فَأَجاءَهَا الْمَخاضُ إِلى جِذْعِ النَّخْلَةِ قالَتْ يا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هذا وَكُنْتُ نَسْيًا مَنْسِيًّا
(23)
قولُهُ ـ تَعَالى شَأْنُهُ: {فَأَجاءَهَا الْمَخاضُ إِلى جِذْعِ النَّخْلَةِ} فَأَجاءَهَا: أيْ فَأَلْجَأَهَا الطَّلْقُ إِلَى جِذْعِ النَّخْلَةِ، فإِنَّ الفِعْل "أَجَاءَ" مَنْقُولٌ مَنْ "جَاءَ" إِلَّا أَنَّ اسْتِعْمَالَهُ قَدْ تَغَيَّرَ بَعْدَ النَّقْلِ إِلَى مَعْنَى الْإِلْجَاءِ، كَمَا تَقُولُ: (بَلَّغَنِي) وَ (أَبْلَغْتُهُ). وَنَظِيرُهُ الفِعْلُ "آتَى" حَيْثُ لَمْ يُسْتَعْمَلْ إِلَّا فِي الإِعْطاءِ، فَلَا يُقالُ: "أَتَيْتُ" المَكَانَ، وَ "آتانِيهُ" فُلانٌ. وَقالَ العُكْبُريُّ أَبُو البَقَاءِ: الأَصْلُ أَنْ يُقالَ: "جَاءَهَا"، ثُمَّ عُدِّيَ بالهَمْزَةِ إِلَى مَفْعولٍ ثَانٍ، فقيلَ "أَجاءَها"، واسْتُعْمِلَ بِمَعْنَى أَلْجَأَهَا. والأَصْلُ فِي الفعلِ "جاءَ" أَنْ يَتَعَدَّى بِنَفْسِهِ لِمَفْعُولٍ واحِدٍ، فإِذا دَخَلَتِ الهمزةُ عَلَيْهِ، اقْتَضَى القِياسُ أَنْ يَتَعَدَّى هذا الفعلُ لِمَفْعُولَيْنِ اثْنَيْنِ.
فَيُحْتَمَلُ أَنَّها لجَأَتْ إِلى جِزْعِ النَّخْلةِ لِتَسْتَتِرَ بِهَا مِنْ أَعيُنِ مَنْ تَخْشَاهُ عَلَى نَفْسِها ووَلِيدِها، وَلِذَلِكَ قالتْ: "يا لَيْتَني مِتُّ قَبْلَ هَذَا". وَيُحْتَمَلُ أَنَّها لَجَأَتْ إلِيها لِتَتَقَوى بِهَا، وَتَسْتَنِدِ إِلَيْهَا. وَيُحْتَمَلُ أَنَّهَا لجَأَتْ إِلَى النَّخْلَةِ لِلتَّشَبُّثِ بِهَا طَلَبًا لِسُهُولَةِ الْوِلَادَةِ.
وَ "المَخَاضُ" هُوَ أَلَمُ الوِلادَةِ وأَوجَاعُها، يُقالُ: تَمَخُّضُ الْوَلَدِ فِي بَطْنِ أُمِّهِ، إِذا تَحَرِّكَ مُخلِّفًا لَهَا أَلَمًا ومحدِثًا وَجَعًا، ويُقَالُ: مَخَضَتِ الْحَامِلُ مَخَاضًا وَمِخَاضًا، بفتْحِ الميمِ وكَسْرِها.
