قَالَ هَذَا رَحْمَةٌ مِنْ رَبِّي فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ رَبِّي جَعَلَهُ دَكَّاءَ وَكَانَ وَعْدُ رَبِّي حَقًّا
(98)
قولُهُ ـ تَعالى شأْنُهُ: {قَالَ هَذَا رَحْمَةٌ مِنْ رَبِّي} أَيْ: لَمَّا فَرَغَ "ذو القَرْنَيْنِ" مِنْ بِنَاءِ السَّدِ قالَ: "هَذَا رَحْمَةٌ مِنْ رَبِّي"، أَيْ: مِنْ فَضْلِهِ عَلَيَّ وإِحْسانِهِ لِي، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُما: يُريدُ بقولِهِ "هَذَا رَحْمَةٌ منْ رَبِّي": هَذَا مَعُونَةٌ مِنْ رَبِّي، حَيْثُ أَلْهَمَني وَقَوَّاني. وَقالَ أَبُو إِسْحاقٍ الزَّجَّاجُ في (مَعَاني القُرْآنِ) لَهُ: أَيْ: التَمْكينُ الذي أَدْرَكْتُ بِهِ السَّدَّ هُوَ "رَحْمَةٌ مِنْ رَبِّي" معاني القرْآنِ: (3/312). وَقالَ ابْنُ الأَنْبارِيِّ: يَجوزُ أَنْ تَكونَ الإِشارَةُ بِـ "هَذَا" إِلى السَّدِّ، أَيْ: هَذَا السَّدُ "رَحْمَةٌ مِنْ رَبِّي".
قوْلُهُ: {فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ رَبِّي} قالَ ابْنِ عَبَّاسٍ ـ رَضِيَ اللهُ عنهُما: المُرَادُ بِـ "وَعْدُ رَبِّي" هُوَ يَوْمُ القِيامَةِ. وَقَالَ الكَلْبِيُّ ـ رَضيَ اللهُ عَنْهُ: يَقولُ: إِذا جَاءَ أَجَلُ رَبِّي أَنْ يَخُرُجوا مِنْهُ. وقولُ ابْنِ عَبَّاسٍ هوَ الأَظْهَرُ بِدَلالةِ الآيَةِ التَي بَعْدَهَا وهي قولُهُ تَعَالَى: {وَتَرَكْنَا بَعْضَهُمْ يَوْمَئِذٍ يَمُوجُ فِي بَعْضٍ وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَجَمَعْنَاهُم جَمْعًا}.
والآيةُ تدلُّ عَلَى مُطْلَقِ اقْتِرَابِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ مِنْ دَكِّ السَّدِّ وَاقْتِرَابِهِ مِنْ يَوْمِ الْقِيَامَةِ، ولَا يُنَافِي هذا كَوْنَ هذا الوعدِ قَدْ وَقَعَ فِعْلًا، فإنَّهُ كَمَا قَالَ تَعَالَى مِنْ في مطلعِ سُورةِ الأَنْبِياءِ: {اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ}، وَقَالَ في مَطْلِعِ سورةِ القمرِ: {اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ}، وَقَالَ النَّبِيُّ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، مِنْ حَديثِ أُمِّ المُؤْمِنِينَ أُمِّ الحَكَمِ زَيْنَبَ بِنْتِ جَحْشٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا، المُتَقَدِّمِ ذِكْرُهُ غير بعيدٍ مِنْ أَنَّ النَّبِيَّ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآله وَسَلَّمَ، دَخَلَ عَلَيْهَا فَزِعًا يَقُولُ: ((لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ، وَيْلٌ لِلْعَرَبِ مِنْ شَرٍّ قَدِ اقْتَرَبَ، فُتِحَ الْيَوْمَ مِنْ رَدْمِ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مِثْلُ هَذِهِ))، وَحَلَّقَ بِإِصْبَعَيْهِ الْإِبْهَامِ وَالَّتِي تَلِيهَا، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ! أَنَهْلِكُ وَفِينَا الصَّالِحُونَ؟، قَالَ: ((نَعَمْ إِذَا كَثُرَ الْخَبْثُ)). أَخْرَجَهُ البُخَارِيُّ: (13/106)، وَمُسْلِمٌ: (4/2207، برقم:2880). والبَغَويُّ في شَرْحِ السُّنَّةِ: (14/397)، وَغَيْرُهُم. فَقَدْ دَلَّ الْقُرْآنُ الكريمُ وَالسُّنَّةُ المُطهَّرةُ الصَّحِيحَةُ عَلَى أَنَّ اقْتِرَابَ مَا ذَكَرَ لَا يَسْتَلْزِمُ اقْتِرَانُهُ بِهِ، بَلْ يَصِحُّ اقْتِرَابُهُ مَعَ مُهْلَةٍ زَمَنِيَّةٍ، وَإِذًا فَلَا يُنَافِي دَكُّ السَّدِّ الْمَاضِي الْمَزْعُومِ الِاقْتِرَابَ مِنْ يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وإِذًا فَلَا يَكُونُ فِي الْآيَاتِ الْمَذْكُورَةِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ السَّدُّ لَمْ يُدَكَّ إِلَى الْآنِ. ثمَّ إِنَّ هَذَا الْبَيَانَ بِهَذِهِ الْآيَةِ وغَيْرِها مِنَ الآياتِ التي تَنَاوَلَتْ مَوْضُوعَ انْهدامِ السَّدِّ وخُروجِ "يَأَجوجَ ومأْجوجَ" لَيْسَ فيها إِيضاحٌ تَامٌ إِلَّا بِضَمِيمَةِ السُّنَّةِ النَّبَوِيَّةِ إِلَيْهَا، لِأَنَّ السُّنَّةَ مُبَيِّنَةٌ لِلْقُرْآنِ الكريمِ، فَقَد روى الأئِمَّةُ رَحِمَهُمُ اللهُ، عَنِ النَّوَّاسِ بْنِ سِمْعَانَ الكِلابيِّ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، قَالَ: ذَكَرَ رَسُولُ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، الدَّجَّالَ ذَاتَ غَدَاةٍ فَخَفَضَ فِيهِ وَرَفَعَ حَتَّى ظَنَنَّاهُ فِي طَائِفَةِ النَّخْلِ، فَلَمَّا رُحْنَا إِلَيْهِ عَرَفَ ذَلِكَ فِينَا فَقَالَ: ((مَا شَأْنُكُمْ))؟ قُلْنَا: يَا رَسُولَ اللهِ، ذَكَرْتَ الدَّجَّالَ غَدَاةً فَخَفَضْتَ فِيهِ وَرَفَعْتَ، حَتَّى ظَنَنَّاهُ فِي طَائِفَةِ النَّخْلِ؟ فَقَالَ: ((غَيْرُ الدَّجَّالِ أَخْوَفَنِي عَلَيْكُمْ! إِنْ يَخْرُجْ وَأَنَا فِيكُمْ فَأَنَا حَجِيجُهُ دُونَكُمْ، وَإِنْ يَخْرُجْ وَلَسْتُ فِيكُمْ فَامْرُؤٌ حَجِيجُ نَفْسِهِ، وَاللهُ خَلِيفَتِي عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ، إِنَّهُ شَابٌّ قَطَطٌ، عَيْنُهُ طَافِئَةٌ، كَأَنِّي أُشَبِّهُهُ بِعَبْدِ الْعُزَّى بْنِ قَطَنٍ، فَمَنْ أَدْرَكَهُ مِنْكُمْ فَلْيَقْرَأْ عَلَيْهِ فَوَاتِحَ سُورَةِ الْكَهْفِ، إِنَّهُ خَارِجٌ خَلَّةً بَيْنَ الشَّامِ وَالْعِرَاقِ، فَعَاثَ يَمِينًا وَعَاثَ شِمَالًا، يَا عِبَادَ اللهِ فَاثْبُتُوا)). قُلْنَا: يَا رَسُولَ اللهِ، وَمَا لُبْثُهُ فِي الْأَرْضِ؟ قَالَ: ((أَرْبَعُونَ يَوْمًا، يَوْمُ كَسَنَةٍ، وَيَوْمٌ كَشَهْرٍ، وَيَوْمٌ كَجُمُعَةٍ، وَسَائِرُ أَيَّامِهِ كَأَيَّامِكُمْ)) قُلْنَا: يَا رَسُولَ اللهِ، فَذَلِكَ الْيَوْمُ الَّذِي كَسَنَةٍ، أَتَكْفِينَا فِيهِ صَلَاةُ يَوْمٍ؟ قَالَ: ((لَا، اقْدُرُوا لَهُ قَدْرَهُ)). قُلْنَا: يَا رَسُولَ اللهِ، وَمَا إِسْرَاعُهُ فِي الْأَرْضِ؟ قَالَ: ((كَالْغَيْثِ اسْتَدْبَرَتْهُ الرِّيحُ، فَيَأْتِي عَلَى الْقَوْمِ فَيَدْعُوهُمْ فَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَجِيبُونَ لَهُ: فَيَأْمُرُ السَّمَاءَ فَتُمْطِرُ، وَالْأَرْضَ فَتُنْبِتُ، فَتَرُوحُ عَلَيْهِمْ سَارِحَتُهُمْ أَطْوَلَ مَا كَانَتْ ذَرًّا وَأَسْبَغَهُ ضُرُوعًا، وَأَمَدَّهُ خَوَاصِرَ، ثُمَّ يَأْتِي الْقَوْمَ فَيَدْعُوهُمْ فَيَرُدُّونَ عَلَيْهِ قَوْلَهُ: فَيَنْصَرِفُ عَنْهُمْ فَيُصْبِحُونَ مُمْحِلِينَ لَيْسَ بِأَيْدِيهِمْ شَيْءٌ مِنْ أَمْوَالِهِمْ، وَيَمُرُّ بِالْخَرِبَةِ فَيَقُولُ لَهَا أَخْرِجِي كُنُوزَكِ، فَتُتْبِعُهُ كُنُوزَهَا كَيَعَاسِيبِ النَّحْلِ، ثُمَّ يَدْعُو رَجُلًا مُمْتَلِئًا شَبَابًا فَيَضْرِبُهُ بِالسَّيْفِ فَيَقْطَعُهُ جَزْلَتَيْنِ رَمْيَةَ الْغَرَضِ، ثُمَّ يَدْعُونَ فَيُقْبِلُ وَيَتَهَلَّلُ وَجْهُهُ يَضْحَكُ، فَبَيْنَمَا هُوَ كَذَلِكَ إِذْ بَعَثَ اللهُ الْمَسِيحَ بْنَ مَرْيَمَ، فَيَنْزِلُ عِنْدَ الْمَنَارَةِ الْبَيْضَاءِ شَرْقِيَّ دِمَشْقَ بَيْنَ مَهْرُودَتَيْنِ، وَاضِعًا كَفَّيْهِ عَلَى أَجْنِحَةِ مَلَكَيْنِ، إِذَا طَأْطَأَ رَأْسَهُ قَطَرَ، وَإِذَا رَفَعَهُ تَحَدَّرَ مِنْهُ جُمَانٌ كَاللُّؤْلُؤِ، فَلَا يَحِلُّ لِكَافِرٍ يَجِدُ رِيحَ نَفَسِهِ إِلَّا مَاتَ، وَنَفَسُهُ يَنْتَهِي حَيْثُ يَنْتَهِي طَرْفُهُ، فَيَطْلُبُهُ حَتَّى يُدْرِكَهُ بِبَابِ لُدِّهِ فَيَقْتُلَهُ، ثُمَّ يَأْتِيَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ قَوْمٌ قَدْ عَصَمَهُمُ اللهُ مِنْهُ، فَيَمْسَحُ عَنْ وُجُوهِهِمْ، وَيُحَدِّثُهُمْ بِدَرَجَاتِهِمْ فِي الْجَنَّةِ فَبَيْنَمَا هُوَ كَذَلِكَ إِذْ أَوْحَى اللهُ إِلَى عِيسَى: إِنِّي قَدْ أَخْرَجْتُ عِبَادًا لِي لَا يَدَانِ لِأَحَدٍ بِقِتَالِهِمْ، فَحَرِّزْ عِبَادِي إِلَى الطُّورِ، وَيَبْعَثُ اللهُ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ وَهُمْ مِنْ كُلِّ حَدَبٍ يَنْسِلُونَ، فَيَمُرُّ أَوَائِلُهُمْ عَلَى بُحَيْرَةِ طَبَرِيَّةَ فَيَشْرَبُونَ مَا فِيهَا، وَيَمُرُّ آخِرُهُمْ فَيَقُولُونَ لَقَدْ كَانَ بِهَذِهِ مَرَّةً مَاءٌ، وَيَحْصُرُ نَبِيُّ اللهِ عِيسَى وَأَصْحَابُهُ حَتَّى يَكُونَ رَأْسُ الثَّوْرِ لِأَحَدِهِمْ خَيْرًا مِنْ مِائَةِ دِينَارٍ لِأَحَدِكُمُ الْيَوْمَ، فَيَرْغَبُ نَبِيُّ اللهِ عِيسَى وَأَصْحَابُهُ فَيُرْسِلُ اللهُ عَلَيْهِمُ النَّغَفَ فِي رِقَابِهِمْ، فَيُصْبِحُونَ فَرْسَى كَمَوْتِ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ، ثُمَّ يَهْبِطُ نَبِيُّ اللهِ عِيسَى وَأَصْحَابُهُ إِلَى الْأَرْضِ فَلَا يَجِدُونَ فِي الْأَرْضِ مَوْضِعَ شِبْرٍ إِلَّا مَلَأَهُ زَهَمُهُمْ وَنَتَنُهُمْ، فَيَرْغَبُ نَبِيُّ اللهِ عِيسَى وَأَصْحَابُهُ إِلَى اللهِ فَيُرْسِلُ اللهُ طَيْرًا كَأَعْنَاقِ الْبُخْتِ فَتَحْمِلُهُمْ فَتَطْرَحُهُمْ حَيْثُ شَاءَ اللهُ، ثُمَّ يُرْسِلُ اللهُ مَطَرًا لَا يُكَنُّ مِنْهُ بَيْتُ مَدَرٍ وَلَا وَبَرٍ فَيَغْسِلُ الْأَرْضَ حَتَّى يَتْرُكَهَا كَالزُّلْفَةِ ثُمَّ يُقَالُ لِلْأَرْضِ: أَنْبِتِي ثَمَرَتَكِ، وَرُدِّي بَرَكَتَكِ، فَيَوْمَئِذٍ تَأْكُلُ الْعِصَابَةُ مِنَ الرُّمَّانَةِ، وَيَسْتَظِلُّونَ بِقِحْفِهَا، يُبَارَكُ فِي الرُّسُلِ حَتَّى إِنَّ اللِّقْحَةَ مِنَ الْإِبِلِ لَتَكْفِي الْفِئَامَ مِنَ النَّاسِ، وَاللِّقْحَةَ مِنَ الْبَقَرِ لَتَكْفِي الْقَبِيلَةَ مِنَ النَّاسِ، وَاللِّقْحَةَ مِنَ الْغَنَمِ لَتَكْفِي الْفَخِذَ مِنَ النَّاسِ، فَبَيْنَمَا هُمْ كَذَلِكَ إِذْ بَعَثَ اللهُ رِيحًا طَيِّبَةً فَتَأْخُذُهُمْ تَحْتَ آبَاطِهِمْ، فَتَقْبِضُ رُوحَ كُلِّ مُؤْمِنٍ وَكُلِّ مُسْلِمٍ، وَيَبْقَى شِرَارُ النَّاسِ يَتَهَارَجُونَ فِيهَا تَهَارُجَ الْحُمُرِ فَعَلَيْهِمْ تَقُومُ السَّاعَةُ. أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ في مُسْندِهِ: (4/181(17779). وَمُسْلِمٌ في صَحيحِهِ: (8/196(7483). والنَّصُّ لهُ. وَأَبو داودَ: (4321). وابْنُ مَاجَةَ: (4076). والتِّرمِذيُّ: (2240). والنَّسائي في "السُّنَنِ الكُبْرَى": (7970)، وفي :عَمَلِ اليَوْمِ وَاللَّيْلَةِ: (947). كما أَخرجهُ أَيضًا الحاكمُ في مُسْتَدْرَكِهِ.
