قُلْ لَوْ كانَ الْبَحْرُ مِداداً لِكَلِماتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِماتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنا بِمِثْلِهِ مَدَدًا (109)
قولُهُ ـ تَعَالى شأْنُهُ: {قُلْ لَوْ كانَ الْبَحْرُ مِدادًا لِكَلِماتِ رَبِّي} رَدٌّ لعَجُزِ السُّورَةِ عَلَى صَدْرِهَا، فإِنَّهُ لَمَّا ابْتُدِأَتْ هَذِهِ السُّورَةُ بِالتَّنْوِيهِ بِشَأْنِ الْقُرْآنِ العَظِيمِ، ثُمَّ أُفِيضَ فِيهَا بِأَفَانِينِ الهِدايَةِ والْإِرْشَادِ، وَالْإِنْذَارِ والبِشارَةِ، وَالْوَعْدِ وَالْوَعِيدِ، وَحُكِيَ فِيهَا مِنْ أَحْسَنِ الْقَصَصِ مَا فِيهِ الحِكْمَةُ وَالعِبْرَةُ وَالمَوْعِظَةُ الحَسَنةُ، وَمَا خَفِيَ عَنِ النَّاسِ مِنْ أَخْبَارِ الْأُمَمِ السَّالِفَةِ البائدةِ وَأَحْوَالِها. ثُمَّ أُمِرَ سيِّدُنا رَسولُ اللهِ ـ صلَّى اللهُ عليْهِ وسلَّمَ، بِهَذِهِ الآيةِ الكريمةِ بِأَنْ يُبَيِّنَ لِلنَّاسِ أَنَّ كُلَّ ذَلِكَ إِنَّما هُوَ نَذْرٌ يَسِيرٌ جَزْءٌ قَلِيلٌ، مِنْ جَمٍّ عَظِيمٍ كَثِيرٍ جَلَّ أَنْ يُحْصَى أَوَ يُعَدَّ أَوْ يُحْصَرَ أَ يُحاطَ بِهِ مِنْ عِلْمِ اللهِ ـ تَبَارَكَ وتَعَالَى.
وَ "مِدَادًا" مَعْنَى المِدَادِ فِي اللُّغَةِ: المَجِيءُ شَيْئًا بَعْدَ شَيْءٍ عَلَى اتِّصَالٍ، وَهُوَ اسْمٌ لِكلِّ مَا يُمَدُّ بِهِ، فَكُلُّ مَا مُدَّ بِهِ الشَّيْءُ، مِدادٌ لَهُ، أَيْ يُزَادُ لهُ بِهِ عَلَى مَا لَدَيْهِ مِنْ قَبْلُ. فَهُوَ منَ "المَدِّ" أَيِ: الإِضافَةُ وَالزَّيادَةُ، وَلَيْسَ الْمَقْصُودُ تَشْبِيهُ ماءِ البَحْرِ بِالْحِبْرِ وَإِنَّمَا قُصِدَ هُنَا أَنَّ مِثْلَهُ مِنْ هَذا الوَجْهِ، وَمِنْهُ يُقالُ للزَّيْتِ الذي يُوقَدُ بِهِ السِّراجُ: مِدَادٌ. قَالَ الشَّاعِرُ غِياثُ بْنُ غَوْثِ بْنِ الصَّلْتِ التَغْلِبِيِّ المُلَقَّبُ بِالأَخْطَلُ:
رَأَوْا بَارِقاتٍ بِالأَكُفِّ كَأَنَّها ............... مَصَابيحُ سُرْجٍ أُوقِدَتْ بِمِدادِ
أَيْ: أُوقِدَتْ بِزَيْتٍ يُمْدُّها. وَقالَ ابْنُ الأَنْبَارِيِّ: (سُمِّيَ المِدَادُ مِدَادًا لإِمْدادِهِ الكاتِبَ) انْظُرْ: "تَهْذيبُ اللُّغَةِ" للأَزْهَرِيِّ: (4/3361)، وَتفسيرَ "زَادَ المَسيرِ" لابْنِ الجَوْزِيِّ (5/201)، وَتَفْسيرَ "مَجْمَعُ البَيَانِ" للطَبَرِيِّ: (6/770). وأَصْلُ هَذَا مِنَ الزِّيادَةِ والكَثْرَةِ، وَهُوَ مِنْ قَوْلِهم: مَدَّ النَّهْرُ إِذَا كَثُرَ مَاؤُهُ وَمَدَّهُ نَهْرٌ آخَرُ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالى مِنْ سُورَةِ لُقْمانَ: {وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ} الآيَةَ: 27، وَقالَ مُجَاهِدٌ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: (لَوْ كانَ البَحْرُ مِدادًا للقَلَمِ، وَالقَلَمُ يَكْتُبُ، لَنَفِدَ البَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِماتُ رَبِّي). وَقالَ ابْنُ عَبَّاسٍ ـ رَضِيَ اللهُ عنْهُما: (يُريدُ أَنَّ كَلِماتِهِ أَعْظَمُ مِنْ أَنْ يَكونَ لَهَا أَمَدٌ).
