وَتَرَكْنَا بَعْضَهُمْ يَوْمَئِذٍ يَمُوجُ فِي بَعْضٍ وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَجَمَعْنَاهُمْ جَمْعًا (99)
قولُهُ ـ تَعالى شَأْنُهُ: {وَتَرَكْنَا بَعْضَهُمْ يَوْمَئِذٍ يَمُوجُ فِي بَعْضٍ} تَرْكُكَ الشَّيْءَ يعني مُفَارَقَتَهُ بعدَ أَنْ كَانَ قَريبًا مِنْكَ، وَيُطْلَقُ مَجَازًا عَلَى جَعْلِ الشَّيْءِ بِحَالَةٍ مُخَالِفَةٍ لِحَالَةٍ سَابِقَةٍ، وَإِنَّمَا يَكُونُ هَذَا الْمَجَازُ مُقَيَّدًا بِحَالَةٍ كَانَ عَلَيْهَا مَفْعُولُ تَرَكَ.
والظاهرُ أَنْ المُرادَ بِـ "يَوْمَئِذٍ" هوَ يَوْمُ دَكِّ السَّدِّ وخُروجِ "يأْجوجَ ومأْجوجَ" مِنْهُ، الْمُسْتَفَادُ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالى: {فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ رَبِّي جعَلَهُ دَكًّا} الْآيَةَ: 98، السابقةَ. ويجوزُ أنْ يكونَ ذلكَ يومَ القيامةِ.
ومعنى "يَمُوجُ": يَضْطَرِبُ، فقد شَبَّهَ تَدَافعَ "يأْجوجَ ومَأْجُوجَ"، فِي اضْطِرابِهمْ، وتَدَاخُلِهمْ بَعْضِهم ببعضٍ، بِمَوْجِ الْبَحْرِ في تَدَافُعِهِ، وَتَدَاخُلِهِ، واضْطِرابِهِ. فقَد أَخْرَجَ ابْنُ أَبي حَاتِمٍ عَنِ السُّدِّيِّ ـ رَضِيَ اللهُ عنهُ، فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: "وَتَركْنَا بَعْضَهم يَوْمئِذٍ يَمُوجُ فِي بَعْضٍ" قَالَ: ذَلِكَ حِينَ يَخْرُجُونَ عَلَى النَّاسِ. وَيَجوزُ أَنْ يكونَ الضَّميرُ في "بَعْضَهُمْ" عائدًا عَلَى الخَلْقِ جميعًا، فيكونُ موجُ بعضِهم في بعضٍ يومَ القيامةِ، وَذَلِكَ لِمَا أَخْرَجَ ابْنُ أَبي حَاتِمٍ أَيْضًا عَنِ ابْنِ زَيْدٍ ـ رَضِيَ اللهُ عنْهُ، فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: "وَتَركْنَا بَعْضَهم يَوْمئِذٍ يَمُوجُ فِي بَعْضٍ" قَالَ: هَذَا أَوَّلُ يَوْمِ الْقِيَامَةِ، ثُمَّ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ عَلَى أَثَرِ ذَلِكَ.
وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبي شَيْبَةَ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبي حَاتِمٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا، فِي قَوْلِهِ: "وَتَركْنَا بَعْضَهم يَوْمئِذٍ يَمُوجُ فِي بَعْضٍ" قَالَ: الْجِنُّ وَالْإِنْسُ، يَمُوجُ بَعْضُهم فِي بَعْضٍ.
وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبي حَاتِمٍ، عَنْ هَرُونَ بْنِ عَنْتَرَةَ، عَنْ شِيْخٍ مِنْ بَني فَزَارَةَ فِي قَوْلِهِ: "وَتَركْنَا بَعْضَهم يَوْمئِذٍ يَمُوجُ فِي بَعْضٍ" قَالَ: إِذا ماجَ الْجِنُّ وَالْإِنْسُ بَعْضُهم فِي بَعْضٍ، قَالَ إِبْلِيسُ: أَنَا أَعْلَمُ لَكم عِلْمَ هَذَا الْأَمْرِ، فَيَظْعَنُ إِلَى الْمَشْرِقِ، فَيَجِدُ الْمَلَائِكَةَ قَدَ نَطَقُوا الأَرْضَ، ثُمَّ يَظْعَنُ إِلَى الْمَغْرِبِ، فَيَجِدُ الْمَلَائِكَة قَدْ نَطَقُوا الأَرْضَ، ثُمَّ يَظْعَنُ يَمِينًا وَشِمَالًا، حَتَّى يَنْتَهِي إِلَى أَقْصَى الأَرْضِ، فَيَجِدُ الْمَلَائِكَةَ قَدْ نَطَقُوا الأَرْضَ، فَيَقُولُ: مَا مِنْ مَحِيصٍ، فَبَيْنَمَا هُوَ كَذَلِكَ، إِذْ عَرَضَ لَهُ طَرِيقٌ كَأَنَّهُ شُواظٌ، فَأَخَذَ عَلَيْهِ هُوَ وَذُرِّيَّتُهُ.
