وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَبًا جَنِيًّا (25)
قولُهُ ـ تَعالى شأْنُهُ: {وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ} هَزُّ الشَّيْءِ تَحْريكُهُ، فقد أَخْرَجَ ابْنُ أَبي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ زَيْدٍ ـ رَضِيَ اللهُ عنهما، فِي قَوْلِهِ تعالى: "وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ" قَالَ: حَرِّكيها.
والمُرادُ هَهُنا مَا كانَ بِطَريقِ الجَذْبِ وَالدَّفْعِ لِقَوْلِهِ تَعَالى "إِلَيْكَ" أَيْ إِلَى جِهَتِكِ، فقد أَمَرَهَا اللهُ ـ تَبَاركَ وتعالى، أَنْ تَهُزَّ جِذْعَ النَّخْلَةِ اليابِسةِ، وَفِيهِ دَلالَةٌ عَلى وُجوبِ الأَخْذِ بالأَسْبابِ للكَسْبِ؛ فإِنَّ الذي أَعادَ الحَيَاةَ للجَذْعِ فاخضَرَّ مِنْ جديدٍ وأَوْرَقَ وَأَثمَرَ لَقادرٌ عَلى جعلِ الرُّطَبِ تتساقَطُ عليها دونَ جُهدٍ منها، فهوَ أَهوَنُ وَأَيْسَرُ؛ فقد كانَ يَرْزُقُها دُونَما سَبَبٍ عِنْدَمَا كَانَتْ مَؤُونَتُها عَلَى زَكَرِيَّا ـ عَلَيْهِما السَّلامُ. وفِيهِ دَلِيلٌ عَلى أَنَّ زَكَرِيَّا كانَ أَعْلَى مَنْزِلَةً عِنْدَ اللهِ تَعَالَى مِنْها، حَيْثُ كانَ ـ سُبْحانَهُ، يَرْزُقُها دُونَ أنْ يَتَكَلَّفَ زَكَرِيَّا مَؤونَتَها، عنْدَما كانَتْ واحدةً مِنْ عِيالِهِ، فَلَمَّا فَارَقَتْهُ، أُمِرَتْ بالتَكَسُّبِ.
وفيهِ أَيْضًا دَلالَةٌ: بِأَنَّ ما جازَ مِنْ آياتٍ للأَنْبِياءِ ـ عليهِمُ السَّلامُ، يَجوزُ أَنْ يكونَ لِغَيْرِهم مِنَ الصالحينَ، حَيْثُ جَعَلَ اللهُ النَّخْلَةَ اليابِسَةَ، تعودُ للحياةِ وَتُثْمِرُ رُطَبًا لِمَرْيَمَ، وَأَجْرى لها مِنْ تَحْتِها جَدْوَلًا لتَشْربَ مِنْهُ، فقد وفَّرَ لها أسبابَ الحياةِ مِنْ طعامٍ وشرابٍ. وهذا يُشْبِهُ آياتِ الأَنْبِياءِ والمرسلين ـ عَلَيْهِمُ الصَّلاةُ والسَّلامُ، أَجْمَعينَ.
وقدْ يُقالُ إنَّما أَجْرَى اللهُ تعالى هَذِهِ الآياتِ على يدَيْ مريمَ، مِنْ أجلِ وليدِها، فهيَ في الحقيقةِ مُعْجزاتٌ لِنَبِيِّهِ للسيِّدِ المَسيحِ عِيسَى ـ عَلَيْهِ الصلاةُ وَالسَّلامُ.
قولُهُ: {تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَبًا جَنِيًّا} تُسَاقِطْ: أَيْ: تُسْقِطِ النَّخْلَةُ الرُّطَبَ عَلَيْها بِشَكْلٍ مُتَواتِرٍ حَسَبَ تَواتُرِ الهَزِّ.