أَمَّا "جِذْعِ النَّخْلَةِ" فقد كَانَ يَابِسًا لَيْسَ لَهُ رَأْسٌ وَلَا خُضْرَةٌ وَلَا ثَمَرٌ، وَكَانَ الْوَقْتُ شِتَاءً، وَتَعْرِيفُ "النَّخْلَةِ" تَعْرِيفُ الْأَسْمَاءِ الْغَالِبَةِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى مِنْ سُورةِ النَّحْلِ: {وبِالنَّجْمُ هُمْ يَهْتَدونَ} الآية: 16، فَكَأَنَّ تِلْكَ النَّخْلَةَ كانتْ مَشْهُورةً عِنْدَهم، فَإِذَا قِيلَ: النَّخْلَةِ، فُهِمَ أَنَّها هيَ المَقْصودَةُ دُونَ سَائِرِ النَّخْلِ، وَيجوزَ أَنْ يَكُونَ تَعْرِيفَ الْجِنْسِ، أَيْ: إِلَى جِذْعِ هَذِهِ الشَّجَرَةِ خَاصَّةً. وَكَأَنَّ اللهَ ـ سُبْحانَهُ، أَرْشَدَهَا إِلَى النَّخْلَةِ لِيُطْعِمَهَا مِنْهَا الرُّطَبَ المُوَافَقَةَ لِلنُّفَسَاءِ، وَالنَّخْلَةُ لَا تُثْمِرُ إِلَّا عِنْدَ اللِّقَاحِ، لا سيَّما إِذَا قُطِعَتْ رَأْسُهَا فإنَّها لَنْ تُثْمِرَ البتَّةَ، وَكَأَنَّ اللهَ تَعَالَى أَرادَ أَنْ يُطَمْئِنَ قلبَها بمُعْجزَةٍ أُخْرَى شبيهةٍ لِمُعْجِزَتِها، لِيَقَولَ لها: كَمَا أَنَّ الْأُنْثَى لَا تَلِدُ إِلَّا بِلِقاحِ الذَّكَرِ، فَكَذَلكَ النَّخْلَةُ لَا تُثْمِرُ إِلَّا باللِّقَاحِ، ففي هَذِهِ الرُّطَبِ التي أَطْعمتُكِ مِنْ غَيْرِ اللِّقَاحِ دليلٌ عَلَى جَوَازِ الْوَلَدِ مِنْ غَيْرِ ذَكَرٍ. فَكَمَا جعلتُ هذِهِ النَّخْلةَ تُثْمِرُ دونَ لقاحٍ، كذلكَ أنتِ تثمرينَ دونَ لقاحٍ. وفيهِ إِشارَةٌ إِلى أَنَّ وَلَدَهَا نَافِعٌ كهذِه الرُّطَبِ، وأَنَّهُ سَيُحْيِ الأَمْواتَ، كَمَا أَحْيا اللهُ بِسَبَبِهِ المَوَاتَ، واللهُ أَعْلمُ.
وَقالَ تَعَالَى ههُنا: {فأَجاءَها المَخاضُ}، وقالَ في الآيَةِ: 22، السابِقَةِ: {فَحَمَلَتْهُ فَانْتَبَذَتْ بِهِ}، وَقَالَ في الآيةِ: 24: {فَناداها مِنْ تَحْتِها}، فَدَلَّتْ هَذِهِ الْفَاءَاتُ الثلاثةُ عَلَى أَنَّ كُلَّ حَالٍ مِنْ هَذِهِ الْأَحْوَالِ حَصَلَ عَقِيبَ الْآخَرِ مِنْ غَيْرِ فَاصْلٍ بَيْنَهَا لأَنَّ الْفَاءَ تُفيدُ التَّعْقِيبَ، إذًا فإِنَّ مُدَّةَ الْحَمْلِ والوضْعِ لا تَزيدُ عَلَى سَاعَةً وَاحِدَةً. لأَنَّ اللهَ قَالَ فِي الآيةِ: 59، منْ سُورةِ آلِ عِمْرانَ: {إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللهِ كَمَثَلِ آدَمَ، خَلَقَهُ مِنْ تُرابٍ، ثُمَّ قالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} فَوَضَحَ أَنَّ عِيسَى ـ عَلَيْهِ الصلاةُ وَالسَّلَامُ، قَالَ لَهُ اللهُ تَعَالَى: "كُنْ" فَكانَ، وَهَذَا مِمَّا لَا يُتَصَوَّرُ فِيهِ طُولُ مُدَّةِ الْحَمْلِ والوَضْعِ ـ كَمَا جاءَ في بعضِ الرواياتِ.
