وَكَانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ بالصَّلاةِ والزَّكاةِ وَكَانَ عِنْدَ رَبِّهِ مَرضِيًّا (55)
قولُهُ ـ تَعَالَى شَأْنُهُ: {وَكَانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ بالصَّلاةِ والزَّكاةِ} يُثْني اللهُ تَعَالَى عَلَى نَبِيِّهِ إِسْماعيلَ ـ عَلَيْهِ السَّلامُ، بِأَنَّهُ إِضافةً إِلَى تَمَسُّكِهِ بِطَاعَةِ رَبِّهِ مِنْ صَلاةٍ وزَكاةٍ وغيْرِ ذَلِكَ، وَقَدْ كَانَ مِنْ شَرِيعَتِهِ الصَّلَاةُ وَالزَّكَاةُ وَشُؤونُ الْحَنِيفِيَّةِ مِلَّةِ أَبِيهِ إِبْرَاهِيمَ. فَكَانَ يَأْمُرُ قومَهُ بِها، وكانَ ـ عَلَيْهِ السَّلامُ، يُقْبِلُ عَلَى نَفْسِهِ، وَمَنْ هُوَ أَقْرَبُ النَّاسِ إِلَيْهِ بِالتَّحْلِيَةِ وَالتَّكْميلِ.
وَالْمُرادُ بـ "أَهْلَهُ" قومُهُ، وأُمَّةُ الْعَرَبِ نَشَأَتْ مِنْ ذُرِّيَتِهِ، فَهُمْ أَهْلُهُ أَيْضًا، وَقالَ ابْنُ عَبَّاسٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُما: يُريدُ قومَهُ. وَقَالَ أَبو إسْحاقٍ الزَّجَّاجُ: "أَهْلَهُ" جَميعُ أُمَّتِهِ، مِمَّنْ كانَتْ بَيْنَهُ وَبَيْنَهم قَرَابَةٌ أَوْ لَمْ يَكُنْ، وَكَذَلِكَ أَهْلُ كُلُّ نَبِيٍّ أُمَّتُهُ. "مَعاني القُرْآنِ وإِعرابُهُ" لَهُ: (3/333)؛ وَقالَ مُقاتِلٌ: لِأَنَّ كُلَّ نَبِيٍّ فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ الأَبِ لِأُمَّتِهِ، فإذا كانَتِ الأُمَّةُ كَالأَوْلادِ لَهُ فَهُمْ أَهْلُهُ. وَنَظيرُ هَذِهِ الآيةِ قوْلُهُ تَعَالَى في الآيَةِ: 132، مِنْ سُورةِ طَهَ: {وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلَاةِ} أَيْ: وَأْمُرْ قَوْمَكَ. وَقَالَ مِنْ سُورةِ الشُّعراءِ: {وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ} الآيةَ: 214، وقالَ مِنْ سُورَةِ التَّحْريمِ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلَائِكَةٌ غِلَاظٌ شِدَادٌ لَا يَعْصُونَ اللهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُون} الآيةَ: 6، وَالْمُرادُ بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ، مَا فَرَضَهُ اللهُ تَعَالَى فِيمَا قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُما: يُريدُ التي افْتَرَضَهَا اللهُ عَلَيْهِمْ وَهِيَ الحَنيفِيَّةُ الَّتي افْتُرِضَتْ عَلَيْنا. "مَعَالِمً التَنْزيلِ" للبَغَوِيِّ: (5/240).
قولُهُ: {وَكَانَ عِنْدَ رَبِّهِ مَرضِيًّا} أَيْ: وَكَانَ إِسْماعيلُ ـ عَلَيْهِ السَّلامُ، مَرَضِيًّا عَنْهُ عِنْدَ رَبِّهِ ـ جَلَّ وَعَلَا. فَقَدْ وَصَفَ اللهُ ـ جَلَّ جَلالُهُ، نَبِيَّهُ إِسْمَاعِيلَ ـ عَلَيْهِ السَّلامُ، بِثَلاثِ خِصَالٍ، كَانَ بِهَا مَرْضِيًّا عِنْدَ رَبِّهِ، وهِيَ:
1 ـ الوَفاءُ بالوَعْدِ والعَهْدِ لأَنَّهُ مِنْ شِيَمِ الأَبْرارِ، وَقَدْ مَدَحَ اللهُ تَعَالَى أَهْلَهُ، وَرَغَّبَ فِيهِ، وَأَمَرَ بِهِ، فَقالَ مِنْ سُورةِ البَقَرَةِ: {وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذا عاهَدُوا} الآية: 177. وأَمَرَ بِهِ في الآيةِ: 91، مِنْ سُورَةِ النَّحْلِ: فَقَالَ: {وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللهِ إِذا عاهَدْتُمْ}.
2 ـ وَالصِّدْقُ فِي الحَديثِ، لِأَنَّهُ مُسْتَلْزِمٌ لَهُ.
3 ـ وَأَمْرُ النَّاسِ بالمَعْروفِ وَفِعْلِ الخَيْراتِ.
