وَوَهَبْنَا لَهُ مِنْ رَحْمَتِنَا أَخَاهُ هَارُونَ نَبِيًّا (53)
قولُهُ ـ تَعَالَى شَأْنُهُ: {وَوَهَبْنَا لَهُ مِنْ رَحْمَتِنَا أَخَاهُ هَارُونَ نَبِيًّا} المُرادُ بـ "مِنْ رَحْمَتِنا" أَيْ: مِنْ نِعْمَتِنَا ورَحْمَتِنَا بِهِ وَرَأْفَتِنا، أَوْ مِنْ بَعْضِ رَحَمَاتِنَا. و "أَخَاهُ" أَيْ: وهبنا لَهُ مُعَاضَدَةَ أَخِيهِ وَمُؤَزَرَتَهُ لهُ، وَذَلِكَ اسْتِجَابَةً لدُعائِهِ حَيْثُ قَالَ مِنْ سُورَةِ القَصَصِ: {وَأَخِي هَارُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِسَانًا فَأَرْسِلْهُ مَعِيَ رِدْءًا يُصَدِّقُنِي إِنِّي أَخَافُ أَن يُكَذِّبُونِ} الآيَةَ: 34، ؛ وَقَالَ مِنْ سُورَةِ (طه): {وَاجْعَلْ لِي وَزِيرًا مِنْ أَهْلِي * هَارُونَ أَخِي * اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي} الآياتِ: (29 ـ 33)، فَأَجَابَهُ اللهُ تَعَالَى إِلَى مَا سَأَلَهَ فَقَالَ بَعْدَهَا: {قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يا مُوسَى} الآيةَ: 36، وقالَ مِنْ سُورَةِ القَصَصِ: {سَنَشُدُّ عَضُدَكَ بِأَخِيكَ} الآيَةَ: 35. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا: كَانَ هَارُونُ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَكْبَرَ مِنْ مُوسَى ـ عَلَيْهِمَا السَّلَامُ، وَإِنَّمَا وَهَبَ اللهُ لَهُ نُبُوَّتَهُ لَا شَخْصَهُ، وَأُخُوَّتَهُ، وَذَلِكَ إِجَابَةٌ لِدُعَائِهِ فَإِنَّ هَارُونَ كانَ أَفْصَحَ لِسَانًا منْ موسَى ـ عَلَيْهِما السَّلامُ، لِأَنَّ فِي لِسَانِ مُوسَى حُبْسَةً، فَسَأَلَ مُوسَى رَبَّهُ أنْ يُرْسِلَ مَعَهُ أَخَاهُ هَارُونَ مُعِينًا لَهُ في مُهِمَّتِهِ وَمُسَانِدًا ومُساعدًا فَكَانَ يَتَكَلَّمُ عَنْ مُوسَى بِمَا يُرِيدُ إِبْلَاغَهُ، وَكَانَ يَسْتَخْلِفُهُ فِي مُهِمَّاتِ الْأُمَّةِ. أَخْرَجَهَ عَنْهُ: ابْنُ جَريرٍ، وَابْنُ أَبي حَاتِمٍ.
وَإِنَّمَا جُعِلَتْ تِلْكَ الْهِبَةُ مِنْ رَحْمَةِ اللهِ لِأَنَّ اللهَ رَحِمَ مُوسَى إِذْ يَسَّرَ لَهُ أَخًا فَصِيحَ اللِّسَان، وأَكْمَلَهُ بِالإِنْباءِ حَتَّى يَعْلَمَ مُرَادَ مُوسَى مِمَّا يُبَلِّغُهُ عَنِ اللهِ تَعَالَى. وَلَمْ يُوصَفْ هَارُونُ بِأَنَّهُ رَسُولٌ إِذْ لَمْ يُرْسِلْهُ اللهُ تَعَالَى، وَإِنَّمَا جَعَلَهُ مُبَلِّغًا عَنْ مُوسَى. وَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى في الآيةِ: 47 مِنْ سُورَةِ طه: {فَقُولا إِنَّا رَسُولا رَبِّكَ}، فَهُوَ مِنَ التَغْلِيبِ. وَقَدْ كَانَتْ هذِهِ الرحمةُ خاصَّةً بِمُوسَى ـ عَلَيْهِ السَّلاُمُ، إذْ لَمْ تَحْدٌثْ مَعَ أَحَدٍ مِنَ الأنَبِياءِ ـ عَلَيْهِمُ الصَّلاةُ والسَّلامُ، أَنْ قُيِّضَ لَهُ مِنْ يُساعِدُهُ.
قولُهُ تَعَالى: {وَوَهَبْنَا لَهُ مِنْ رَحْمَتِنَا أَخَاهُ هَارُونَ نَبِيًّا} الوَاوُ: للعَطْفِ، و "وَهَبْنَا" فِعْلٌ ماضٍ مبنيٌّ عَلَى السُّكونِ لاتِّصالِه بضميرِ رفعٍ متحرِّكٍ هوَ "نَا" المُعظِّمِ نفسَهُ ـ سُبحانَهُ، و "نَا" التَّعْظيمِ هذِهِ ضميرٌ متَّصِلٌ بِهِ مبنيٌّ على السُّكونِ في محلِّ الرَّفعِ بالفاعِلِيَّةِ، والجملةُ مَعْطوفَةٌ عَلَى جملةِ قولِهِ "نادينا" منَ الجُملةِ التي قبلَها. و "لَهُ" اللامُ: حرفُ جرٍّ مُتَعَلِّقٌ بِـ "وَهَبْنَا". و "مِنْ" حرفُ جرٍّ مُتَعَلِّقٌ بِـ "وَهَبْنَا" أَيْضًا وَمَعْنَى "مِنْ" هُنَا للتَّبْعيضِ؛ أَيْ: مِنْ بَعْضِ رَحْمَتِنَا، أَوْ تكونُ للتَّعْليلِ؛ أَيْ: مِنْ أَجْلِ رَحْمَتِنَا إِيَّاهُ. و "رَحْمَتِنَا" مجرورٌ بحرفِ الجَرِّ مُضافٌ، و "نا" ضميرُ المُعَظِّمِ نَفْسَهُ متَّصِلٌ بِهِ في محلِّ الجَرِّ بالإضافةِ إليْهِ. و "أَخَاهُ" مَفْعُولٌ بِهِ لِـ "وَهَبْنَا". وَ "هَارُونَ" بَدَلٌ مِنْ "أَخَاهُ"، أَوْ عَطْفُ بَيَانٍ، أَوْ هُوَ مَنْصُوبٌ بنزعِ الخافضِ أَيْ بِإِضْمَارِ "أَعْني"، ولَمْ يُنَوَّنْ لِكَوْنِهِ مَمْنُوعًا مِنَ الصَّرفِ بالعَلَميَّةِ والعُجْمَةِ. وَ "نَبِيًّا" مَنْصوبٌ عَلَى الحَالِ مِنْ "هَارُونَ".