وَالرُّطَبُ: أَفخَرُ أَنواعِ التُّمُورِ وأَطيبُها وأَسْهَلُها تَنَاوُلًا، وهوَ مَا قُطِعَ قَبْلَ يُبْسِهِ وَجَفافِهِ. والرُّطَبُ: اسْمُ جِنْسٍ لِـ "رُطَبَةٍ". وَقالوا: هوَ الرُّطَبُ، فذَكَّرُوهُ باعْتِبارِ الجِنْسِ، ويُجْمَعُ شُذوذًا عَلى "أَرْطابٍ" كَ "رُبَعٍ" و "أَرْباع". وَخُصَّ الرُّطَبُ بِثِمارِ النَّخْلِ. ويَقولونَ: أَرْطَبَ النَّخْلُ، كما يُقالُ: "أَتْمَرَ"، و "أَجْنَى".
والجَنِيُّ: ما صَلُحَ للاجْتِناءِ، أَيْ: طَرِيًّا، وَهُوَ القَريبُ الجَنْيِ، الطازجُ الذي لَمْ تَمْضِ عَلَيْهِ مُدَّةٌ تُفْسِدُهُ. فقد أَخْرَجَ ابْنُ أَبي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ـ رَضِيَ اللهُ عنهُما، فِي قَوْلِهِ تَعالى: "رُطَبًّا جَنِيًّا" قَالَ: طَرِيًّا.
وَأَخْرَجَ عنْهُ أيَضًا الْخَطِيبُ فِي (تالي التَّلْخِيص) أَنَّ قالَ فِي قَوْلِهِ تعالى: "تُساقِطْ عَلَيْكِ رُطَبًا جَنِيًا" قَالَ: بِغُبارِهِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ الْأَنْبَارِيِّ وَالخَطيبُ البغداديُّ عَنْ أَبي حُبابٍ مِثْلَهُ.
والجَنَى: المُجَتَنَى مِنَ العَسَلِ، وَيُقالُ لَهُ الجَنِيُّ أَيْضًا، وأَجْنَى الشَّجَرُ: إذا أَدْرَك ثَمَرُهُ، وأَجْنَتِ الأَرْضُ كَثُرَ جَنَاهَا. واسْتُعيرَ مِنْ ذَلِك "جَنَى فُلانٌ جِنَايَةً" كَمَا اسْتُعيرَ "اجْتَرَمَ جَريمَةً" أَيْضًا، وَهوَ "فَعِيلٌ" بِمَعْنَى "مَفْعُول". وَقِيلَ: بِمَعْنَى "فَاعِل".
وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبي حَاتِمٍ عَنْ أَبي رَوْقٍ الهمدانيِّ ـ رَضِيَ اللهُ عنْهُ، قَالَ: انْتَهَتْ مَرْيَمُ إِلَى جَذْعٍ لَيْسَ لَهُ رَأْسٌ فَأَنْبَتَ اللهُ لَهُ رَأْسًا، وَأَنْبَتَ فِيهِ رُطُبًا، وبِسْرًا، ومُدَبَّبًا، وَمَوْزًا، فَلَمَّا هَزَّتِ النَّخْلَةَ سَقَطَ عَلَيْهَا مِنْ جَمِيعِ مَا فِيهَا.
وَأَخْرَج َعبْدُ اللهِ بْنُ أَحْمَدَ فِي زَوَائِدِ الزُّهْدِ، عَنْ أَبي قُدَّامٍ قَالَ: أُنْبِتَتْ لِمَرْيَمَ نَخْلَةٌ تَعَلَّقُ بِهَا، كَمَا تَعَلَّقُ الْمَرْأَةُ عِنْدَ الْوِلادَةِ.
وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ عَنْ أَبي الفَضْلِ شَقِيْقِ بْنِ ثَوْرٍ السَّدُوْسِي ـ رَضِيَ اللهُ تعالى عَنْهُ، قَالَ: لَوْ عَلِمَ اللهُ أَنَّ شَيْئًا للنُّفَساءَ خَيْرٌ مِنَ الرُّطَبِ لَأَمَرَ مَرْيَمَ بِهِ.