قولُهُ: {قالَتْ يا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَذَا} أَيْ: قَبْلَ أَنْ يَحْدُثَ مَعِي مَا حَدَثَ. قالَتْ ذلكَ مَعَ مَا جَرَى بَيْنَهَا وَبَيْنَ جِبْريلَ ـ عَلَيْهِ السَّلامُ، مِنْ كَريمِ الوَعْدِ اسْتِحْياءً مِنَ النَّاسِ، وَخَوْفًا مِنْ لَوْمِهمْ، وجَرْيًا عَلى سَنَنِ الصَّالِحينَ عِنْدَ اشْتِدادِ الأَمْرِ عَلَيْهِمْ، فقَدَ رُوِيَ عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَامِرِ بْنِ رَبِيعَةَ، عَنْ أَبِيهِ: أَنَّ أَمِيرَ المُؤْمِنينَ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ ـ رَضِيَ اللهُ تعالى عنْهُ، أَخَذَ تِبْنَةً مِنَ الْأَرْضِ، فَقَالَ: (يَا لَيْتَنِي هَذِهِ التِّبْنَةُ، يَا لَيْتَ أُمِّي لَمْ تَلِدْنِي، يَا لَيْتَنِي كُنْتُ نَسْيًا مَنْسِيًّا، يَا لَيْتَنِي لَمْ أَكُنْ شَيْئا يُذْكَرُ). رَوَاهُ عبدُ اللهِ بْنُ المُبَارَكِ فِي "الزُّهْدِ" ص: (79/234)، وَابْنُ أَبي شَيْبَةَ فِي "المُصَنَّفِ": (7/117، رقم: 34469)، والبَيْهَقِيُّ فِي "شُعَبِ الإيمانِ": (1/486، رقم: 789).
وأَخْرَجَ البَيْهَقِيُّ أَيْضًا في (المُعْجَمُ الكَبيرُ) بإسْنادٍ حَسَنٍ: عَنْ طَلْحَةَ بن مُصَرِّفٍ، أَنَّ أميرَ المُؤْمِنينَ عَلِيًّا ـ رَضِيَ اللهُ تعالى عَنْهُ، انْتَهَى إِلَى طَلْحَةَ بن عُبَيْدِ اللهِ وَقَدْ مَاتَ، فَنَزَلَ عَنْ دَابَّتِهِ وَأَجْلَسَهُ، فَجَعَلَ يَمْسَحُ الْغُبَارَ عَنْ وَجْهِهِ وَلِحْيَتِهِ، وَهُوَ يَتَرَحَّمُ عَلَيْهِ، وَيَقُولُ: (لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَذَا الْيَوْمِ بِعِشْرِينَ سَنَةً). وأَخْرَجَ أيضًا بإسْنادٍ جيِّدٍ، عَنْ قَيْسِ بْنِ عَبَّادٍ، قَالَ: سَمِعْتُ عَلِيًّا ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، يَوْمَ الْجَمَلِ، يَقُولُ لابْنِهِ حَسَنٍ ـ رَضِيَ اللهُ عنهُ: يَا حَسَنُ، (وَدِدْتُ أَنِّي كُنْتُ مِتُّ مُنْذُ عِشْرِينَ سَنَةً). ومثلُهُ رُوِيَ عَنْ بلالٍ بْنِ رباحٍ الحَبَشِيِّ ـ رَضِيَ اللهُ تعالى عنهُ، أَنَّهُ قالَ: (لَيْتَ بِلالَ لَمْ تَلِدْهُ أُمُّهُ). إذًا فقد ثَبَتَ أَنَّ هَذَا الْكَلَامَ يَذْكُرُهُ الصَّالِحُونَ عِنْدَ اشْتِدَادِ الْأَمْرِ عَلَيْهِمْ. ثمَّ لَعَلَّهَا قَالَتْهُ كَيْ لَا تَقَعَ الْمَعْصِيَةُ مِمَّنْ يَتَكَلَّمُ فِيهَا، خوفًا عَلَيْهم، وَإِلَّا فَقدْ كانتْ رَاضِيَةً بِمَا بُشِّرَتْ بِهِ.