والْمِدَادُ يُطْلَقُ عَادَةً عَلَى الحِبْرِ الذي يُسْتَعْمَلُ في الكِتَابَةِ، لِأَنَّهُ تُمَدُّ بِهِ الدَّوَاةُ، أَيْ يُمَدُّ بِهِ مَا كَانَ فِيهَا مِنْ نَوْعِهِ، كَمَا يُطْلَقُ أَيضًا عَلَى الزَّيْتِ الَّذِي يُمَدُّ بِهِ السِّرَاجُ المُسْتعمَلُ في الإِنارَةِ ـ كَمَا تقدَّمَ، وَقَدْ غَلَبَ إِطْلَاقُهُ عَلَى الْحِبْرِ، رُبَّما لأَنَّهُ الأَكْثَرُ اسْتِعْمالًا. وَهُوَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ يَحْتَمِلُ الْمَعْنَيَيْنِ مَعًا، الكتابةَ والإِنارَةَ، وعَلَيْهِ فَإنَّ الْآيَةَ تَتَضَمَّنُ اسْتِعارتَيْنِ مَكْنِيَّتَيْنِ عَلَى هَذَينِ الِاحْتِمَالَيْنِ.
وَ "لكَلِمَاتِ رَبِّي" أَيْ: شَيْءٌ مِنْ عِلْمِهِ ـ سُبْحانَهُ وَتَعَالَى، يُوحِي بِهِ إِلَى رُسُلِهِ ـ عَلَيْهِمُ السَّلامُ، سَوَاءً بِوِسَاطَةِ مَلَكٍ، وَهُوَ فِي الغَالِبِ جِبْريلُ ـ عَلَيْهِ السَّلامُ، أَوْ بِلَا وَاسِطَةٍ، وَرُبَّما يَأْمُرُهم أَنْ يُبَلِّغُوهُ للنَّاسِ، وربَّما لَا يُؤْمَرُونَ بِذَلِكَ فَيَبْقَى خاصًّا بِهِمْ وَسِرًّا بَيْنَهم وَبَيْنَ سَيِّدِهمْ وَمَوْلاهُمْ ـ جَلَّ وعَزَّ. فقد أَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبي حَاتِمٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ ـ رضِيَ اللهُ عنْهُ، فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: "قُلْ لَوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدادًا لِكَلِمَاتِ رَبِّي" يَقُولُ: عِلْمُ رَبِّي.
وَهَذِهِ الْمَعْلُومَاتُ يُطْلَقُ عَلَيْها "كَلِمَاتٌ"، وَإِطْلَاقُ الْكَلِمَاتِ عَلَيْهَا مَجَازٌ بِعَلَاقَةِ الْمَآلِ، وكُلُّ مَعْلُومٍ يُمْكِنُ أَنْ يُخْبَرَ بِهِ. فَإِذَا أُخْبِرَ بِهِ صَارَ كَلِمَةً، وَقَدْ أَخْبَرَ اللهُ رُسُلَهُ ـ صلَواتُ اللهِ عَلَيْهِمْ وسَلامُهُ، الكَثِيرَ مِنْ هَذِهِ المَعْلوماتِ، وَلَوْ شَاءَ لَأَخْبَرَهم بِغَيْرِهَا أَيْضًا.