وَأَخْرَجَ ابْنُ عَسَاكِرَ عَنِ الإمامِ الشَّعْبِيِّ ـ رَضِيَ اللهُ عنْهُ، قَالَ: كَتَبَ قَيْصَرُ إِلَى عُمَرَ بْنِ الْخَطَّاب ـ رَضِيَ اللهُ عنْهُ، أَنَّ رُسُلًا أَتَتْنِي مِنْ قِبَلِكَ، فَزَعَمَتْ أَنَّ قِبَلَكُمْ شَجَرَةً لَيْسَتْ بِخَلِيقَةٍ لِشَيْءٍ مِنَ الْخَيْرِ، تَخْرُجُ مِثْلَ أَذَانِ الْحَميرِ، ثُمَّ تَشَقَّقُ عَنْ مِثْلِ اللُّؤْلُؤِ الْأَبْيَضِ، ثُمَّ تَصيرُ مِثْلَ الزُّمُرُّدِ الْأَخْضَرِ، ثُمَّ تَصيرُ مِثْلَ الْيَاقُوتِ الْأَحْمَرِ، ثُمَّ تَيْنَعُ، وَتَنْضُجُ، فَتَكونُ كَأَطْيَبِ فَالوذَجٍ أُكِلَ، ثُمَّ تَيْبَسُ فَتَكونُ عِصْمَةً للمُقيمِ، وَزَادًا للْمُسَافِرِ، فَإِنْ تَكُنْ رُسُلِي صَدَقَتْني، فَلَا أَرَى هَذِهِ الشَّجَرَةَ إِلَّا مِنْ شَجَرِ الْجَنَّةِ، فَكَتَبَ إِلَيْهِ أميرُ المُؤمنينَ عُمَرُ ـ رُضْوانُ اللهِ عليْهِ: أَنَّ رُسُلَكَ قَدْ صَدَقَتْكَ، هَذِهِ الشَّجَرَةُ عِنْدَنَا: وَهِيَ الَّتِي أَنْبَتَها اللهُ عَلى مَرْيَمَ حِينَ نَفِسَتْ بِعِيسَى ـ عَلَيْهِ السَّلامُ.
وَأَخْرَجَ أيضًا عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ عَنْ عَمْرِو بْنِ مَيْمُوْنٍ الأَوْدِيُّ ـ رَضِيَ اللهُ عنْهُ، قَالَ لَيْسَ للنُّفَساءِ خَيْرٌ مِنَ الرُّطَبِ أَوِ التَّمْرِ، وَقَالَ: إِنَّ اللهَ قَالَ: "وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُساقِطْ عَلَيْك رُطَبًا جنيًّا".
وَأَخْرَجَ سَعيدُ بْنُ مَنْصُورٍ، وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، عَنِ أبي يزيدٍ الرَّبيعِ بْنِ خُثَيْمٍ الثَّورِيِّ الكوفيِّ ـ رَضِيَ اللهُ عنْهُ، قَالَ: لَيْسَ للنُّفَساءِ عِنْدِي دَوَاءٌ مِثْل الرُّطَبِ، وَلَا للْمَرِيضِ مِثْلُ الْعَسَلِ.
وَأَخرْجَ ابْنُ عَسَاكِرَ عَنْ أَبي سَعيدٍ الْخُدْرِيِّ ـ رَضِيَ اللهُ عنْهُ، قَالَ: سَأَلْنَا رَسُولَ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مِمّاذَا خُلِقَتِ النَّخْلَةُ؟ قَالَ: ((خُلِقَتِ النَّخْلَةُ، وَالرُّمَّانُ، وَالْعِنَبُ، مِنْ فَضْلِ طِينَةِ آدَمَ ـ عَلَيْهِ السَّلَامُ)). أَخْرَجَهُ ابْنُ عَسَاكِرَ: (7/382)، والدَّيْلَمِيُّ: (2/191، رقم: 2954)، قالَ العلامةُ المَنَاوِيُّ: (3/450): سَنَدُهُ مَطْعونٌ فِيهِ.