وفِيهِ تَصْرِيحٌ منَ النَّبِيِّ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: بِأَنَّ اللهَ يُوحِي إِلَى عِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ خُرُوجَ "يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ" بَعْدَ قَتْلِهِ الدَّجَّالَ، فَمَنْ يَدَّعِي أَنَّهُمْ الروسُ، أَوِ الصِّينِيُّونَ، أَوْ التَتَرُ أَوْ المَغُولُ أَوْ غَيْرُهم، وَأَنَّ السَّدَّ قَدِ انْدَكَّ مُنْذُ زَمَانٍ، فَهُوَ مُخَالِفٌ لِمَا أَخْبَرَ بِهِ النَّبِيُّ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، مُخَالَفَةً صَرِيحَةً لَا وَجْهَ لَهَا، وَلَا شَكَّ أَنَّ كُلَّ خَبَرٍ نَاقِضٍ خَبَرَ الصَّادِقِ الْمَصْدُوقِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَهُوَ بَاطِلٌ، لِأَنَّ نَقِيضَ الْخَبَرِ الصَّادِقِ كَاذِبٌ ضَرُورَةً كَمَا هُوَ مَعْلُومٌ، وَلَمْ يَثْبُتْ فِي كِتَابِ اللهِ وَلَا سُنَّةَ نَبِيِّهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شَيْءٌ يُعَارِضُ هَذَا الْحَدِيثَ الصَّحيحَ، وَوُضُوحَ دَلَالَتِهِ عَلَى الْمَقْصُودِ، واللهُ أَعْلَمُ.
قولُهُ: {جَعَلَهُ دَكًّا} أَيْ: دَكَهُ دَكًّا، فَجَعَلَهُ مَبْسُوطًا مُسَوًّى بِالْأَرْضِ، وَكُلُّ مَا انْبَسَطَ مِنْ بَعْدِ ارْتِفَاعٍ فَقَدِ انْدَكَّ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكونَ المَعْنَى: جَعَلَهُ ذَا دَكٍّ. وَقَرَأَ: حَمْزَةَ والكِسائيِّ وَعاصِمٍ "دَكَّاءَ" والتَقْديرَ: جَعَلَهُ مَثْلَ دَكَّاءَ، وَ "دَكَّاء" هِيَ: النَّاقَةُ التي لَا سَنَامَ لَهَا، وَلابُدَّ مِنْ تَقْديرِ مُضافٍ مَحذوفٍ؛ لِأَنَّ السَّدَّ مُذَكَّرَ، فَلَا يُوصَفُ بِمُؤَنَّثٍ، لِأَنَّ "دَكَّاءَ" مِنْ وَصْفِ المُؤَنَّثِ، وَالْجَمَلُ الْأَدَكُّ هوَ الْمُنْبَسِطُ السَّنَامِ.
قولُهُ: {وَكَانَ وَعْدُ رَبِّي حَقًّا} حَقًّا: يَعْنِي: بإثابةِ المُحْسِنِ، وَعِقَابِ المُسيءِ يَوْمِ القَيامَةِ، وهوَ قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ ـ رَضِيَ اللهُ عنهُما.
قولُهُ تعالى: {قَالَ هَذَا رَحْمَةٌ مِنْ رَبِّي} قَالَ: فِعْلٌ مَاضٍ مَبْنِيٌّ على الفَتْحِ وفاعِلُهُ ضَمِيرٌ مُسْتَتِرٌ فيهِ جوازًا تقديرُهُ (هو) يَعُودُ عَلَى "ذِي القَرْنَيْنِ" والجُمْلَةُ: مُسْتَأْنَفَةٌ لا محلَّ لها مِنَ الإِعْرَابِ. و "هَذَا" الهاءُ للتَنْبِيهِ، و "ذا" اسْمُ إِشارةٍ مبنيٌّ على السُّكونِ في محلِّ الرَّفعِ بالابتداءِ. و "رَحْمَةٌ" خَبَرُهُ مرفوعٌ. و "مِنْ" حرفُ جَرٍّ متعلِّقٌ بِصِفَةٍ لِـ "رَحْمَةٌ"، و "رَبِّي" مَجْرورٌ بحرفِ الجَرِّ مُضافٌ، وياءُ المُتكلِّمِ: ضَمِيرٌ مُتَّصِلٌ بِهِ في محلِّ الجرِّ بالإضافةِ إِلَيْهِ. وهذهِ الجُمْلَةُ الاسْمِيَّةُ فِي مَحَلِّ النَّصْبِ مَقولُ القولِ لِـ "قال".
قولُهُ: {فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ رَبِّي} الفاءُ: حَرْفُ عَطْفٍ، وَ "إذا" ظِرْفِيَّةٌ لِمَا يُسْتَقْبَلُ مِنَ الزَّمَانِ خافضةٌ لِشَرْطِها مُتَعلِّقَةٌ بجوابِها. و "جَاءَ" فعلٌ ماضٍ مبنيٌّ على الفتحِ. و "وَعْدُ" فاعِلُهُ مرفوعٌ بِهِ، وهو مُضافٌ، و "رَبِّي" مجرورٌ بالإضافةِ إِلَيْهِ مُضافٌ، و ياءُ المتكلِّمِ ضميرٌ متَّصِلٌ بِهِ في محلِّ الجرِّ بالإضافةِ إليْهِ، والجُمْلَةُ فِي مَحَلِّ الجرِّ بإِضَافَةِ "إذا" إِلَيْها عَلى كَوْنِها فِعْلَ شَرْطٍ لَهَا.