وَلَمَّا كَانَ مِنْ شَأْنُ مَا يُخْبِرُ اللهُ بِهِ أَحَدًا مِنْ رُسُلِهِ، ويُجْريهِ عَلَى لِسَانِهِ أَنْ يُكْتَبَ حِرْصًا عَلَى بَقَائِهِ فِي الْأُمَّةِ، شُبِّهَتْ مَعْلُومَاتُ اللهِ الْمُخْبَرُ بِهَا، وَالْمُطْلَقُ عَلَيْهَا كَلِمَاتٌ بِالْمَكْتُوبَاتِ، وَرُمِزَ إِلَى الْمُشَبَّهِ بِهِ بِمَا هُوَ مِنْ لَوَازِمِهِ وَهُوَ الْمِدَادُ الَّذِي بِهِ الْكِتَابَةُ عَلَى طَرِيقَةِ الْمَكْنِيَّةِ، وَإِثْبَاتُ الْمِدَادِ تَخْيِيلٌ كَتَخَيُّلِ الْأَظْفَارِ لِلْمَنِيَّةِ. فَيَكُونُ مَعنى هَذِهِ الآيةِ مِثْلَ معنى قَوْلِهِ تَعَالَى مِنْ سُورةِ لُقْمان: {وَلَوْ أَنَّما فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَا نَفِدَتْ كَلِماتُ اللهِ إِنَّ اللهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} الآيةَ: 27، فَإِنَّ ذِكْرَ الْأَقْلَامِ إِنَّمَا يُنَاسِبُ الْمِدَادَ بِمَعْنَى الْحِبْرِ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ هُنَا تَشْبِيهُ كَلِمَاتِ اللهِ بِالسِّرَاجِ الْمُضِيءِ، لِأَنَّهُ يَهْدِي إِلَى الْمَطْلُوبِ، كَمَا شُبِّهَ نُورُ اللهِ تَعَالَى وَهَدْيُهُ بِالْمِصْبَاحِ فِي قَوْلِهِ مِنْ سُورةِ النُّور: {مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكاةٍ فِيها مِصْباحٌ} الآيَةَ: 35، وَيَكُونُ الْمِدَادُ تَخْيِيلًا بِالزَّيْتِ الَّذِي يُمَدُّ بِهِ السِّرَاجُ عادةً. وَاللَّامُ هُنا لِلتَعْليلِ، أَيْ: لِأَجْلِ كَلِمَاتِ رَبِّي. وَثَمَّةَ مُضَافٌ مَحْذُوفٍ، أَيْ: لِكِتَابَةِ كَلِمَاتِ رَبِّي، إِذِ المُرَادُ بالْمِدَادِ الْكِتَابَةُ، وَلَيْسَ الْبَحْرُ مِمَّا يُكْتَبُ بِهِ، وَلَكِنَّ الْكَلَامَ بُنِيَ بِوِسِاطَةِ "لَوْ" عَلَى الْمَفْرُوضِ.
قولُهُ: {لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِماتُ رَبِّي} النَّفَادُ: الْفَنَاءُ وَالِاضْمِحْلَالُ والتَّلاشي، وَنَفَادُ الْبَحْرِ مُمْكِنٌ عَقْلًا، وَأَمَّا نَفَادُ كَلِمَاتِ اللهِ ـ بِمَعْنَى تَعَلُّقَاتِ عِلْمِهِ فَمُسْتَحِيلٌ، فَلَا يُفْهَمُ مِنْ تَقْيِيدِ نَفَادِ كَلِمَاتِ اللهِ بِقَيْدِ الظَّرْفِ، وَهُوَ قَبْلَ إِمْكَانُ نَفَادِ كَلِمَاتِ اللهِ، وَلَكِنْ لَمَّا بُنِيَ الْكَلَامُ عَلَى الْفَرْضِ وَالتَّقْدِيرِ بِمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ "لَوْ" كَانَ الْمَعْنَى: لَوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِكَلِمَاتِ رَبِّي، وَكَانَتْ كَلِمَاتُ رَبِّي مِمَّا يَنْفَدُ لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي. فَقَدْ أَخْرَجَ ابْنُ أَبي حَاتِمٍ عَنْ قَتَادَةَ ـ رَضِيَ اللهُ عنَهُ، فِي قَوْلِهِ تعالى: "قُلْ لَوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدادًا لِكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفَدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي" يَقُولُ: يَنْفَدُ مَاءُ الْبَحْرِ قَبْلَ أَنْ يَنْفَدَ كَلَامُ اللهِ وَحِكْمَتُهُ. وَأَخْرَجَ أَحْمَدُ فِي الزُّهْدِ عَنْ أَبي البَخْتَرِيِّ الطَّائِيُّ مَوْلاَهُمْ سَعِيْدُ بْنِ فَيْرُوْزَ، قَالَ: صَحِبَ سَلْمَانَ الفارِسِيَّ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، رَجُلٌ لِيَتَعَلَّمَ مِنْهُ، فَانْتَهَى إِلَى دِجْلَةَ وَهِيَ تَطْفَحُ، فَقَالَ لَهُ سَلْمَانُ: انْزِلْ فَاشْرَبْ، فَشَرِبَ. قَالَ لَهُ: ازْدَدْ، فازْدادَ. قَالَ: كَمْ نَقَصْتَ مِنْهَا؟ قَالَ: مَا عَسَى أَنْ أَنْقُصَ مِنْ هَذِهِ؟ قَالَ سَلْمَانُ: فَكَذَلِك الْعِلْمُ تَأْخُذُ مِنْهُ وَلَا تَنْقُصُهُ. وفِي هَذِهِ الجُمْلَةِ الكَريمَةِ دَلِيلٌ لِإِثْبَاتِ الْكَلَامِ النَّفْسِيِّ للهِ تَعَالى، وَلِإِثْبَاتِ التَّعَلُّقِ الصُّلُوحِيِّ لِصِفَةِ العِلْمِ. وَالكَلامُ: صِفَةٌ قَديمُةٌ أَزليَّةٌ قائمةٌ بِذَاتِهِ العَلِيَّةِ، منزَّهَةٌ عَنِ العِلَّةِ والغايَةِ. وَفي هَذَا الْكَلَامُ هُنَا كِنَايَةٌ عَنْ عَدَمِ تَنَاهِي مَعْلُومَاتِ اللهِ تَعَالَى الَّتِي مِنْهَا تِلْكَ الْمَسَائِلُ الثَّلَاثُ الَّتِي سَأَلُوا النَّبِيَّ ـ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ، عَنْهَا، فَلَا يَقْتَضِي قَوْلُهُ: "قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِماتُ رَبِّي" أَنَّ لِكَلِمَاتِ اللهِ تَعَالَى نَفَادًا البَتَّةَ.
قولُهُ: {وَلَوْ جِئْنا بِمِثْلِهِ مَدَدًا} لو: وَصْلِيَّةٌ، وَهِيَ الدَّالَّةُ عَلَى حَالَةٍ هِيَ أَجْدَرُ الْأَحْوَالِ بِأَنْ لَا يَتَحَقَّقَ مَعَهَا مُفَادُ الْكَلَامِ السَّابِقِ فَيُنَبَّهُ السَّامِعُ عَلَى أَنَّهَا مُتَحَقِّقٌ مَعَهَا مُفَادُ الْكَلَامِ السَّابِقِ، وَالجُمْلَةُ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ.
قِيلَ في سَبَبِ النُّزُولِ: أَنَّ هذِهِ الآيةَ نَزَلَتْ لِأَجْلِ قَوْلِ الْيَهُودِ لرَسُول الله ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ، كَيْفَ تَقُولُ، أَيْ فِي سُورَةِ الْإِسْرَاءِ {وَما أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا} وَقَدْ أُوتِينَا التَّوْرَاةَ، وَمَنْ أُوتِيَ التَّوْرَاةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا.
وَأَخرَجَ التِّرْمِذِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ـ رَضِيَ اللهُ عنهُما: أَنَّ حُيَيَّ بْنَ أَخْطَبَ الْيَهُودِيُّ قَالَ: فِي كِتَابِكُمْ {وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا} الآيةَ: 269، مِنْ سورةِ الْبَقَرَة، ثُمَّ تَقْرَؤونَ: {وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا}، فَنَزَلَ قَوْلُهُ تَعَالَى: "قُلْ لَوْ كانَ الْبَحْرُ مِدادًا لِكَلِماتِ رَبِّي".