وَأَخْرَجَ أَبُو يَعْلى، وَابْنُ أَبي حَاتِمٍ، وَابْنُ السِّنِّيِّ، وَأَبُو نُعَيْمٌ مَعًا، فِي الطِّبِّ النَّبَوِيِّ، والعَقيلِيُّ، وَابْنُ عَدِيٍّ، وَابْنُ مِرْدُوَيْهِ، وَابْنُ عَسَاكِرَ، عَنْ عَلِيٍّ ـ رَضِيَ اللهُ تَعَالى عنْهُ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَكْرْمُوا عَمَّتَكُمُ النَّخْلَةَ، فَإِنَّهَا خُلِقَتْ مِنَ الطِّينِ الَّذِي خُلِقَ مِنْهُ آدَمُ ـ عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَلَيْسَ مِنَ الشَّجَرِ شَجَرَةٌ تُلَقَّحُ غَيْرُهَا. وَقَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((أَطْعِمُوا نِساءَكُمُ الوُلَّدَ الرُّطَبَ، فَإِن لَّمْ يَكُنْ رُطَبٌ فَتَمْرٌ، فَلَيْسَ مِنَ الشَّجَرِ شَجَرَةٌ أَكْرَمُ مِنْ شَجَرَةٍ نَزَلَتْ تَحْتَهَا مَرْيَمُ بِنْتُ عِمْرَانَ)). مُسْندُ أَبو يَعْلَى: (1/353، رقم: 455). قالَ الهَيْثَمِيُّ: (5/39): فيهِ مَسْرورُ بْنُ سَعِيدٍ، وَهوَ ضَعيفٌ.
وَأَخْرَجَ ابْنُ عَسَاكِرَ، والخطيبُ البغداديُّ عَنْ سَلَمَةَ بْنِ قَيْسٍ ـ رَضِيَ اللهُ عنْهُ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((أَطْعِمُوا نِساءَكُمْ فِي نِفَاسِهِنَّ التَّمْرَ، فَإِنَّهُ مَنْ كَانَ طَعامَها فِي نِفَاسِهَا التَّمْرُ: خَرَجَ وَلَدُهَا وَلَدا حَلِيمًا، فَإِنَّهُ كَانَ طَعَامَ مَرْيَمَ حَيْثُ وَلَدَتْ عِيسَى، وَلَوْ عَلِمَ اللهُ طَعَامًا هُوَ خَيْرٌ لَهَا مِنَ التَّمْرِ لأَطْعَمَهَا إِيَّاهُ)). في سندِهِ داودُ بْنُ سُلَيمان الجُرْجانيُّ مُتَّهَمٌ بالكَذِبِ.
قولُهُ تَعالى: {وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ} الواوُ: للعطْفِ، وَ "هُزِّي" فِعْلُ أَمْرٍ مَبْنِيٌّ على حذْفِ النُّونِ مِنْ آخرِهِ لأَنَّ مُضارعَهُ مِنَ الأفعالِ الخَمْسَةِ، والياءُ: ضميرٌ متَّصِلٌ بهِ في محلِّ الرَّفْعِ بالفاعليَّةِ. والجملةُ مَعْطوفَةٌ عَلَى جملةِ قولِهِ {أَلَّا تَحْزَنِي}. و "إِلَيْكِ" إِلَى: حَرْفُ جَرٍّ مُتَعَلِّقٌ بـ "هُزِّي"، وكافُ الخطابِ ضميرٌ متَّصِلٌ بِهِ في محلِّ الجرِّ بحرفِ الجَرِّ. و "بِجِذْعِ" الباءُ: حَرْفُ جَرٍّ زائدٍ، كَهِيَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى مِنْ سُورةِ البَقَرَة: {وَلاَ تُلْقُواْ بِأَيْدِيكُمْ} الآية: 195، وَكَقَوْلِ الشَّاعِرِ الراعي النُمَيْريِّ:
هُنَّ الحَرائرُ لَا رَبَّاتُ أَخْمِرَةٍ ............ سُودُ المَحاجِرِ لَا يَقْرأْنَ بالسُّوَرِ
