قَالَ أَرَأَيْتَ إِذْ أَوَيْنَا إِلَى الصَّخْرَةِ فَإِنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ وَمَا أَنْسَانِيهُ إِلَّا الشَّيْطَانُ أَنْ أَذْكُرَهُ وَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ عَجَبًا
(63)
قولُهُ ـ تَعَالى شَأْنُهُ: {قَالَ أَرَأَيْتَ إِذْ أَوَيْنَا إِلَى الصَّخْرَةِ} أَيّْ: عِنْدَمَا طَلَبَ سيِّدُنا مُوسَى مِنْ فَتَاهُ أَنْ يَأْتيهِ بالحُوتِ لِطَعامِ الغَدَاءِ، قَالَ لَهُ فَتَاهُ: أَرَأَيْتَ مَا حَدَثَ لِي مِنَ أَمْرِ الحُوتِ حينَ أَوَيْنَا إِلَى الصَّخْرَةِ، فَحَذَفَ مَفْعُولَ "أَرَأَيْتَ" لِأَنَّ قَوْلَهُ بَعْدَهَ: فَإِنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ يَدُلُّ عَلَيْهِ. وإِنَّما يَقَولُ أَحَدُهُمْ مِثْلُ هَذَا الكلامِ إِذَا حَدَثَ لَهُ أَمْرٌ عَجِيبٌ، فإِنَّهُ يَقَولَ لِصَاحِبِهِ: أَرَأَيْتَ مَا حَدَثَ لي؟.
وقالَ أَبو الحَسَنِ الأَخْفَشُ هُنَا كلامًا حَسَنًا وَهُوَ: (أَنَّ العَرَبَ أَخْرَجَتْها عَنْ مَعْنَاهَا بالكُلِّيَّةِ، فَقَالُوا: "أَرَأَيْتَك"، وَ "أَرَيْتَكَ" بِحَذْفِ الهَمْزَةِ إِذا كانَتْ بِمَعْنَى: أَخْبِرْني، وإِذَا كَانَتْ بِمَعْنَى: اَبْصَرْتَ لَمْ تُحْذَفْ هَمْزَتُها). وشَذَّتْ أَيْضًا فَأَلْزَمْتَها الخطابَ عَلى هَذا المَعْنَى، وَلَا تَقُولُ فِيها أَبَدًا: "أَراني زَيْدًا عَمْرًا مَا صَنَعَ"، وَتَقولُ هَذَا عَلَى مَعْنَى "اعْلَمْ". وشذَّتْ أَيْضًا فَأَخْرَجْتَها عَنْ مَوْضِعِها بالكُلِّيَّةِ بِدَلِيلِ دُخُولِ الفاءِ، أَلَا تَرَى قوْلَهُ تعالى: "أَرَأَيْتَ إِذْ أَوَيْنَا إِلَى الصَّخْرَةِ فَإِنِّي" فَمَا دَخَلَتِ الفاءُ إِلَّا وَقَدْ أُخْرِجَتْ إِلَى مَعْنَى: "أَمَّا"، أَوْ "تَنَبَّهْ". والمَعْنَى: أَمَّا إِذا أَوَيْنا إِلَى الصَّخْرَةِ فَإِنِّي نَسِيْتُ الحُوتَ. وَقَدْ أَخْرَجْتَها أَيْضًا إِلى مَعْنَى أَخْبِرْني كَمَا قَدَّمْنا. وإذا كانَتْ بمعنى أخبِرْني فلا بُدَّ مِنَ الاسْمِ المُسْتَخْبَرِ عَنْهُ بَعْدَها، وَتَلْزَمُ الجُمْلَةُ التي بَعْدَهَا الاسْتِفْهامَ. وَقَدْ تَخْرُجُ لِمَعْنَى "أَمَّا"، وَيَكونُ أَبَدًا بَعْدَها الشَّرْطُ وَظُرُوفُ الزَّمانِ، فَإنَّ مَعْنَى قَوْلِهِ: "فَإِنِّي نَسِيْتُ" أَمَّا إِذْ أَوَيْنا فَإِنِّي، أَوْ تَنَبَّهْ إِذْ أَوَيْنَا، وَلَيْسَتِ الفاءُ إِلَّا جَوَابًا لـ "أَرَأَيْتَ" لِأَنَّ "إذْ" لَا يَصِحُّ أَنْ يُجَازي بِهَا إِلَّا مَقْرونَةً بـ "ما" بِلَا خِلافٍ).
