانَ أَنَّ أَصْلَ مَعْنَى يَنْبَغِي يَسْتَجِيبُ الطَّلَبَ.
وَفَرْقٌ بَيْنَ قَوْلِكَ: يَنْبَغِي لَكَ أَنْ لَا تَفْعَلْ هَذَا، وَبَيْنَ لَا يَنْبَغِي لَكَ أَنْ تَفْعَلَ كَذَا، أَيْ مَا يَجُوزُ لِجَلَالِ اللهِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَدًا لِأَنَّ جَمِيعَ الْمَوْجُودَاتِ غَيْرُ ذَاتِهِ تَعَالَى يَجِبُ أَنْ تَكُونَ مُسْتَوِيَةً فِي الْمَخْلُوقِيَّةِ لَهُ وَالْعُبُودِيَّةِ لَهُ. وَذَلِكَ يُنَافِي الْبُنُوَّةَ لِأَنَّ بُنُوَّةَ الْإِلَهِ جُزْءٌ مِنَ الْإِلَهِيَّةِ، وَهُوَ أَحَدُ الْوَجْهَيْنِ فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ تَعَالَى في الآيَةَ: 81، مِنْ سُورةِ الزُّخرُفِ: {قُلْ إِنْ كانَ لِلرَّحْمنِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ الْعابِدِينَ}، أَيْ لَوْ كَانَ لَهُ ـ سُبْحانَهُ، وَلَدٌ لَعَبَدْتُهُ قَبْلَكُمْ.
وَلِمَّا كَانَ الطَّلَبُ مُخْتَلِفُ الْمَعَانِي بِاخْتِلَافِ الْمَطْلُوبِ لَزِمَ أَنْ يَكُونَ مَعْنَى يَنْبَغِي مُخْتَلِفًا بِحَسْبِ الْمَقَامِ فَيُسْتَعْمَلُ بِمَعْنَى: يَتَأَتَّى، وَيُمْكِنُ، وَيَسْتَقِيمُ، وَيَلِيقُ، فإِنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى مِنْ سُورَةِ الفُرقانِ: {قالُوا سُبْحانَكَ مَا كانَ يَنْبَغِي لَنا أَنْ نَتَّخِذَ مِنْ دُونِكَ مِنْ أَوْلِياءَ} الْآيةَ: 18، يُفِيدُ مَعْنَى: لَا يَسْتَقِيمُ لَنَا، أَوْ لَا يُخَوَّلُ لَنَا أَنْ نَتَّخِذَ أَوْلِيَاءَ غَيْرَكَ، وَقَوْلُهُ مِنْ سُورَةِ (يَس): {لَا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَها أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ} الآيَةَ: 40، يُفِيدُ مَعْنَى لَا تَسْتَطِيعُ، وَقولُهُ بعدَ ذلكَ في الآيةِ: 69، مِنْها: {وَمَا عَلَّمْناهُ الشِّعْرَ وَما يَنْبَغِي لَهُ} الآيةَ: 69، يُفِيدُ مَعْنَى: أَنَّهُ لَا يَلِيقُ بِهِ، وَقولُهُ مِنْ سُورَةِ (ص): {وَهَبْ لِي مُلْكًا لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي} الآيَةَ: 35، يُفِيدُ مَعْنَى: لَا يُسْتَجَابُ طَلَبُهُ لِطَالِبِهِ إِنْ طَلَبَهُ.
وَأَكْثَرُ تِلْكَ الْإِطْلَاقَاتِ أَصْلُهُ مِنْ قَبِيلِ الْكِنَايَةِ، وَاشْتُهِرَتْ فَقَامَتْ مَقَامَ التَّصْرِيحِ. وَهَذِهِ اللَّفْظَةُ لَا يُسْتَعْمَلُ مِنْهَا المَصْدَرُ ولا الفاعِلُ، أَمَّا الماضي مِنْهُ فَنادِرًا مَا اسْتُعْمِلَ، وَقَدْ عَدَّ ابْنُ مَالِكٍ فِعْلَ "يَنْبَغي" فِي الأَفْعالِ الَّتي لَا تَتَصَرَّفُ. وَهُوَ مَرْدُودٌ عَلَيْهِ، فَإِنَّهُ قَدْ سُمِعَ فِيهِ فِي المَاضِي قالوا: "انْبَغَى".
قولُهُ تَعَالى: {وَما يَنْبَغِي لِلرَّحْمنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَدًا} الواوُ: حَالِيَّةٌ، وقيلَ للعطْفِ ـ كما تقدَّمَ في مَبْحَثِ التفسيرِ. و "مَا" نافِيَةٌ. و "يَنْبَغِي" فِعْلٌ مُضَارِعٌ مَرْفوعٌ لِتَجَرُّدِهِ مِنَ الناصِبِ والجازِمِ، وعَلامَةُ رفعِهِ ضمَّةٌ مُقدَّرةٌ عَلى آخِرِهِ لِثِقَلِها عَلى الياءِ. و "لِلرَّحْمَنِ" اللامُ: حرفُ جَرٍّ مُتَعَلِّقٌ بِـ "يَنْبَغِي"، و "الرَّحْمَنِ" اسْمٌ مِنْ أَسْماءِ الجلالةِ مجرورٌ بحرفِ الجرِّ. و "أَنْ" حَرْفُ نَصْبٍ وَمَصْدَرٍ. و "يَتَّخِذَ" فِعْلٌ مُضَارِعٌ مَنْصُوبٌ بِـ "أَنْ" المَصْدَرِيَّةِ، وَفاعِلُهُ ضَمِيرٌ مُسْتَتِرٌ فيِهِ جوازًا تقديرُهُ (هُوَ) يَعُودُ عَلَى "الرَّحْمَن". و "وَلَدًا" مَفْعُولُهُ منصوبٌ بِهِ، وَالجُمْلَةُ الفِعْلِيَّةُ هَذِهِ مَعَ "أَنْ" المَصْدَرِيَّةِ فِي تَأْويلِ مَصْدَرٍ مَرْفوعِ عَلَى الفاعِلِيَّةِ، وَالتَقْديرُ: وَمَا يَنْبَغِي لِلرَّحْمَنِ اتِّخاذُ وَلَدٍ، وَجُمْلَةُ "يَنْبَغِي" فِي مَحَلِّ النَّصْبِ على الحالِ مِنْ {الرَّحْمَن} في قَوْلِهِ: {أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمَنِ وَلدًا} الآيةَ: 91، السابِقَةِ.