قولُهُ: {وَكُنْتُ نَسْيًا مَنْسِيًّا} تَمَنَّتْ العذْراءُ ـ عَلَيْها السَّلامُ، لَوْ أَنَّها كَانَتْ مِمَّنْ لَا يَؤْبَهُ بِهِ، فَـ "النِّسْيُ" مَا مِنْ حَقِّهِ أَنْ يُنْسَى ويُتْرَكَ فلا يُؤْبَهُ لَهُ. وقالَ قَتَادَةُ ـ رَضِيَ اللهُ عنهُ: شَيْئًا لا يُعْرَفُ وَلَا يُذْكَرُ. وقالَ عِكْرِمَةُ والضَّحَّاكُ ومُجاهِدٌ ـ رَضِيَ اللهُ عنهُم: جِيفَةً مُلْقَاةً. وَقِيلَ: تَعْنِي ليتَني لَمْ أُخْلَقْ. كَ "الذِّبْحِ" وهو مَا مِنْ حقِّهِ أَنْ يُذْبَحَ، قَالَ تَعَالى مِنْ سُورةِ الصَّافَّاتِ: {وَفَدَيْناهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ} الآية: 107.
قولُهُ تَعَالى: {فَأَجاءَهَا الْمَخاضُ إِلى جِذْعِ النَّخْلَةِ} الفاءُ: للعَطْفِ والتَّعْقيبِ، وَ "أَجاءَهَا" فِعْلٌ ماضٍ مَبْنِيٌّ عَلى الفَتْحِ، و "هَا" ضميرٌ متَّصِلٌ بِهِ مبنيٌّ عَلَى السُّكونِ في محلِّ النَّصْبِ مفعولٌ بِهِ. و "الْمَخاضُ" فاعِلُهُ مَرْفوعٌ بِهِ. وَ "إلى" حَرْفُ جَرٍّ مُتَعَلِّقٌ بـ "أَجاءَ"، في قراءة العامَّة، أَيْ: سَاقَهَا إِلَيْهِ. وفي قراءةِ حَمَّادِ بْنِ سلمةَ يتعلَّقُ بِمَحْذوفٍ على أَنَّهُ حالٌ مِنَ المَفْعولِ، أَيْ: "فَاجَأَها" مُسْتَنِدَةً إِلَى جِذْعِ النَّخْلةِ. وَ "جَزْعِ" مَجْرُورٌ بِحَرْفِ الجرِّ، وهو مُضافٌ. و "النَّخْلَةِ" مجرورٌ بالإضافةِ إِليْهِ. والجملةُ معطوفةٌ على جُمْلَةِ {فانتبذتْ} عَلى كونِها مَعْطوفَةً عَلى جُمْلَةٍ مُقَدَّرَةٍ مُسْتَأْنَفَةٍ لَا مَحَلَّ لَهَا مٍنَ الإعْرابِ.
قولُهُ: {قالَتْ يا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هذا} قَالَتْ: فِعْلٌ ماضٍ مبنيٌّ على الفتْحِ، والتاءُ السَّاكِنَةُ لِتَأْنيثِ الفاعِلِ. وفاعِلُهُ ضَمِيرٌ مُسْتترٌ فيهِ جوازًا تقديرُهُ (هي) يَعودُ عَلى مَرْيَمَ ـ عليها السَّلامُ، والجُمْلَةُ الفعليَّةُ هذِه مُسْتَأْنَفَةٌ لا محلَّ لها مِنَ الإعرابِ. و "يَا لَيْتَنِي" يَا: حَرْفُ نِداءٍ، ومُناداهُ مَحذوفٌ، والتقديرُ: يَا هؤلاءِ، أَوْ يا مُخَاطَبُ، ويجوزُ أنْ يكونَ لِمُجَرَّدِ التَنْبِيهِ، و "ليتني" ليت" حَرْفٌ ناصِبٌ ناسخٌ مُشبَّهٌ بالفعلِ للتَمَني. والنُّونُ: للوِقايَةِ، والياءُ: ضَمِيرُ المُتمَنِّي اسُمُها في محلِّ النَّصبِ. و "مِتُّ" فِعْلٌ ماضٍ مبنيٌّ عَلى السُّكونِ لاتِّصالِهِ بضميرِ رفعٍ متحرِّكٍ هو تاءُ الفاعِلِ، وتاءُ الغاعِلِ ضميرٌ متَّصِلٌ بِهِ مبنيٌّ على الضمِّ في محلِّ الرفعِ بالفاعليَّةِ. و "قَبْلَ" منصوبٌ على الظرْفيَّةِ الزمانيَّةِ، متعلق بـ "مِتُّ"، مضافٌ، و "هَذَا" الهاءُ: للتنبيهِ، و "ذا" اسمُ إشارةٍ مبنيٌّ على السُّكونِ في محلِّ الجرِّ بالإضافةِ إِلَيْهِ. وجُمْلَةُ "مِتُّ" الفعليَّةُ هذِهِ في مَحَلِّ الرَّفْعِ خَبَرُ "ليْتَ" وَجُمْلَةُ "لَيْتَ" فِي مَحَلِّ النَّصْبِ مَقولُ "قالت".