فَبَيْنَمَا هُوَ كَذَلِك، إِذْ هَجَمَ عَلى النَّارِ، فَخَرَجَ إِلَيْهِ خَازِنٌ مِنْ خُزَّانِ النَّارِ، فَقَالَ: يَا إِبْلِيسُ، أَلَمْ تَكُنْ لَكَ الْمَنْزِلَةُ عِنْدَ رَبِّكَ؟ أَلَمْ تَكُنْ فِي الْجِنَانِ؟ فَيَقُولُ: لَيْسَ هَذَا يَوْمُ عِتَابٍ، لَوْ أَنَّ اللهَ افْتَرَضَ عَلَيَّ عِبَادَةً لَعَبَدْتُهُ عِبَادَةً لَمْ يَعْبُدْهُ أَحَدٌ مِنْ خَلْقِهِ. فَيَقُولُ: إِنَّ اللهَ قَدْ فَرَضَ عَلَيْكَ فَرِيضَةً. فَيَقُولُ: مَا هِيَ؟ فَيَقُولُ: يَأْمُرُكَ أَنْ تَدْخُلَ النَّارَ. فَيَتَلَكَّأُ عَلَيْهِ، فَيَقُولُ بِهِ وَبِذُرِّيَّتِهِ بِجَنَاحِهِ فَيَقْذِفُهم فِي النَّارِ فَتَزْفُرُ جَهَنَّمُ زَفْرَةً لَا يَبْقَى مَلَكٌ مُقَرَّبٌ وَلَا نَبِيٌّ مُرْسَلٌ إِلَّا جَثَا لِرُكْبَتَيْهِ.
وَهذِهِ الجُمْلَةُ في مَحَلِّ النَّصْبِ إِمَّا مَفْعُولًا ثَانيًا لِـ "تَرَكْنا" عَلَى تَأْوِيلِهِ بِـ "صَيَّرْنَا"، أَوْ "جَعَلْنا"، أَيْ: جَعَلْنَا يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ يَوْمَئِذٍ مُضْطَرِبِينَ بَيْنَهُمْ، فَصَارَ فَسَادُهُمْ قَاصِرًا عَلَيْهِمْ، وَدُفِعَ عَنْ غَيْرِهِمْ، أَوْ يكونَ نَصْبُها عَلَى الحَالِ مِنْ "بَعْضَهُمْ".
قولُهُ: {وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَجَمَعْنَاهُمْ جَمْعًا} الصُّور: هُوَ قَرْنٌ عظيمٌ إِذَا نَفَخَ فِيهِ الملاكُ المُوكَّلُ أَحْدَثَ صَوْتًا. وَحِينَ يَحِينُ مَوْعِدُ قِيَامِ السَّاعَةِ يَنْفُخُ فِي الصُّورِ المَلاكُ المكلَّفُ بِذَلِكَ، وهو إِسْرافيلُ ـ عَلَيْهِ السَّلامُ، فيُصِدِرُ صوتًا عظيمًا يَسْمَعُهُ الخلقُ كلُّهم فتدِبُ الحياةُ فيهم، وتَعُودُ أرواحُهُم إِلَيْهِمْ، فيقومون مِنْ قبورهم، فَيُلَبُّونَ دَعْوَةَ الحَقِّ ـ سُبْحَانَهُ، وَيَجْمَعُ اللهُ النَّاسَ جَمِيعًا إِلَيْهِ لِيُحَاسِبَهُمْ عَلَى أَعْمَالِهِمْ.
