أَفَرَأَيْتَ الَّذِي كَفَرَ بِآيَاتِنَا وَقَالَ لَأُوتَيَنَّ مَالًا وَوَلَدًا
(77)
قولُهُ ـ جَلَّ وعَزَّ: {أَفَرَأَيْتَ الَّذِي كَفَرَ بِآيَاتِنَا وَقَالَ لَأُوتَيَنَّ مَالًا وَوَلَدًا} يُخْبِرُنَا ربُّنا ـ سُبحانَهُ وتَعَالَى، بِقِصَّةِ ذَلِكَ الكافِرِ، الذي قَالَ "لَأُوتَيَنَّ مَالًا وَوَلَدًا"، عَقِيْبَ قِصَّةِ أُوُلئكَ الكَفَرةِ المُشْرِكِيْنَ الذينَ توَّهَّموا أَنَّ اللهَ يُحِبُّهم، وأَنَّهُمْ ذَوُوا مَكانَةٍ وحُظْوةٍ عِنْدَهُ، بِعَكْسِ المُؤْمِنِينَ بسيِّدِنا رَسولِ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ، مُسْتَدِلِّينَ بِمَا أَمَدَّهُمُ اللهُ بِهِ مِنْ نِعَمٍ في الحياةِ الدُّنيا، وقدْ وصلَ بِهِمْ غرورُهُمْ إلى ادِّعاءِ أَنَّهُ سيُمِدُّهُم بمثلِهِ في الآخرةِ إِذا ما كانتْ ثَمَّةَ آخرةٌ وبعثٌ لا يؤمنونَ بهِ هُمْ ولكنَّ ذلكَ كانَ مِنْهُم على سَبِيلِ الاستهزاءِ بالمُؤمِنِينَ والسُّخْرِيَةِ. وقدْ ردَّ اللهُ عليهِمْ فيما مَضَى مِنْ آيٍ وسَخَّفَ عقولَهُمْ وفنَّدَ حُجَّتَهُمْ ومُعْتَقَدَهمْ، وجَاءَتْ هَذِهِ الآيةُ لتَخُصَّ بالذِّكْرِ واحدًا مِنْ هؤلاءِ، وهو العاصُّ بِنُ وائلٍ السَّهْمِيِّ. فَقولُهُ هُنَا: "أَرَأَيْتَ" هُوَ بِمَعْنَى: أَخْبَرَني كَمَا قَدْ عَرَفْتَهُ. وَهُوَ تَفْرِيعٌ عَلَى قَوْلِهِ في الآيَةِ: 66، السَّابِقَةِ: {وَيَقُولُ الْإِنْسانُ أَئِذا مَا مِتُّ لَسَوْفَ أُخْرَجُ حَيًّا} وَمَا بِعْدَهُ مِنَ التَّفْرِيعَاتِ والِاعْتِرَاضِ. وَذاك: أَنَّ قَائِلَ هَذَا الْكَلَامِ كَانَ مَغُرُورًا كَأَصْحَابِهِ. فَالْآيَةُ إذًا تَتَحدَّثُ عَنْ قِصَّةِ خَبَّابِ بْنِ الأَرَتِّ ـ رَضِي اللهُ عَنْهُ، مَعَ الْعَاصِ بْنِ وَائِلٍ السَّهْمِيِّ، كَمَا سَتُوَضِّحُهُ الأحاديثُ الوارِدَةُ فِي أَسْبابِ النُّزُولِ.