وقالَ الزَّمَخْشَرِيُّ في تفسيرِهِ الكَشَّاف: "أَرَأَيْتَ" بِمَعْنى "أَخْبِرْني". فإِنْ قُلْتَ: مَا وَجْهُ الْتِئَامِ هَذَا الكَلامِ، فَإِنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْ "أَرَأَيْتَ"، وَمِنْ "إِذْ أَوَيْنا"، وَمِنْ "فَإِنِّي نَسِيْتُ الحُوتَ" لَا مُتَعَلِّقَ لَهُ؟. قُلْتُ: لَمَّا طَلَبَ مُوسَى ـ عَلَيْهِ السَّلامُ، الحُوتَ ذَكَرَ يُوشَعُ مَا رَأَى مِنْهُ، وَمَا اعْتَرَاهُ مِنْ نِسْيانِهِ، إِلَى تِلْكَ الغَايَةِ، وَدُهِشَ، فَطَفِقَ يَسْأَلُ مُوسَى عَنْ سَبَبِ ذَلِكَ كَأَنَّهُ قالَ: أَرَأَيْتَ مَا دَهَانِي إِذْ أَوَيْنا إِلَى الصَّخْرَةِ؟. فَإِنِّي نَسِيتُ الحُوتَ. فَحذفَ ذَلِكَ.
قالَ أبو حيَّانَ الأَنْدَلُسِيُّ في تفسيرهِ البَحْر: وَهَذانِ مَفْقودانِ فِي تَقْديرِ الزَمَخْشَرِيِّ "أَرَأَيْتَ" بِمَعْنَى أَخْبِرْني. يَعْني الشَّيْخُ أبو حيَّانَ بِـ "هَذَيْنِ" مَا تَقَدَّمَ فِي كَلامِ سَعيدٍ الأَخْفَشِ مِنْ أَنَّهُ لا بُدَّ بَعْدَهَا مِنَ الاسْمِ المُسْتَخْبَرِ عَنْهُ وَلُزومِ الاسْتِفْهامِ الجُمْلَةَ التي بَعْدَهَا.
قَوْلُهُ: {فَإِنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ} النِّسْيَانِ ضِدُّ الذِّكْرَ، والْمُرَادُ بِهِ اشْتِغالُ قَلْبُ الْإِنْسَانِ بِوَسَاوِسِهِ الَّتِي هِيَ مِنْ فِعْلِهِ، والجُمْلَةُ اعْتِرَاضٌ وَقَعَ بَيْنَ الْمَعْطُوفِ وَالْمَعْطُوفِ عَلَيْهِ لأَنَّهُ يَجْرِي مَجْرَى الْعُذْرِ وَالْعِلَّةِ لِوُقُوعِ ذَلِكَ النِّسْيَانِ، أَي: فَإِنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ وَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ عَجَبًا.