قوْلُهُ: {جَعَلَهُ دَكَّاءَ} جَعَلَهُ: فِعْلٌ ماضٍ مَبْنيٌّ عَلى الفَتْحِ، وفاعِلُهُ مُسْتَتِرٌ فيهِ جوازًا تقديرُهُ (هو) يَعودُ عَلى "ربي" ـ سُبْحانَهُ وتَعَالَى، والهاءُ: ضميرٌ مُتَّصِلٌ بِهِ في محلِّ النَّصْبِ مفعولٌ بِهِ. و "دَكَّاءَ" مفعولُهُ الثاني مَنْصوبٌ بِهِ، لأَنَّ الجَعْلَ هُنَا بِمَعْنَى التَصْييرِ، وَجَوَّزَ ابْنُ عَطِيَّةَ أَنْ يَكونَ "جَعَلَ" بِمَعْنَى "خَلَقَ"، وَعَلَيَهِ فـ "دَكَّاءَ" هو مَنْصُوبٌ عَلى الحالِ مِنَ السَّدِّ، وَفِيهِ بُعْدٌ؛ وَلَمْ ينوَّنْ لأَنَّهُ ممنوعٌ مِنَ الصَّرْفِ بِسَبَبِ أَنَّ هَمْزَتَهُ للتَأْنِيثِ، فَهُوَ عَلَى حَذْفِ مَوْصُوفٍ تَقْديرُهُ: فَجَعَلَهُ أَرْضًا دَكَّاءَ، وهذِهِ الجَمْلَةُ الفعليَّةُ واقعةٌ في جَوَابِ "إِذا" فَلَيْسَ لها مَحَلٌّ مِنَ الإِعْرَابِ، أَمَّا جُمْلةُ "إِذَا" معَ شَرْطِها وجوابِها فَهِيَ مُسْتَأْنَفَةٌ عَلَى جُمْلَةِ " هَذَا رَحْمَةٌ مِنْ رَبِّي" عَلى كَوْنِهَا مَقُولَ "قَالَ" في محلِّ النَّصْبِ.
قولُهُ: {وَكَانَ وَعْدُ رَبِّي حَقًّا} الواوُ: عاطِفَةٌ أَوْ حَالِيَّةٌ، و "كَانَ" فعلٌ ماضٍ ناقصٌ مَبْنِيٌّ عَلى الفتْحِ. و "وَعْدُ" اسْمُها مَرْفوعٌ بِهَا، وَهُوَ عَلَى بِابِهِ هُنَا أَوْ هُوَ مَصْدَرٌ بِمَعْنَى "مَوْعود"، وهو مُضافٌ. وَ "رَبِّي" مجرورٌ بالإضافةِ إلَيْهِ، مُضافٌ، وياءُ المتكلِّمِ ضميرٌ مُتَّصِلٌ بِهِ في مَحَلِّ الجرِّ بالإضافةِ إلَيْهِ. و "حَقًّا" خَبَرُ "كانَ" مَنْصُوبٌ بِها. وَالجُمْلَةُ الفِعْلِيَّةُ هَذِهِ مَعْطوفَةٌ عَلى جُمْلَةِ "إذا"، أَوْ عَلى جُمْلَةِ جَوابِها، أَوْ هِيَ حَالٌ مِنْ فَاعِلِ "جَاءَ".
قرَأَ العَامَّةُ: {جَعَلَهُ دَكًا} بِالتَّنْوِينِ مَصْدَرُ دَكَّهُ، وَقَرَأَهُ عَاصِمٌ وَحَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ "جَعَلَهُ دَكَّاءَ"، بِأَلِفِ التَّأْنِيثِ الْمَمْدُودَةِ تَأْنِيثُ الْأَدَكِّ، وَمَعْنَى الْقِرَاءَتَيْنِ رَاجِعٌ إِلَى شَيْءٍ وَاحِدٍ.