أَيْ: هُزِّي جِذْعَ النَّخْلَةِ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكونَ المَفْعُولُ مَحْذُوفًا، والجارُّ حَالٌ مِنْ ذَلِكَ المَحْذوفِ والتَقْديرُ: وَهُزِّي إِلَيْكِ رُطَبًا كائنًا بِجِذْعِ النَّخْلَةِ. وَيَجوزُ أَنْ يَكونَ هَذا مَحْمُولًا عَلى المَعْنَى؛ إِذِ التَّقديرُ: هُزِّي الثَّمَرَةَ بِسَبَبِ هَزِّ الجِذْعِ، أيْ: انْفُضِي الجِذْعَ. وإِلَيْهِ نَحَا الزَّمَخْشَرِيُّ، فإِنَّهُ قالَ: أَوِ افْعَلِي الهَزَّ كَقَوْلِ ذي الرُّمَّةِ:
وَإِنْ تَعْتَذِرْ بالمَحل عَنْ ذِي ضُرُوعِهَا
إِلَى الضَيْفِ يَجْرَحُ فِي عَرَاقِيبهَا نَصْلي
قالَ الشَّيْخُ أبو حيَّانٍ الأَنْدَلُسِيُّ في تفسيرِهِ (البحرُ المُحيطُ): وَفي هذِهِ الآيَةِ، وَفي قَوْلِهِ تَعَالَى منْ سورة القَصَص: {واضمم إِلَيْكَ جَنَاحَكَ} الآية: 32، مَا يَرُدُّ عَلَى القاعِدَةِ المُقَرَّرَةِ فِي عِلْمِ النَّحْوِ: مِنْ أَنَّهُ لا يَتَعَدَّى فِعْلُ المُضْمَرِ المُتَصِّلِ إِلى ضَميرِهِ المُتَّصِلِ إِلَّا في بابِ "ظَنٍّ"، وَفِي لَفْظَتَيْ "فَقَدَ"، و "عَدِمَ"، لَا يُقالُ: ضَرَبْتَكَ وَلَا ضَرَبْتُني، أَيْ: ضَرَبْتَ أَنْتَ نَفْسَكَ وَضَرَبْتُ أَنَا نَفْسِي، وإِنَّما يُؤْتَى فِي هَذَا بِالنَّفْسِ، وَحُكْمُ المَجْرُورِ بالحَرْفِ حُكْمُ المَنْصُوبِ فَلا يُقالُ: هَزَزْتَ إِلَيْكَ، وَلَا زَيْدٌ هَزَّ إِلَيْهِ، وَلِذَلِكَ جَعَلَ النَّحْويُّونَ "عَنْ" وَ "على" اسْمَيْنِ فِي قَوْلِ امْرِئ القَيْسِ:
دَعْ عَنْكَ نَهْبًا صِيْحَ في حُجُراتِهِ ....... وَلَكِنْ حَديثًا مَا حَديثُ الرَّواحِلِ
وكذلكَ هي في قَوْلِ أَميرِ المُؤْمِنينَ عُمَرُ بنُ الخطابِ ـ رَضِيَ اللهُ تَعَالَى عَنْهُ:
فَهَوَّنْ عَلَيْكَ فَإنَّ الأُمُو ........................ رَ بِكفِّ الإلَهِ مَقَادِيرُهَا
فَلَيْسَ يَأتِيكَ مَصْرُوفُهَا ...................... ولا عَازِبٌ عَنْكَ مَقْدُورُها
وَقَدْ ثَبَتَ بِذَلِكَ كَوْنُهُما اسْمَيْنِ وذَلِكَ لِدُخُولِ حَرْفِ الجَرِّ عَلَيْهِما في قَوْلِ مُزاحمٍ العقيلي:
غَدَتْ مِنْ عَلَيْهِ بَعْدَمَا تَمَّ ظِمْؤُها ........ تَصِلُّ وَعَنْ قَيْضٍ ببَيْداءَ مَجْهَلِ
وقولِ الْقُطَامِيِّ:
فقُلْتُ للرَّكْبِ لَمَّا أَنْ عَلا بِهِمْ ........... مِنْ عَنْ يَمْينِ الحُبيَّا نظرةٌ قَبْلُ
وإمَّا "إِلَى" فَحَرْفٌ بِلا خِلافٍ، فَلَا يُمْكِنُ فِيها أَنْ تَكونَ اسْمًا كَ "عَنْ" و "على". ثُمَّ أَجابَ: بِأَنَّ "إِلَيْكَ" في الآيَتَيْنِ لَا تَتَعَلَّقُ بالفِعْلِ قَبْلَهُ، إِنَّما تَتَعَلَّقُ بِمَحْذوفٍ عَلَى جِهَةِ البَيَانِ، والتَّقديرُ: أَعْني إِلَيْكَ. قال: كمَا تَأَوَّلوا ذَلِكَ في قولِهِ مِنْ سورةِ الأعرافِ: {لَكُمَا لَمِنَ النَّاصِحينَ} الآية: 21، فِي أَحَدِ الأَوْجُهِ.