فَقَدْ أَخْرَجَ الإِمامُ أَحْمَدُ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، في مُسْنَدِهِ، عَنْ الصَّحابيِّ الجَلِيلِ خَبَّابِ بْنِ الأَرَتِّ ـ رَضِيَ اللهُ تَعَالَى عَنْهُ، أَنَّهُ قَالَ: كُنْتُ رَجُلًا قَيْنًا، وَكانَ لِي عَلَى العَاصِ بْنِ وَائِلٍ دَيْنٌ، فَأَتَيْتُهُ أَتَقَاضَاهُ. فَقَالَ: لَا وَاللهِ لَا أَقْضِيكَ حَتَّى تَكْفُرَ بِمُحَمَّدٍ، فُقُلْتُ: لَا وَاللهِ لَا أَكْفُرُ بِمُحَمَّدٍ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، حَتَّى تَمُوتَ ثُمَّ تُبْعَثَ. قَالَ: فإِنِّي إِذَا مِتُّ ثُم بُعِثْتُ جِئْتَنِي وَلِي ثَمَّ مَالٌ وَوَلَدٌ، فَأَعْطَيْتُكُ. فَأَنْزَلَ اللهُ: "أَفَرَأَيْتَ الَّذِي كَفَرَ بِآيَاتِنَا وَقَالَ لأوتَيَنَّ مَالا وَوَلَدًا" إِلى قَوْلِهِ: {وَيَأْتِينَا فَرْدًا}. المُسْنَدُ: (4/111)، وَأَخْرَجَهُ الإمامُ البُخَارِيُّ في صَحِيحِهِ بِرَقَمِ: (2091) و (4734) و (4735). والإمامُ مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ بِرَقَمِ: (2795)، وغيرُهمْ. وَفِي لَفْظِ الإمامِ البُخَاري: (كُنْتُ قَيْنًا بِمَكَّةَ، فَعَمِلْتُ للْعَاصِ بْنِ وَائِلٍ سَيْفًا، فَجِئْتُ أَتَقَاضَاهُ، فَذَكَرَ الحَديثَ.
وَأَخْرَجَ الإمامُ عَبْدُ الرَّزَّاقِ الصَّنْعانيُّ عَنْ مَسْروقٍ قَالَ: قالَ خَبَّابُ بْنُ الأَرَتِّ: (كُنْتُ قَيْنًا بِمَكَّةَ، فَكُنْتُ أَعْمَلُ لِلْعَاصِ بْنِ وَائِلٍ، قَالَ: فَاجْتَمَعَتْ لِي عَلَيْهِ دَرَاهِمُ، فَجِئْتُ لِأَتَقَاضَاهُ، فَقَالَ لِي: لَا أَقْضِيكَ حَتَّى تَكْفُرَ بِمُحَمَّدٍ. فَقُلْتُ: لَا أَكْفُرُ بْمُحَمَّدٍ ـ صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ، حَتَّى تَمُوتَ ثُمَّ تُبْعَثَ. قَالَ: فإِذَا بُعِثْتُ كَانَ لِي مَالٌ وَوَلَدٌ. قَالَ: فَذَكَرْتُ ذَلِكَ لِرَسُولِ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَأَنْزَلَ اللهُ تَعَالَى: "أَفَرَأَيْتَ الَّذِي كَفَرَ بِآيَاتِنَا وَقَالَ لأوتَيَنَّ مَالا وَوَلَدًا" إِلَى قَوْلِهِ: {وَيَأْتِينَا فَرْدًا}. تَفْسيرُ الإمامِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ الصَّنْعانيُّ: (2/13).
وَقَالَ مُجاهِدٌ، وَقَتَادَةُ، وَغَيْرُهُمْا مِنْ أَهْلِ التَفْسِيرِ مثلَ هَذا: بأَنَّ الآيةَ نَزَلَتْ فِي العاصِ بْنِ وَائِلٍ السَّهْمِيِّ.