قِيلَ: إِنَّ النِّسْيَانَ كَانَ مِنْهُمَا لِقَوْلِهِ تَعَالَى مِنَ الآيةِ التي قبلَها: {نَسِيا حُوتَهُما} فَنَسَبَ النِّسْيَانَ إِلَيْهِمَا معًا، وَذَلِكَ أَنَّ حَمْلَ الْحُوْتِ كَانَ في البدايةِ مِنْ سيِّدِنا مُوسَى ـ عليهِ السلامُ، لِأَنَّهُ الَّذِي دفعَهُ إلَيْهِ وأمَرَه بِحملِهِ، فَلَمَّا مَضَيَا حَمَلَهُ لَهُ فَتَاهُ حَتَّى أَوَيَا إِلَى الصَّخْرَةِ "فَلَمَّا جاوَزا" الْحُوتَ، أَوِ أَنَّ مَفْعولَ التجاوزِ هو المَكانُ الذي اسْتَراحَا فيه، ثمَّ تابعا سيْرَهُما ونَسِيَا فِيهِ حوتَهُما، فَلَمَّا سَأَلَ مُوسَى الْغَدَاءَ نَسَبَ الْفَتَى النِّسْيَانَ إِلَى نَفْسِهِ عِنْدَ الْمُخَاطَبَةِ، وَإِنَّمَا ذَكَرَ اللهُ نِسْيَانَهُمَا عِنْدَ بُلُوغِهما مَجْمَعِ الْبَحْرَيْنِ، وَهُوَ الصَّخْرَةُ، فَكَانَ مُوسَى ـ عليهِ السَّلامُ شَرِيكًا لِفَتَاهُ فِي النِّسْيَانِ، ويَأْتي النِّسْيَانُ بَمَعنى التَّأْخِيرِ، ومِنْ ذَلِكَ ما يقالُ فِي الدُّعَاءِ: أَنْسَأَ اللهُ لَكَ فِي أَجَلِكَ. فَلَمَّا مَضَيَا المَكانَ الذي فيهِ الصَّخْرَةُ التي استراحا عندها لَمْ يَحْمِلِ أيٌّ مِنْهُما الحُوتَ فَجَازَ أَنْ يُنْسَبَ النِسْيانُ إِلَيْهِمَا لِأَنَّهُمَا مَضَيَا وَتَرَكَاهُ.
قَوْلُهُ: {وَمَا أَنْسَانِيهُ إِلَّا الشَّيْطَانُ أَنْ أَذْكُرَهُ} إِنَّمَا ذَكَرَ هَذَا فتاهُ يُوشَعُ فِي مَعْرِضِ الِاعْتِذَارِ لِقَوْلِ مُوسَى ـ علَيْهِ السَّلامُ، لَهُ: لَا أُكَلِّفُكَ إِلَّا أَنْ تُخْبِرَنِي بِحَيْثُ يُفَارِقُكَ الحُوتُ، فَقَالَ يُوشَعُ: مَا كَلَّفْتَ كَبِيرًا، فَاعْتَذَرَ بِذَلِكَ الْقَوْلِ.
وفِيهِ دَليلٌ عَلَى أَنَّهُ تَعَالَى مَا خَلَقَ ذَلِكَ النِّسْيَانَ، وَمَا أَرَادَهُ، وَإِلَّا كَانَتْ إِضَافَتُهُ إِلَى اللهِ تَعَالَى أَوْجَبَ مِنْ إِضَافَتِهِ إِلَى الشَّيْطَانِ، لِأَنَّهُ تَعَالَى إِذَا خَلَقَهُ فِيهِ لَمْ يَكُنْ لِسَعْيِ الشَّيْطَانِ فِي وُجُودِهِ وَلَا فِي عَدَمِهِ أَثَرٌ.
وَ "أَنْ" هُنَا مَعَ الْفِعْلِ "أَذكُرَ"، في تَأْوِيلِ مَصْدَرٍ مَنْصُوبٍ عَلَى أَنَّهُ بَدَلُ اشْتِمَالٍ مِنَ الضَّمِيرِ فِي "أَنْسانِيهُ"، وَهُوَ بَدَلُ الظَّاهِرِ مِنَ الْمُضْمَرِ، أَيْ: وَمَا أَنْسَانِي ذِكْرَهُ إِلَّا الشَّيْطَانُ. وَهُوَ فِي مُصْحَفِ عَبْدِ اللهِ بْنِ مَسْعودٍ ـ رَضِيَ اللهُ عنهُ: "وَمَا أَنْسَانِيهِ أَنْ أَذْكُرَهُ إِلَّا الشَّيْطَانُ".