قالَ السَّمينُ الحَلَبِيُّ: وَفي ذَلِكَ جَوابانِ آخَرانِ، أَحَدُهُما: أَنَّ الفِعْلَ المَمْنُوعَ إِلَى الضَّميرِ المُتَّصِلِ إِنَّمَا هوَ حَيْثُ يَكونُ الفِعْلُ واقِعًا بِذَلِكَ الضَّميرِ، والضَّميرُ مَحَلٌّ لَهُ، نَحْوَ: "دَعْ عَنْكَ"، و "هَوِّنْ عَلَيْكَ"، وَأَمَّا الهَزُّ والضَّمُّ، فَلَيْسَا وَاقِعَيْنِ بالكافِ فَلا مَحْذورَ. والثاني: أَنَّ الكَلامَ عَلى حَذفِ مُضافٍ، والتقديرُ: هُزِّي إِلى جِهَتِكِ ونَحْوِكِ، واضْمُمْ إِلَى جِهَتِكِ ونَحْوِكَ. وَ "جِذْعِ" مَجرورٌ بِحَرْفِ الجَرِّ الزائد لفظًا، منصوبٌ مَحلًّا على أَنَّهُ مَفْعُولٌ بِهِ، وهو مُضافٌ. وَ "النَّخْلَةِ" مَجْرورٌ بالإضافةِ إِلَيْهِ.
قولُهُ: {تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَبًا جَنِيًّا} تُسَاقِطْ: فِعْلٌ مُضَارِعٌ مَجْزومٌ لأنَّهُ جوابُ الطَّلَبِ السَّابِقِ، وَفاعِلُهُ ضَميرٌ مُسْتترٌ فيِهِ جوازًا تقديرُهُ (هو) يَعُودُ عَلى "النَّخْلَةِ"؛ أَيْ: تُسْقِط. و "عَلَيْكِ" عَلَى: حرفُ جرٍّ مُتَعَلِّقٌ بِـ "تُسَاقِطْ"، وكافُ الخطابِ ضميرٌ متَّصِلٌ بِهِ في محلِّ الجرِّ بحرفِ الجَرِّ. و "رُطَبًا" مفعولٌ بِهِ مَنْصوبٌ، إن كان الفعلُ قبلَهُ مُتَعَدِّيًا. وَأَمَّا إِنْ كانَ لازمًا فَلَا يَخْرُجُ عَنْ كَوْنِهِ تَمْييزًا أَوْ حالًا مُوَطِّئَةً، وذلكَ بِرَدِّ كُلِّ شَيْءٍ إِلَى مَا يَلِيقُ بِهِ مِنَ القِراءَاتِ. وَجَوَّزَ أبو العبَّاسِ المُبَرِّدُ في نَصْبِهِ وَجْهًا غَريبًا: وَهوَ أَنْ يَكونَ مَفْعُولًا بِـ "هُزِّيْ" وعلى هذا فتكون المسألة من باب التنازع في بعض القراءات: وهي أَنْ يكونَ الفعلُ فيها متعدِّياً، وتكونَ المسألةُ من إعمالِ الثاني للحذف من الأول.
و "جَنِيًّا" صِفَةٌ لِـ "رُطَبًا" منصوبةٌ مثلها. والجُمْلَةُ جَوَابُ شَرْطٍ مُقَدَّرٍ غَيْرُ مُقْتَرِنَةٍ بالفاءِ، لا مَحَلَّ لَهَا مِنَ الإِعْرابِ، والتقديرُ: إِنْ تَهُزِّي تُساقِطْ.
