وَبَرًّا بِوَالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّارًا شَقِيًّا (32)
قولُهُ ـ تَعَالى شَأْنُهُ: {وَبَرًّا بِوَالِدَتِي} قيلَ: هوَ عَطْفٌ عَلَى قَوْلِهِ مِنَ الآيةِ التي قبلَها: {وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَمَا كُنْتُ} الآية: 31، السَّابقةِ. وَفِيهِ بُعْدٌ نظَرًا لِما بَيْنَ الْمَعْطُوفِ وَالْمَعْطُوفِ عَلَيْهِ مِنْ فَصْلٍ بِجُمْلَةِ {وأَوْصَانِي بالصلاةِ والزكاةِ} وَمُتَعَلِّقِهَا، وَالْأَرجحُ أَنَّ نَصْبَهُ إنَّما هو بِفِعْلٍ مُضْمَرٍ، أَيْ: وَجَعَلَنِي بَرًّا بِوَالِدَتِي.
وَالْبَرُّ: بِفَتْحِ الْبَاءِ: اسْمٌ بِمَعْنَى الْبَارِّ. أَيْ: مُطيعًا لها، لَطيفًا بِها. وَقَدْ خَصَّهُ اللهُ تَعَالَى بِذَلِكَ بَيْنَ قَوْمِهِ، لِأَنَّ البِرَّ بالْوَالِدَيْنِ يَوْمَئِذٍ كَانَ فِي بَنِي إِسْرَائِيلَ قليلًا هَزيلًا، وَبِخَاصَّةٍ البِرَّ بالْوَالِدَةِ فهَي في الغالِبِ مُسْتَضْعَفَةٌ مهضومةُ الحقوقِ، لِرِقَّةِ قلبِها وحَميم عاطِفَتِها وفَرْطِ حَنَانِهَا، وضَعْفِ بُنيتِها، فيتَجَرَّأُ الْوَلَدَ عَلَيها ويَتَسَاهُلِ فِي الْبِرِّ بِهَا. وقالَ ـ عَلَيْهِ السَّلامُ: "وَبَرًّا بِوَالِدَتِي"، ولَمْ يَقُلْ: "بِوالِدَيَّ"، كَمَا قَالَ اللهُ تَعَالى مِنْ قَبْلُ عَنْ يَحْيَى بْنِ "زكريّا" ـ عَلَيْهِما السَّلامُ، {وَبَرًّا بِوَالِدَيْهِ}، لَيَعْلَمُوا أَنَّه إِنَّما خَلَقَهُ اللهُ مِنْ رُوحِهِ، فَلَا وَالِدَ لَهُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبي حَاتِمٍ عَنْ نَوْفٍ البِكاليِّ قال: "وَبَرًّا بِوَالِدَتي" أَيْ: لَيْسَ لِي أَبٌ.
قولُهُ: {وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّارًا شَقِيًّا} جَبَّارًا: مُتَعاظِمًا مُعْجَبًا بِنَفْسِهِ مُغْتَرًّا بها، صَلْفًا قاسِيَ القَلْبِ، سَريعَ الغَضَبِ يَقْتُلُ وَيَضْرِبُ بِقسْوةٍ، وَالْجَبَّارُ ـ أَيْضًا: الْمُتَكَبِّرُ الْغَلِيظُ عَلَى النَّاسِ فِي مُعَامَلَتِهِمْ.
وَ "شَقِيًّا" خَائِبًا مِنَ الْخَيْرِ، عَاصِيًا لِرَبِّهِ، عَاقًّا لِوَالِدَتِهِ، وَالشَّقِيُّ: ضِدُّ السَّعِيدِ، وَهُوَ الْخَاسِرُ الَّذِي تَكُونُ أَحْوَالُهُ كَدِرَةً مُؤْلِمَةً لَهُ.
وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عنْهُما، فِي قَوْلِهِ: "وَلم يَجْعَلْنِي جَبَّارًا شَقِيًّا" يَقُول: عَصِيًّا.
وَأَخْرَجَ ابْنُ أبي حَاتِم عَنْ سُفْيَانٍ ـ رَضِيَ اللهُ عنْهُ، أنَّهُ قَالَ: الْجَبَّارُ: الشَّقِيُّ الَّذِي يُقْبِلُ عَلَى الْغَضَبِ.
وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبي حَاتِمٍ عَنِ الْعَوَّامِ بْنِ حَوْشَب ـ رَضِيَ اللهُ عنْهُ، أَنَّهُ قَالَ: إِنَّكَ لَا تَكَادُ تَجِدُ عاقًّا إِلَّا تَجِدُهُ جَبَّارًا، ثُمَّ قَرَأَ قولَهُ تَعَالى: "وَبَرًّا بِوَالِدَتي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّارًا شَقِيًّا".
وَقِيلَ: المعنى لَمْ يَجْعَلْنِي تَارِكًا لِأَمْرِهِ فَأَشْقَى كَمَا شَقِيَ إِبْلِيسُ. وَهَذَا الوَصْفُ بالشَّقاءِ الذي نَفَاهُ سيِّدُنا عِيسَى ـ عَلَيْهِ السَّلامُ، عنْ نَفْسِهِ، إِنَّما هُوَ بِاعْتِبَارِ مَآلِ الشَّقيِّ فِي الْآخِرَةِ، وَمَا يَنْتَظِرهُ فيها مِنْ عذابٍ أَلِيمٍ، وهَوْلٍ جَسيمٍ، وَرُبَّمَا لاقَى الشَّقيُّ مِثْلَ ذَلِكَ فِي الدُّنْيَا أَيْضًا.
وقدِ احْتَجَّ الإمامُ مَالِكُ بْنُ أَنَسٍ ـ رَضِيَ اللهُ تعالى عنْهُما، عَلَى الْقَدَرِيَّةِ، بِهَذِهِ الْآيَةِ الكريمةِ فقَالَ: مَا أَشَدَّهَا عَلَى أَهْلِ الْقَدَرِ! أَخْبَرَ عِيسَى ـ عَلَيْهِ السَّلَامُ، بِمَا قُضِيَ مِنْ أَمْرِهِ، وَبِمَا هُوَ كَائِنٌ إِلَى أَنْ يَمُوتَ.
قولُهُ تَعَالى: {وَبَرًّا بِوَالِدَتِي} الواوُ: للعطْفِ، و "بَرًّا" مَعْطوفٌ عَلى {مُبَارَكًا} مِنَ الآيةِ التي قبلَها؛ أَيْ: وَجَعَلَني بَارًّا. وفيهِ نَظَرٌ لأَنَّهُ مَنْصُوبٌ نَسَقًا عَلَى "مُبَارَكًا"، أَيْ: وَجَعَلَنِي بَرًّا. والوجْهُ أَنْ يكونَ نَصْبُهُ بِإِضْمارِ فِعْلٍ مقدَّرٍ. وَ "بِوَالِدَتِي" الباءُ: حرفُ جَرٍّ مُتَعَلِّقٌ بِـ "بَرًّا"، و "وَالِدَتِي" مجرورٌ بحرفِ الجَرِّ، مُضافٌ، وياءُ المُتكَلِّمِ ضميرٌ مُتَّصِلٌ بِهِ في محلِّ الجرِّ بالإضافةِ إِلَيْهِ. والجُمْلَةُ معطوفةٌ على جملةِ قولِهِ {وجعلَني مباركًا}.
قولُهُ: {وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّارًا شَقِيًّا} الوَاوُ: للعطْفِ، و "لَمْ" حرفُ جَزْمٍ ونَفْيٍ وقَلْبٍ. وَ "يَجْعَلْنِي" فعْلٌ مُضارعٌ مَجزومٌ بـ "لم"، والنُّونُ للوِقايَةِ، وياءُ المُتكلِّمِ ضميرٌ متَّصِلٌ بهِ في محلِّ النَّصِبِ عَلَى أَنَّهُ مفعولُهُ الأَوَّلُ، وفاعلُهُ مُسْتَتِرٌ فيهِ جوازًا تقديرُهُ (هو) يعودُ على اللهِ تعالى. وَ "جَبَّارًا" مَفْعُولُهُ الثاني منصوبٌ بِهِ. وَ "شَقِيًّا" صِفَةٌ لِـ "جَبَّارًا" منصوبةٌ مثلُهُ، والجملةُ مَعْطوفةٌ عَلَى جملةِ {وَجَعَلَنِي}.
قرأَ العامَّةُ: {وَبَرًّا} بِفَتْحِ الباءِ، وقُرِئَ "بِرًّا" بِكَسْرِ الباءِ: وهو إِمَّا عَلَى حَذْفِ مُضافٍ، وَإِمَّا عَلَى المُبَالَغَةِ فِي جَعْلِهِ نَفْسَ المَصْدَرِ.
ويَجوزُ أَنْ يَكونَ وَصْفًا عَلى وزْنِ "فِعْل". وَقالَ الزَّهْراوِيُّ، والعُكْبُرِيُّ أَنَّهُ قُرِئَ "والبِرِّ بِوَالِدَتي" بِكَسْرِ الباءِ والرَّاءِ. والوَجْهُ: أَنَّهُ عَطْفُ نَسَقٍ عَلَى "الصَّلاةِ"، أَيْ: وأَوْصاني بالصَّلاةِ وبالزَّكاةِ وَبِالبِرِّ بِوَالِدَتي.