وَقدْ رِضَيَ اللهُ تَعَالَى عَنْ نَبِيِّهِ إِسْماعيلَ فَأَنْعَمَ عَلَيْهِ نِعَمًا كَثِيرَةً، فقد بَارَكَهُ وَأَنْمَى نَسْلَهُ وَجَعَلَ أَشْرَفَ الْأَنْبِيَاءِ مِنْ ذُرِّيَتِهِ، وَجَعَلَ الشَّرِيعَةَ الْعُظْمَى عَلَى لِسَانِ رَسُولٍ مِنْ ذُرِّيَتِهِ، وهوَ سَيِّدُ الأَوَّلِينَ والآخِرينَ محمَّدٌ ـ صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وفي هذهِ الآيةِ الكريمةِ إِشارَةٌ إِلَى أَنَّ كلُّ مَنْ تَحَلَّى بِهَذِهِ الصِّفاتِ الكريمةِ الَّتي تَحَلَّى بِها سَيِّدُنَا إِسْماعِيلُ ـ عَلَيْهِ الصلاةُ والسَّلامُ، فَقدْ حازَ رِضْوانَ اللهِ ـ تَبَارَكَ وتَعَالى، وَاللهُ أَعْلَمُ.
قوْلُهُ تَعَالى: {وَكَانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ بالصَّلاةِ والزَّكاةِ} الواوُ: للعَطْفِ، وَ "كانَ" فِعْلٌ ماضٍ ناقِصٌ مَعْطُوفٌ عَلَى "كَانَ" الأُولَى ولَهُ مِثْلُ إِعْرابِهِ. و "يَأْمُرُ" فعلٌ مُضارعٌ مرفوعٌ لِتَجَرُّدِهِ مِنَ الناصِبِ والجازِمِ، وَفاعِلُهُ ضَمِيرٌ مُسْتتِرٌ فِيِهِ جوازًا تقديرُهُ (هو) يَعُودُ عَلَى سيِّدِنا إِسْمَاعِيلَ ـ عليْهِ السَّلامُ، و "أَهْلَهُ" مَفْعُولٌ بِهِ مَنْصُوبٌ، والجُمْلَةُ فِي مَحَلِّ النَّصْبِ خَبَرًا لـ "كَانَ". و "بِالصَّلَاةِ" الباء: حرفُ مُتَعَلِّقٌ بِـ "يَأْمُرُ"، و "الصَّلَاةِ" مجرورٌ بحرفِ الجَرِّ. و "بالزَّكَاةِ" مَعْطوفٌ عَلَى "بِالصَّلَاةِ" مَجْرُورٌ مِثْلُهُ.
قولُهُ: {وَكَانَ عِنْدَ رَبِّهِ مَرضِيًّا} الواوُ: للعَطْفِ، وَ "كانَ" وَ "كانَ" فِعْلٌ ماضٍ ناقِصٌ مَعْطُوفٌ عَلَى "كَانَ" الأُولَى ولَهُ مِثْلُ إِعْرابِهِ. و "عِنْدَ" منصوبٌ على الظَّرْفيَّةِ الاعتباريَّةِ، مُتَعَلِّقٌ بِـ "مَرْضِيًّا"، وهوَ مُضافٌ، و "رَبِّهِ" "رَبِّ" اسْمٌ مَجْرُورٌ بِالإِضافَةِ إلَيْهِ، وهوَ مُضافٌ أَيْضًا، والهاءُ: ضميرٌ متَّصِلٌ بِهِ في محلِّ الجرِّ بالإضافةِ إِلَيْهِ. و "مَرْضِيًّا" خَبَرُ "كَانَ"، والجُملةُ في محلِّ الرَّفعِ عطْفًا على جملةِ "كانَ" الأولى.
قَرَأَ العامَّةُ: {مَرْضِيًّا} مُعتَلًّا وأَصْلُهُ مَرْضُوْوٌ، بِوَاوَيْنِ: الأُولى زائدةٌ كَهيَ في "مَضْروب"، والثانيةُ لامُ الكَلِمَةِ لِأَنَّهُ مِنَ الرِّضْوانِ، فَأُعِلَّ بِقَلْبِ الواوِ ياءً، وأُدْغِمَتِ الأَخِيرَةُ يَاءً، واجْتَمَعَتِ الياءُ وَالواوُ فَقُلِبَتِ الواوُ يَاءً وأُدْغِمَتْ، وَيَجُوزُ النُّطْقُ بِالأَصْلِ. وَقَرَأَ ابْنُ أَبي عَبْلَةَ بِهَذَا الأَصْلِ وَهُوَ الأَكْثَرُ، وَمِنَ الإِعْلالِ قَوْلُ الشَّاعِرِ عبْدِ يَغُوثَ بْنِ وَقَّاصٍ الحارِثيِّ:
لقد عَلِمَتْ عِرْسِي مُلَيْكَةُ أنني ............. أنا المَرْءُ مَعْدِيًّا عَلَيْهِ وَعادِيا
وقالوا: أَرْضٌ مَسْنِيَّةٌ ومَسْنُوَّة، أَيْ: مُسْقاةٌ بِالسَّانِيَةِ.
وَتَقَدَّمَ اخْتِلَافُ الْقُرَّاءِ فِي قِرَاءَةِ نَبِيئًا بِالْهَمْزِ أَوْ بِالْيَاءِ الْمُشَدَّدَةِ.