قَرَأَ الجُمْهورُ: {تَسَّاقَطَ} بِفَتْحِ التَّاءِ وتَشْديدِ السِّينِ، وأَصْلُها "تَتَساقَطُ" بِتَاءَيْنِ، فأَدْغَمُوا التَّاءَ الثانيةَ في السِّيْنِ. وقَرَأَ حَمْزَةُ "تَسَاقَطَ" بِفَتْحِ التَّاءِ وَتَخْفيفِ السِّينِ، وَفَتْحِ القافِ، فَحَذَفَ إِحْدَى التَّاءَيْنِ تَخْفيفًا نَحْوَ: "تَنَزَّلُ" و "تَذَكَّرون"، وَقَرَأَ حَفْصُ "تُساقِط" بِضَمِّ التَّاءِ وَتَخْفيفِ السِّينِ وَكَسْرِ القافِ. مُضارِعُ "ساقَطَ". وَقَرَأَ الأَعْمَشُ والبَراءُ بْنُ عَازِبٍ "يَسَّاقَطْ" كالجَمَاعَةِ إِلَّا أَنَّهُ قرَأَ بالياءِ مِنْ تحتُ، وأَدْغَمَ التَّاءَ فِي السِّينِ، إِذِ الأَصْلُ: "يَتَساقَطُ" فَهُوَ مُضارِعُ "اسَّاقَطَ"، وَأَصْلُهُ يَتَساقَطُ، فَأُدْغَمَ وَاجِتُلِبَتْ هَمْزَةُ الوَصْلِ كما في: "ادَّارَأَ" في "تَدَارَأَ". وَنُقِلَ عَنْ أَبي حَيَوَةَ ثلاثُ قِراءاتٍ، الأُولى "تُسْقِط" بِضَمِّ التَّاءِ، وسُكونِ السِّينِ، وَكَسْرِ القافِ، مِنْ "أَسْقَطَ". وَقد وافَقَهُ مَسْرُوقٌ فِيها. والثانِيَةُ كَذَلِكَ إِلَّا أَنَّهُ قرأَ بالياءِ مِنْ تَحْتِ بَدَلَ التاءِ. والثالثة كَذَلِكَ إِلَّا أَنَّهُ رَفَعَ "رُطَبًا جَنِيًّا" على الفاعِلِيَّةِ. وَقُرِئَ "تَتَساقَطُ" بِتَاءَيْنِ مِنْ فَوْقُ، وَهُوَ أَصْلُ قِراءَةِ الجَمَاعَةِ. و "تَسْقُطُ"، و "يَسْقُطُ" بِفَتْحِ التَّاءِ والياءِ وَسُكونِ السِّينِ وَضَمَّ القافِ. فَرَفْعُ الرُّطَبَ بِالفاعِلِيَّةِ.
وَمَنْ قَرَأَ بالتَّاءِ مِنْ فوقُ، فالفِعْلُ مُسْنَدٌ: إِمَّا للنَّخْلَةِ، وَإِمَّا للثَّمَرَةِ المَفْهومَةِ مِنَ السِّياقِ، وَإِمَّا للجِذْعِ.
وقَدْ جَازَ تَأْنِيثُ فِعْلِهِ، وذلكَ لِإِضَافَتِهِ إِلى مُؤَنَّثٍ، فَهُوَ كَقَوْلِ أَعْشَى بني تميمٍ:
وتشْرَقُ بالْقَوْلِ الَّذي قد أَذَعْتُهُ ........ كما شَرقتْ صدْرُ القَنَاةِ مِنَ الدَّمِ
وكقراءَةِ منْ قَرَأَ فِي الآيةِ العاشِرةِ منْ سُورةِ يوسُف: {تَلْتَقِطْهُ بَعْضُ السَّيَّارَةِ}. وَأمَّا مَنْ قرَأَ بِالياءِ مِنْ تَحْتُ فالضَّميرُ للجِذْعِ، وَقِيلَ: للثَّمَرِ المَدْلولِ عَلَيْهِ بِالسِّياقِ.
قَرَأَ العامَّةُ: {جَنِيًّا} بفتحِ الجيمِ، وَقَرَأَ طَلْحَةُ بْنُ سُلَيْمانَ "جَنِيًّا" بِكَسْرِ الجَيمِ إِتْباعًا لِكَسْرَةِ النُّونِ