قولُهُ تعالى: {قُلْ لَوْ كانَ الْبَحْرُ مِدادًا لِكَلِماتِ رَبِّي} قُلْ: فِعْلُ أَمْرٍ مبنيٌّ على السُّكونِ، وفاعِلُهُ: ضَميرٌ مُسْتترٌ فيهِ وُجوبًا تقديرُهُ (أنتَ) يَعودُ عَلى سيدِنا محمَّدٍ ـ صلَّى اللهُ عليْهِ وسلَّمَ، والجُمْلَةُ مُسْتَأْنَفَةٌ لا محلَّ لها مِنَ الإعرابِ. و "لَوْ" حَرْفُ شَرْطٍ غَيْرُ جَازِمٍ. و "كَانَ" فعلٌ ماضٍ ناقِصٌ مَبْنِيٌّ عَلى الفَتْحِ. و "الْبَحْرُ" اسْمُ "كانَ" مَرْفوعٌ بها. و "مِدَادًا" خَبَرُ "كان" منصوبٌ بِها وجُمْلَةُ "كان" هذِهِ فِعْلُ شَرْطِ "لَوْ" لَا مَحَلَّ لَهَا مِنَ الإِعْرابِ. و "لِكَلِمَاتِ" اللامُ: حرفُ جَرٍّ متَعَلِّقٌ بِصِفَةٍ لِـ "مِدَادًا"، و "كَلِمَاتِ" مجرورٌ بحرفِ الجرِّ، وهو مُضافٌ، و "رَبِّي" اسمٌ مَجْرورٌ بالإضافةِ إِلَيْهِ، وهوَ مُضافٌ أيضًا، وياءُ المُتكلِّمِ ضميرٌ متَّصِلٌ بِهِ في محلِّ الجَرِّ بالإضافةِ إِلَيْهِ.
قولُهُ: {لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ} اللامُ: رَابِطَةٌ لِجَوَابِ "لَوْ"، و "نَفِدَ" فعلٌ ماضٍ مَبْنِيٌّ عَلَى الفَتْحِ. و "الْبَحْرُ" فاعِلُهُ مرفوعٌ بِهِ. و "قَبْلَ" منصوبٌ على الظَّرْفِيَّةِ مُتَعَلِّقٌ بِـ "نَفِدَ" وَهَذِهِ الجُمْلَةُ الفِعْلِيَّةُ جَوَابُ "لَوْ" لَا مَحَلَّ لَهَا مِنَ الإِعْرابِ. وَجُمْلَةُ "لَوْ" فِي مَحَلِّ النَّصْبِ مَقولُ القولِ لِـ "قُل".
قولُهُ: {أَنْ تَنْفَدَ كَلِماتُ رَبِّي} أَنْ: حرفٌ ناسِبٌ مَصْدَريٌّ. و "تَنْفَدَ" فِعْلٌ مضارعٌ منصوبٌ بِـ "أَنْ". وَ "كلماتُ" فِاعِلُهُ مرفوعٌ بِهِ، وهُوَ مُضَافٌ، و "ربِّي" اسْمٌ مجرورٌ بالإضافةِ إِلَيْهِ، وهوَ مُضافٌ أَيْضًا، وياءُ المتكلِّمِ ضميرٌ متَّصِلٌ بِهِ في محلِّ الجرِّ بالإِضافةِ إلَيْهِ، وهذِهِ الجُمْلَةُ الفِعْلِيَّةُ صِلَةُ "أَنْ" المَصْدَرِيَّةِ، و "أنْ" مَعَ صِلَتِها فِي تَأْويلِ مَصْدَرٍ مَجْرورٍ بِإِضَافَةِ الظَرْفِ إِلَيْهِ، والتَقديرُ: قَبْلَ نَفَادِ كَلِمَاتِ رَبِّي.