قوْلُهُ تَعَالى: {وَتَرَكْنَا بَعْضَهُمْ يَوْمَئِذٍ يَمُوجُ فِي بَعْضٍ} الواوُ: اسْتِئْنافيَّةٌ، و "تَرَكْنَا" فعلٌ ماضٍ مِنْ أَفعالِ التَّصْييرِ فيتعدَّى لِمَفْعُولَيْنِ، مَبْنِيٌّ عَلَى السُّكونِ لاتِّصالِهِ بضميرِ رفعٍ متحرِّكٌ هو "نا" المُعَظِّمِ نفسَهُ ـ سُبْحانَهُ، و "نا" التعظيمِ هذِهِ ضميرٌ مُتَّصلٌ بهِ مبنيٌّ على السُّكونِ في محلِّ الرَّفعِ بالفاعليَّةِ. و "بَعْضَهُمْ" مَفْعُولُهُ الأَوَّلُ مَنْصوبٌ بِه، وهو مُضافٌ، والهاءُ: ضميرٌ متَّصِلٌ بِهِ في محلِّ الجرِّ بالإضافةِ إليْهِ، عائدٌ عَلَى "يَأْجُوج ومَأْجوج"، أَوْ عَلى سائرِ الخَلْقِ. والمِيمُ علامةُ الجمعِ المُذكَّرِ. و "يَوْمَئِذٍ" منصوبٌ على الظَّرْفِيَّةِ الزمانيَّةِ مُضافٌ إِلَى مِثْلِهِ، مُتَعَلِّقٌ بِـ "تركْنا"، و "إِذٍ" اسْمٌ ظَرْفيٌّ متعلِّقٌ بـ "يموجُ" مَبْنِيٌّ عَلى السُّكونِ المُقَدَّرِ مَنَعَ مِنْ ظُهورِهِ التَنْوينُ العارِضُ، وَالتَنْوينُ فِي "إِذٍ" عِوَضٌ عَنِ الجُمْلَةِ المَحْذوفَةِ، أَيْ: يَوْمَ إِذْ يُدَكُّ السَّدُ، أَوْ يَوْمَ إِذْ يَخْرُجُ يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ. وَ "يَمُوجُ" فِعْلٌ مُضارعٌ مرفوعٌ لِتَجَرُّدِهِ مِنَ الناصِبِ والجازِمِ، وَفاعِلُهُ مُسْتَتِرٌ فِيهِ تَقْديرُهُ (هو) يَعودُ عَلى "بَعْضِهم". و "فِي" حرفُ جَرٍّ مُتَعَلِّقٌ بِـ "يَمُوجُ"، "بَعْضٍ" مجرورٌ بحرفِ الجَرِّ. والجُمْلَةُ الفِعْلِيَّةُ هَذِهِ في مَحَلِّ النَّصْبِ على أَنَّها مَفْعولٌ بهِ ثانٍ لِـ "تَرَكْنَا" لِأَنَّ "تَرَكَ" هُنَا مِنْ أَفْعَالِ التَصْييرِ والتحويلِ، كَمَا تَقَدَّمَ، وَجُملةُ "تَرَكْنَا" جملةٌ مُسْتَأْنَفَةٌ فليسَ لها مَحَلٌّ مِنَ الإِعْرابِ.
قوْلُهُ: {وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَجَمَعْنَاهُمْ جَمْعًا} الوَاوُ: للعطْفِ، و "نُفِخَ" فعلٌ ماضٍ مبنيٌّ للمجهولِ (مُغَيَّرُ الصِّيغَةِ)، مبنيٌّ على الفتحِ. و "فِي" حرفُ جرٍّ في مَحَلِّ الرَّفْعِ نَائبًا عنِ فاعِلِ "نُفِخَ"، و "الصُّورِ" مَجْرورٌ بحرفِ الجَرِّ، والجُمْلَةُ مَعْطوفَةٌ عَلَى جُمْلَةِ "تَرَكْنَا" على كونِها مُسْتَأَنَفَةً لا محلَّ لها مِنَ الإعرابِ. و "فَجَمَعْنَاهُمْ" الفاءُ: للعطْفِ والتعقيبَ، و "جَمَعْنَا" فعلٌ ماضٍ مَبْنِيٌّ عَلى السُّكونِ لاتِّصالِهِ بِضَميرِ رَفْعِ متَحَرِّكٍ هو "نا" المعظِّمِ نفسَهُ ـ سُبْحانَهُ، و "نا" التعظيمِ هذِهِ ضميرٌ متَّصِلٌ بِهِ مبنيٌّ عَلى السُّكونِ فِي مَحَلِّ الرَّفعِ بالفاعليَّةِ، والهاء: ضميرٌ مُتَّصِلٌ بِهِ في محلِّ النَّصْبِ بالمَفعوليَّةِ، عائدٌ على سائرِ المخلوقاتِ، والمِيمُ علامةُ الجَمْعِ المُذكَّرِ. وَ "جَمْعًا" مَفْعُولٌ مُطْلَقٌ مَنْصُوبٌ، والجُمْلَةُ مَعْطوفَةٌ عَلَى جُمْلَةِ "نُفِخَ" الاسْتِئنافيَّةِ فليسَ لها مَحَلٌّ مِنَ الإِعْرابِ. وَاللهُ أَعْلَمُ.
تم بحمد الله الجزءُ الخامس عشرَ المجلد الثلاثون، ويليه بعونه تعالى وتوفيقه الجزء السادس عشر الجزء الحادي والثلاثون.