قوْلُهُ: {وَكُنْتُ نَسْيًا مَنْسِيًّا} الواوُ: للعَطْفِ، وَ "كُنْتُ" فِعْلٌ ماضٍ ناقصٌ، مبنيٌّ على السكونِ لاتِّصالِهِ بضميرِ رفعٍ متحرِّكٍ هو تاءُ الفاعِلِ، والتاءُ: ضميرٌ متَّصِلٌ بِهِ في محلِّ الرَّفعِ اسْمُهُ. و "نَسْيًا" خَبَرُهُ منصوبٌ بِهِ. و "مَنْسِيًّا" خَبَرٌ ثانٍ لِـ "كان" مُؤْكِّدًا للأوَّلِ. لِأَنَّهُ بِمَعْناهُ، ويجوزُ أَنْ يُعْرَبَ نَعْتًا لَهُ عَلَى المُبالَغَةِ، وَأَصْلُهُ "مَنْسُوْي" فَأُدْغم. والجُمْلَةُ مَعْطوفَةٌ عَلَى جملةِ "مِتُّ" على كونِها في محلِّ الرَّفعِ على الخبريَّةِ.
قرأَ الجمهورُ: {فَأَجَاْءَها}، أَي: أَلْجأها وساقَها، ومِثْلُهُ قَوْلُ زُهَيْرِ بْنِ أَبي سُلْمَى:
وجارٍ سارَ مُعْتَمِدًا إِليكم ...................... أَجَاْءَتْهُ المَخافةُ والرَّجاءُ
وَقَرَأَ حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ "فاجَأَها" بِأَلِفٍ بَعْدَ الفاءِ وَهَمْزَةٍ بَعْدَ الجيمِ، مِنَ المُفاجأَةِ، بِزِنَةِ قَابَلَهَا. وَقُرِأُ "فاجاها" بِأَلِفَينِ صَريحَتَيْنِ كَأَنَّهم خَفَّفوا الهَمْزَةَ بَعدَ الجيمِ، ورُوِيَتْ بَيْنَ بَيْنَ.
قَرَأَ الجُمْهورُ: {المَخاضُ} بِفَتْحِ المِيمِ. وَرُوِيَ عَنِ ابْن ِكَثِيرٍ أَنَّهُ قرَأَ "المِخاضُ" بِكَسْرِها، فَقِيلَ: هُمَا بِمَعْنَى واحدٍ. وَقِيلَ: مَفْتُوحُ المِيمِ اسْمُ مَصْدرٍ ك "العَطاء" و "السَّلام"، وَمَكْسُورُها مَصْدَرٌ ك "القِتَالِ" و "اللِّقاءِ"، و "الفِعال" فقد جاءَ مِنْ واحِدٍ ك "العِقابِ". والمِيمُ أَصْلِيَّةٌ لأَنَّهُ مِنْ تَمَخَّضَتِ الحامِلُ تَتَمَخَّضُ.
قَرَأَ الجمهورُ: {يا لَيْتَني مِتُّ}، بِكَسْرِ المِيمِ، فهوَ مِنْ الثلاثيِّ: "ماتَ"، "يَمَاتُ"، كَ "خافَ"، "يَخافُ"، أَوْ مِنْ "مَاتَ"، "يَمِيتُ" كَ "جاءَ"، "يَجَيءُ". وَقَرَأَ ابْنُ كَثيرٍ، وَأَبو عَمْرٍو بْنُ العلاءِ، وَابْنُ عامِرٍ، وأَبُو بَكْرٍ ابْنُ الأَنْبَارِيِّ، ويَعْقوبُ: "مُتُّ" بِضَمِّها، مِنْ "مَاتَ"، "يَمُوتُ"، ك "قال"، "يَقولُ".