قولُهُ: {وَلَوْ جِئْنا بِمِثْلِهِ مَدَدًا} الواوُ: حرْفُ عَطْفٍ، عَطَفَ مَا بَعْدَهُ عَلى جُمْلَةٍ مُقَدَّرَةٍ مَدْلُولٍ عَلَيْها بِمَا قَبْلَهَا والتقديرُ: لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِمَاتُهُ لَوْ لَمْ يَجئْ بِمِثْلِهِ مَدَدًا، وَالجُمْلَةُ المَحْذوفَةُ فِي مَحَلِّ النَّصْبِ على الحالِ مِنْ "رَبِّي"، وَ "لَوْ" حَرْفُ شَرْطٍ غيرُ جازِمٍ. و "جِئْنَا" فِعْلٌ ماضٍ مَبْنِيٌّ عَلى السُّكونِ لاتِّصالِهِ بضميرِ رفعٍ متحرِّكٍ هو "نا" المُعظِّمِ نفسَهُ ـ سُبْحانَهُ وَتَعَالَى، و "نا" التعظيمِ هَذِهِ ضميرٌ مُتَّصِلٌ بِهِ مبْنيٌّ على السُّكونِ في محلِّ الرَّفْعِ بالفاعِليَّةِ. و "بِمِثْلِهِ" الباءُ: حرفُ جَرٍّ مُتَعَلِّقٌ بِـ "جِئْنَا"، و "مِثْلِهِ" مجرورٌ بحرفِ الجَرِّ، مُضافٌ، والهاءُ: ضميرٌ مُتَّصِلٌ بِهِ في محلِّ الجَرِّ بالإضافةِ إِلَيْهِ. و "مَدَدًا" مَنْصوبٌ عَلى التَّمْيِيزِ الْمُفَسِّرِ لِلْإِبْهَامِ الَّذِي فِي لَفْظِ "بِمِثْلِهِ"، أَيْ مِثْلِ الْبَحْرِ فِي الْإِمْدَاد. ونَصْبُه عَلَى التَمْييزِ كَقَولِ الشاعِرِ جريرِ بْنِ عطيَّةَ:
فإِنْ خِفْتَ يَوْمًا أَنْ يَلِجَّ بكَ الهَوَى ...... فإِنَّ الهوَى يَكْفِيكَهُ مِثلُه صَبرَا
يقول ذَلَّلْتُ الهوَى بقَرْعي ظُنْبوبَه كما تَقْرَعُ ظُنْبوبَ البَعيرِ ليَتَنَوَّخَ لَكَ فَتَرْكَبَهُ. وَجَوَابُ "لَوْ" مَحْذوفٌ لِفَهْمِ المعنى، والتقديرُ: وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ لَنَفَدَ وَلَمْ تَنْفَدْ. وَجُمْلَةُ "لو" الشَّرْطِيَّةُ مَعْطُوفَةٌ عَلَى جُمْلَةِ "لَوْ" المَحْذوفَةِ.
قرأَ الجمهورُ: {تَنفَدَ} بالتاءِ المُثَنَّاةِ مِنْ فَوْقُ، وذلكَ لِتَأْنِيثِ اللَّفْظِ. وَقَرَأَ الأَخَوَانِ (حمزةُ والكِسائيُّ) "يَنْفَدَ" بالياءِ مِنْ تَحْتُ؛ لِأَنَّ التَأْنيثَ هنا مَجَازِيٌّ. وَقَرَأَ أبو عبدِ الرحمنِ السُّلَمِيُّ: "تَنَفَّدَ" بِتَشْديدِ الفاءِ، وَرُوِيَتْ كذلكَ عَنْ أَبي عَمْرِو بْنِ العلاءِ وَعَاصِمٍ. وَهُوَ مُطاوَعُ الفعلِ "نَفَّدَ" بالتَّشْديدِ، فهوَ نَحْوَ قولِكَ: "كَسَّرْتُهُ" فَتَكَسَّرَ، وَأمَّا قِراءَةُ الباقينَ فهوَ مُطاوِعٌ لـ "أَنْفَدْتُهُ".
قرَأَ العامَّةُ: {مَدَدا} بِفَتْحِ المِيمِ. وقَرَأَ الأَعْمَشُ "مِدادًا" بِكَسْرِهَا. وَقَرَأَ ابْنُ مَسْعودٍ، وابْنُ عَبَّاسٍ ـ رَضِيَ اللهُ عنهُما، "مِدادًا" كالأَوَّلِ. وَنَصْبُهُ عَلَى التَمْييزِ أَيْضًا عِنْدَ أَبي البَقاءِ العُكْبُريِّ. وَقَالَ غَيْرُهُ ـ كَأَبي الفَضْلِ الرازي: إِنَّهُ مَنْصُوبٌ عَلى المَصْدَرِ بِمَعْنَى الإِمْدادِ، نَحْو قولِهِ تعالى مِنْ سورةِ نوحٍ ـ عَلَيْهِ السَّلامُ: {واللهُ أَنبَتَكُمْ مِّنَ الأَرْضِ نَبَاتًا} الآيةَ: 17، قالَ: وَالمَعْنَى: وَلَوْ أَمْدَدْناهُ بِمِثْلِهِ إِمْدادًا.