وَرَوَى العَوْفِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ـ رَضِيَ اللهُ تَعَالَى عَنْهُمَا، أَنَّهُ قَالَ: إِنَّ رِجَالًا مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، كَانُوا يَطْلُبُونَ العَاصَ بْنَ وَائِلٍ السَّهْمِيَّ بِدَيْنٍ، فَأَتَوْهُ يَتَقَاضُونَهُ، فَقَالَ: أَلَسْتُمْ تَزْعُمُونَ أَنَّ فِي الجَنَّةِ ذَهَبًا وِفِضَّةً وَحَريرًا، وَمِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ؟. قَالُوا: بَلَى. قَالَ: فَإِنَّ مَوْعِدَكُمُ الآخِرَةَ، فَوَاللهِ لَأُوتَيَنَّ مَالًا وَوَلَدًا، وَلَأُوتَيَنَّ مِثْلَ كِتَابِكُمُ الذي جِئْتُمْ بِهِ. فَضَرَبَ اللهُ مَثَلَهُ فِي القُرْآنِ فَقَالَ: "أَفَرَأَيْتَ الَّذِي كَفَرَ بِآيَاتِنَا" إِلَى قَوْلِهِ: {وَيَأْتِينَا فَرْدًا}. فَلَمْ يُسَمَّ في هَذِهِ أَحَدٌ مِمَّنِ اخْتَلَفُوا مَعَ العَاصِ بْنِ وَائلٍ، فَتَبْقَى الرِّوَاياتُ المُتَقِدِّمَةُ مُقَدَّمَةً عَلَى هذِهِ الرِّوايَةِ، واللهُ أَعْلَمُ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: {أَفَرَأَيْتَ الَّذِي كَفَرَ بِآيَاتِنَا} أَفَرَأَيْتَ: الهَمْزَةُ: هِيَ للاسْتِفْهامِ التَّعَجُّبِيِّ دَاخِلَةٌ عَلَى مَحْذوفٍ. وَالفاءُ: للتَّعقيبِ عَاطفَةٌ عَلَى ذَلِكَ المَحْذوفِ، والتقديرُ: أَنَظَرْتَ فَرَأَيْتَ؟، ويجوزُ أَنْ تكونَ استِئْنافيَّةً. وَ "رَأَيْتَ" فِعْلٌ ماضٍ مَبْنِيٌّ عَلَى السُّكونِ لاتِّصالِهِ بضميرِ رَفعٍ متحرِّكٍ هوَ تاءُ الفاعِلِ، والتاءُ: ضميرٌ متَّصِلٌ بِهِ مبنيٌّ على الفتْحِ في محلِّ الرَّفعِ بالفاعِلِيَّةِ. و "الَّذِي" اسْمُ مَوْصُولٌ مبنيٌّ على السُّكونِ فِي مَحَلِّ النَّصْبِ على المَفْعُوليَّةِ لِـ "رَأَى" على أنَّهُ مفعولُهُ الأَوَّلُ والثاني هو الجملةُ الاسْتِفْهامِيَّةُ مِنْ قَوْلِهِ في الآيَةِ التي بعدَها: {أَطَّلَعَ الغَيْبَ}، وَالجُمْلَةُ مَعْطُوفَةٌ عَلَى تِلْكَ الجُمْلَةِ المَحْذوفَةِ، والجُمْلَةُ المَحْذوفَةُ: مُسْتَأْنَفَةٌ لا محلَّ لها مِنَ الإعرابِ. و "كَفَرَ" فِعْلٌ ماضٍ مَبْنِيٌّ عَلَى الفَتْحِ، وَفاعِلُهُ ضميرٌ مُسْتَتِرٌ فِيِهِ جَوَازًا تَقْديرُهُ (هو) يَعُودُ عَلَى "الذي". و "بِآيَاتِنَا" الباءُ: حَرْفُ جَرٍّ مُتَعَلِّقٌ بِـ "كَفَرَ"، و "آياتِنا" مَجْرُورٌ بِحَرْفِ الجَرِّ، وهوَ مُضافٌ، و "نا" ضميرُ المُعَظِّمِ نفسَهُ سُبْحانَهُ، متَّصِلٌ بِهِ، مَبْنِيٌّ على السُّكونِ في محلِّ الجَرِّ بالإِضافةِ إِلَيْهِ، الجُمْلَةُ الفعليَّةُ هَذِهِ صَلَةُ المَوْصُولِ فَلَا مَحَلَّ لَهَا مِنَ الإِعْرابِ.
