وَنَسُوقُ الْمُجْرِمِينَ إِلَى جَهَنَّمَ وِرْدًا (86)
قوْلُهُ ـ تَعَالى شَأْنُهُ: {وَنَسُوقُ الْمُجْرِمِينَ إِلَى جَهَنَّمَ وِرْدًا} السَّوْقُ: مُسْتَعْمَلٌ في تَسْيِيرُ الْأَنْعَامِ أَمَامَ رُعَاتِهَا سَيْرَ حَذَرٍ وَخَوْفٍ، فَتهَابُ سَطْوَتَهم، وَتَرْهَبُ سِيَاطَهُمْ، وَتَخْشَى زَجْرَهُمْ، فَلَا تَتَفَلَّتُ مِنْهُمْ، وَلَا تَتَمَرَّدُ عَلَيْهِمْ. وَ "المُجْرِمِينَ" هُمُ الكافِرُونَ، فيما قالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا، فِي رِوايَةِ الضَّحَاكِ عنْهُ. وَ "الوِرْدُ" هُمْ جَمَاعَةُ الوارِدِينَ، أَيْ: الذَّاهَبينَ إِلَى مَنْبَعِ المَاءِ وَمَصْدَرِهِ، مِنْ نَهْرٍ أَوْ بِئْرٍ أَوْ غديرٍ، أَوْ غَيْرِ ذَلَكَ، طَلَبًا للرَّيِّ. وَأَصْلُهُ السَّيْرُ إِلَى الْمَاءِ، وَتُسَمَّى الْأَنْعَامُ الْوَارِدَةُ وِرْدًا، وَهِيَ تَسْمِيَةٌ عَلَى حَذْفِ الْمُضَافِ، أَيْ: ذَات وِرْدٍ، كَمَا يُسَمَّى الْمَاءُ الَّذِي يَرِدُ عَلَيْهِ الْقَوْمُ وِرْدًا. قَالَ اللهُ تَعَالَى: {وَبِئْسَ الْوِرْدُ الْمَوْرُودُ} الآيةَ: 98، مِنْ سُورَةِ هودٍ. وَهوَ في الأَصْلِ مَصْدَرٌ أُطْلِقَ عَلَى الأَشْخَاصِ، يُقالُ: وَرَدَ الماءَ يَرِدُه وِرْدًا ووُرُوْدًا. ومِنْهُ قوْلُ الشَّاعِرِ الرَّاجِزِ ذُو الرّمَّةِ آمِرًا بِهِ نَاقَتَهُ:
رِدِي رِدي وِرْدَ قَطاةٍ صَمَّا ...................... كُدْرِيَّةٍ أَعْجَبَها بَرْدُ المَا
فـ "رِدِي": هو أَمْرٌ مِنَ الوُرُودِ، كَرَّرَهُ للتَّوكيدِ. وَالوِرْدُ: اسْمُ مَصْدَرٍ مِنْهُ أَيْضًا، أَوْ اسْمٌ للمَاءِ المَوْرودِ، فهو يَقولُ لناقتِهِ: رِدِي الماءَ كَوُرودِ قَطَاةٍ صَمَّاءَ لَا تَسْمَعُ صَوْتَ القَانِصِ، ولِذَلِكَ فَإِنَّهَا لَا تَنْفُرُ عَنِ المَاءِ، والكُدْرُ (بِضَمِّ الكافِ) نَوْعٌ مِنَ القَطَا رَمَادِيُّ اللَّوْنِ، والكُدْرِيَّةُ: نِسْبَة ٌإلى الكُدْرِ، وَهُوَ مِنْ نِسْبَةِ الجُزْئِيِّ إِلَى كُلِّيِّهِ، وَياؤُهُ هِيَ الفَارِقَةُ بَيْنَ اسْمِ الواحدِ مِنْهُ واسْمِ الجِنْسِ، كما يُقالُ: "رُومٌ" و "رُومِيٌّ". فَهُوَ في هَذَا البَيْتِ يُشَبِّهُ نَاقَتَهُ بِالقَطَاةِ فِي خِفَّتِها وَسُرْعَتِها.
وَقَوْلُهُ: "وِرْدًا" حَالٌ قُصِدَ مِنْهَا التَّشْبِيهُ، فَلِذَلِكَ جَاءَتْ جَامِدَةً لِأَنَّ مَعْنَى التَّشْبِيهِ يَجْعَلُهَا كَالْمُشْتَقِّ. وَلَمَّا كَانَ مَنْ يَرِدُ الْمَاءَ لَا يَرِدُهُ إِلَّا لِعَطَشٍ، أُطْلِقَ الْوِرْدُ عَلَى الْعِطَاشِ، فهُوَ مِنْ تَسْمِيَةِ الشَّيْءِ بِسَبَبِهِ.
وقد أُطلقَ عَلَى دفعِهِمْ إِلَى جَهَنَّمَ وَهُمْ في حالِةِ العَطَشِ الشَّديدِ يَنْشُدونَ قَطْرَةَ ماءٍ يُطْفِئونَ بِهَا نارَ ظَمَئِهِم وحرَّ تَلَهُّفِهِم تَهَكُّمًا بِهِمْ، وتَحْقِيرًا لَهُمْ، نَسْألُ اللهَ الرِّحِيمَ الكَريمَ المَغْفِرَةَ وَالعَفْوَ والعَافَيَةَ، فَإِنَّ جَهَنَّمَ مَحَلُّ العذابِ باللَّهَبِ الشُوَاظِ والتَّغَيُّظِ والزَّفِيرِ، وماؤها القَيْحُ والحَمِيمُ الذي يَغْلي فِي البُطونِ. وَلَيْسَتْ محَلَّ المَاءِ النَّمِيرِ الذي ينشُدونَ، والعياذُ باللهِ مِنْ غضَبِهِ وعَذابِهِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَريرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبي حَاتِم، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي (الْبَعْثُ والنُّشورُ) عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ـ رَضِيَ اللهُ عنهُما فِي قَوْلِهِ تَعَالى: "وَنَسوق الْمُجْرمين إِلَى جَهَنَّم وِرْدًا" قَالَ: عِطاشًا.
وَأَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ، وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، عَنْ قَتَادَةَ ـ رَضِيَ اللهُ عنْهُ، فِي قَوْلِهِ: "وَنَسوق الْمُجْرمين إِلَى جَهَنَّم وِرْدًا" قَالَ: ظِمَاءً إِلَى النَّارِ.
وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبي حَاتِمٍ عَنْ مُجَاهِدٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: "وَنَسوق الْمُجْرمين إِلَى جَهَنَّم وِرْدًا" قَالَ: مُتَقَطِّعَةً أَعْنَاقُهُمْ مِنَ الْعَطَشِ.
وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْ أَبي هُرَيْرَةَ ـ رَضِيَ اللهُ تعالى عَنْهُ: "وَنَسوق الْمُجْرمين إِلَى جَهَنَّم وِرْدًا" قَالَ: عطاشًا. وَأَخْرَجَ هَنَّاد عَنِ الْحَسَنِ البَصْرِيِّ ـ رَضِيَ اللهُ تعالى عَنْهُ، مِثْلَهُ.
وزَادَ أَبُو عُبَيْدٍ والفَرَّاءُ، والزَّجَّاجُ: (مُشَاةً). "معَاني القرآن وإعرابُهُ" للفَرَّاءِ: (2/172) "مَعاني القرآن وإعرابُهُ" لأبي إسحاقٍ الزَّجَّاج: (3/346).
قالَ ابْنُ السِّكِّيتِ: (الوِرْدُ وُرُوْدُ القوم الماء، والوِرْدُ الماءُ الذي يُوْرَدُ، والوِرْدُ الإبل الوَارِدَة). وهذا مِنَ بابِ الإيماءِ بالشَّيْءِ إِلَى الشَّيْءِ؛ لِأَنَّ الوِرْدَ يَعْنِي وُرُوْدَ الماءِ، وَلا يَرِدُ أَحدٌ المَاءَ لِيَشْرَبَ إِلَّا إِذا عَطِشَ، إذًا فقد أَوْمَأَ بالوِرْدِ إِلى أَنَّ أُولَئِكَ القومَ همَ يَوْمَئِذٍ عِطَاشٌ يُسَاقونَ إِلَى النَّارِ، أَيْ: وَنَسُوقُ المُجْرِمِينَ يومَ القيامةِ إِلَى جَهَنَّمَ عِطاشًا يَطْلُبونَ المَاءَ، كَمَا تُسَاقُ البَهَائِمُ إِلَيْهِ ظِماءً، وَإِنَّما يَكونُ السَّائِقُ مِنَ الخَلْفِ يَسُوقُهُمْ سَوْقًا فَيَزْجُرُهم وَيَنْهَرهم ويصيحُ فِيهم ويَدْفْعُهم دفعًا إلى النَّارِ، كَمَا قَالَ تَعَالى مِنْ سُورَةِ الطُّورِ: {يَوْمَ يُدَعُّونَ إلى نَارِ جَهَنَّمَ دَعًّا} الآيةَ: 13.
قولُهُ تَعَالى: {وَنَسُوقُ الْمُجْرِمِينَ إِلَى جَهَنَّمَ وِرْدًا} الواوُ: للعَطْفِ، و "نَسُوقُ" فِعْلٌ مُضارعٌ مرفوعٌ لِتَجَرُّدِهِ مِنَ الناصِبِ والجازمِ، وفاعِلُهُ ضميرٌ مُسْتَتِرٌ فيهِ وُجوبًا تقديرُهُ (نَحْنُ) للتَّعْظِيمِ يَعُودُ عَلَى اللهِ تَعَالَى، وَ "المُجْرِمِينَ" مَفْعُولٌ بِهِ مَنْصُوبٌ، والجُمْلَةُ فِي مَحَلِّ الجَرِّ عَطْفًا عَلى جملةِ قولِهِ {نَحْشُرُ} منَ الآيَةِ قبلَها. و "إِلَى" حَرْفُ جَرٍّ مُتَعَلِّقٌ بِـ "نَسُوقُ". و "جَهَنَّمَ" مَجْرُورٌ بِحَرْفِ الجَرِّ، وعلامةُ جرِّهِ الفَتْحَةُ نِيَابَةً عَنِ الكَسْرةِ لأَنَّهُ مَمْنُوعٌ مِنَ الصرفِ. وَ "وِرْدًا" مَنْصُوبٌ عَلى الحالِ مِنَ "الْمُجْرِمِينَ"؛ تقديرُهُ: وَاردينِ.
قَرَأَ العامَّةُ: {نَسُوقُ المُجْرِمينَ} بالبِناءِ للفاعِلِ الذي هوَ اللهُ تَعَالى. وَقَرَأَ الْحَسَنُ البَصْريُّ، وَالْجَحْدَرِيُّ "يُسَاقُ الْمُجْرِمُونَ" بالبناءِ لِلْمَفْعُولِ.