قرأَ الجُمْهورُ: {نِسْيًا} بِكَسْرِ النُّونِ وسُكونِ السِّينِ، وَبِصَريحِ الياءِ بعدَها. وَقَرَأَ حَمْزَةُ، وَحَفْصٌ، ويَحْيَى ابْنُ وَثَّابٍ، وَالْأَعْمَشُ: "نَسْيًا" بِفَتْحِ النُّونِ، فالمَكْسورُ فِعْلُ بِمَعْنَى مَفْعولٍ ك "الذَّبْحِ"، و "الطَّحْن"، وَمَعْنَاهُ الشَّيْءُ الحَقيرُ الذي مِنْ شَأْنِهِ أَنْ لا يُذْكَرَ، كَالوَتِدِ، والحَبْلِ، وخِرْقةِ الطَّمْثِ وَنَحْوِ ذَلِكَ. قَالَ الْفَرَّاءُ: هُمَا لُغَتَانِ كَ "الْوَتْرِ" وَ "الْوِتْرِ"، وَ "الْجَسْرِ" وَ "الْجِسْرِ"، وَقَرَأَ مُحَمَّدُ بْنُ كَعْبٍ القرْظِيِّ "نَسيئًا" بالهَمْزَةِ، وهوَ الحَليبُ المَخْلوطُ بالماءِ، يَنْساهُ أَهْلُهُ لِقِلَّتِهِ، وَقَرَأَ الْأَعْمَشُ مِنْسِيًّا بِالْكَسْرِ عَلَى الإِتْباعِ، واللهُ أَعْلَمُ.
قالَ ابْنُ الأَنْبَارِيِّ: مَنْ كَسَرَ فهُوَ اسْمٌ لِمَا يُنْسَى ك "النَّقْص" اسْمٌ لِمَا يَنْقُصُ، والمَفْتُوحُ مَصْدَرٌ يَسُدُّ مَسَدَّ الوَصْفِ. وقالَ الفَرَّاءُ: هُمَا لُغَتَانِ ك "الوَتْر" و "الوِتْر"، الكَسْرُ أَحَبُّ إليَّ.
وَقَرَأَ مُحَمَّدُ بْنُ كَعْبٍ القَرَظِيُّ، "نِسْئًا" أَيْضًا، بِكَسْرِ النُّونِ، والهَمْزَةُ بَدَلُ الياءِ. وَرُوِيَ عَنْهُ أَيْضًا، وعَنْ بَكْرِ بْنِ حَبيبٍ السَّهْمِيِّ فَتَحٌ مَعَ الهَمْزِ. قالوا: وهوَ مِنْ نَسَأْتُ اللَّبَنَ إِذا صَبَبْتَ فيه ماءً فاستُهْلِك فيه، فالمكسورُ أَيْضًا كَذَلِكَ الشَّيْءُ المُسْتَهْلَكُ، والمَفْتُوحُ مَصْدَرٌ كَمَا كَانَ ذَلِكَ مِنَ النِّسْيانِ.
ونَقَلَ ابْنُ عَطِيَّةَ عَنْ بَكْرِ بْنِ حَبيبٍ "نَسَا" بِفَتْحِ النُّونِ وَالسِّينِ، والقَصْرِ، ك "عَصَا"، كَأَنَّهُ جَعَلَ "فَعَلَ" بِمَعْنَى مَفْعُولٍ: ك "القَبَضِ" بِمَعْنَى المَقْبُوض.
وَقَرَأَ أَبو جَعْفَرٍ النَّحَّاسُ، وَالأَعْمَشُ "مِنْسِيًّا" بِكَسْرِ المِيمِ للإِتْباعِ لِكَسْرَةِ السِّينِ، وَلَمْ يَعْتَدُّوا بِالسَّاكِنِ لِأَنَّهُ حاجزٌ غَيْرُ حَصِينٍ كَما يقولون: "مِنْتِن" و "مِنْخِر".