قولُهُ: {وَقَالَ لَأُوتَيَنَّ مَالًا وَوَلَدًا} الوَاوُ: للعَطْفِ، و "قَالَ" فِعْلٌ مَاضٍ مَبْنِيٌّ على الفتْحِ، وَفَاعِلُهُ مُسْتَتِرٌ فيهِ جَوَازًا تَقْديرُهُ (هوَ) يعودُ عَلَى المَوْصُولِ عَطْوفًا عَلَى "كَفَرَ". و "لَأُوتَيَنَّ" اللَّامُ: هي المُوَطِّئَةُ للْقَسَمِ، و "أُوتَيَنَّ" فِعْلٌ مُضَارِعٌ مبنيٌّ للمجهولِ (مُغَيَّرُ الصِّيغَةِ) مَبْنِيٌّ عَلى الفتْحِ لاتِّصالِهِ بنونِ التوكيدِ الثَّقيلةِ، وَالنائِبُ عَنْ فاعِلِهِ ضَمِيرٌ مُسْتَتِرٌ فِيهِ وُجُبًا تَقديرُهُ: (أَنَا) يعودُ على "الذي". و "مَالًا" مَفْعُولٌ بِهِ ثانٍ لِـ "أُوتَيَنَّ" لِأَنَّهُ بِمَعْنَى (أُعْطَى)، أَمَّا المَفْعولُ الأَوَّلُ فقدْ نابَ عنِ الفاعِلِ. و "وَلَدًا" مَعْطُوفٌ عَلَى "مَالًا" منصوبٌ عَلى المَفْعُوليَّةِ مثلُهُ، والجُمْلَةُ الفِعْلِيَّةُ هَذِهِ جَوَابُ القَسَمِ لَا مَحَلَّ لَهَا مِنَ الإِعْرَابِ، وَجُمْلَةُ القَسَمِ: فِي مَحَلِّ النَّصْبِ مَقُولُ القولِ لـ "قَالَ".
قَرَأَ الجُمْهُورُ: {لَأُوتَيَنَّ مَالًا وَوَلَدًا} بِفَتْحِ "الواوِ" مِنْ "وَلَدًا"، وَقَرَأَ حَمزةُ والكِسائِيُّ: "وُلْدًا" بِضَمِّهَا، وَهُوَ بِمَعْنَاهُ، كَ "أَسَدٍ" و "أُسْدٍ"، وعُجْمِ وعَجَمِ، وًعُرْبٍ وَعَرَبٍ، وَعُدْمٍ وَعَدَمٍ .. . وَقالَ الفَرَّاءُ: هُمَا لُغَتَانِ، كالعُدْمِ، والعَدَمِ، وَلَيْسَ يُجْمَعُ. وَمنْ ذلكَ أَيْضًا قَولُ الحَارِثِ بْنِ حِلِّزَةَ:
وَلَقَد رَأَيْتُ مَعَاشِرًا ............................... قَدْ تَمرُوا مَالًا وَوُلْدا
وَمِثلُهُ قَولُ رُؤْبَةَ بْنِ العَجَّاجِ:
الحَمْدُ للهِ العَزْيزِ فَرْدًا .................... لَمْ يَتَّخِذْ مِنْ وُلْدِ شَيْءٍ وُلْدا
وَقالَ نُفَيْعُ بْنُ صَفَّارٍ المُحارِبيُّ الأَسْلَميُّ يَهْجُو الأَخْطَلَ:
فَلَيْتَ فُلانًا كانَ فِي بَطْنِ أُمِّهِ ............... وَلَيْتَ فُلانًا كَانَ وُلْدَ حِمَارِ
وقالَ النَّابِغَةُ الذُّبْيانيُّ أَيْضًا في مَعْنَى ذَلِكَ:
مَهْلًا فِداءٌ لَكَ الأَقْوامُ كُلُّهُمُ ................ وَمَا أَثْمَرَ مِنْ مَالٍ وَمِنْ وَلَدِ
فَفَتَحَ (وَلَدِ). وَقَيْسٌ: تَجْعَلُ "الوُلْدَ" بالضَّمِّ جَمْعًا، وَ "الوَلَدَ" بالفَتْحِ مُفْرَدًا، واللهُ أَعْلَمُ.
وَقَرَأَ عَبْدُ اللهِ بْنُ مَسْعودٍ، ويَحْيَى بْنُ يَعْمُرَ ـ رَضِيَ اللهُ عنهُما: "ولْدًا" بِكَسْرِ الوَاوِ وَسُكُونِ اللَّامِ، وَهِيَ لُغَةٌ فِي "الوَلَد"، وَلَيسَ بِبَعيدٍ أَنْ يَكونَ مِنْ بابِ "الذَّبْح" و "الرَّعْي"، فَيَكونُ "وِلْدٌ" بِمَعْنَى "مَوْلُودٍ"، وَكَذَلِكَ يقالُ: في "وَلَد" بِفَتْحَتين، نَحْوَ: "القَبَض" بِمَعْنَى المَقْبُوضِ.