قَوْلُهُ: {وَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ عَجَبًا} يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ إِخْبَارًا مِنَ اللهِ تَعَالَى، وَالخَبَرُ إِمَّا عَنْ مُوسَى أَنَّهُ اتَّخَذَ سَبِيلَ الْحُوتِ مِنَ الْبَحْرِ عَجَبًا، أَيْ تَعَجَّبَ مِنْهُ. وَإِمَّا عَنِ الحُوتِ: أَيْ: إِنَّ الحُوتَ اتَّخَذَ لَهُ في البَحْرِ طَريقًا عَجَبًا لأَنَّ ماءَ البَحْرِ كانَ يَجْمَدُ بِمُجَرَّدِ مُلامَسِتِهِ لَهُ ـ كَمَا تَقَدَّمَ في تَفْسيرِ الآيَةِ السَّابِقَةِ، فَيَسيرُ مُوسَى ـ عَلَيْهِ السَّلامُ، خَلَفَهُ، إِذًا فالْمَقْصُودُ بِـ (عَجَبًا) تَعَجُّبُ سَيِّدِنَا مُوسَى مِنْ تِلْكَ الْعَجِيبَةِ الَّتِي رَآهَا. وَمِنْ كَيْفَيَّةِ عودَةِ الحياةِ إِلَى الحُوتِ المَشْوِيِّ، حَتَّى قَفَزَ مِنَ المِكْتَلِ، مُتَّجِهٌ صَوْبَ الماءِ، حَقًّا يَا لَها مِنْ عَجيبَةٍ مِنَ العَجَائبِ كُبْرَى؛ لأَنَّهَا خَرَجَتْ عَنِ المَأْلوفِ. فيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ هذا مِنْ قَوْلِ يُوشَعَ لِمُوسَى، أَيِ اتَّخَذَ الْحُوتُ سَبِيلَهُ عَجَبًا لِلنَّاسِ. وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ تَمَامَ الْخَبَرِ، ثُمَّ اسْتَأْنَفَ التَّعْجِيبَ فَقَالَ مِنْ نَفْسِهِ: "عَجَبًا" لِهَذَا الْأَمْرِ.
ويُسْتفادُ مِنَ الآيةِ وُجوبُ اتِّخَاذِ الزَّادِ فِي الْأَسْفَارِ، وَهُوَ رَدٌّ عَلَى يَدَّعِيهِ بَعضُ الْجَهَلَةِ الْأَغْمَارِ مِنْ أَنَّهُمْ مُتَوَكِّلُونَ عَلَى اللهِ ولا حاجةَ لهم في ذلِكَ، فهَذَا نَبِيُّ اللهِ ورسولُهُ وَكَلِيمُهُ مِنْ بَيْنِ أَهْلِ الْأَرْضِ مُوسَى ـ عليهِ السَّلامُ، قَدِ اتَّخَذَ الزَّادَ مَعَ مَعْرِفَتِهِ بِرَبِّهِ، وَتَوَكُّلِهِ عَلَيْهِ حَقَّ التوكُّلِ. وَفِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ: ((إِنَّ نَاسًا مِنْ أَهْلِ الْيَمَنِ كَانُوا يَحُجُّونَ وَلَا يَتَزَوَّدُونَ، وَيَقُولُونَ: نَحْنُ الْمُتَوَكِّلُونَ، فَإِذَا قَدِمُوا سَأَلُوا النَّاسَ، فَأَنْزَلَ اللهُ تَعَالَى قولَهُ مِنْ سُورةِ البَقَرةِ: {وَتَزَوَّدُوا}.
وَأَمَّا زادُ مُوسَى فقد اخْتَلَفوا فِيهِ، فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ ـ رضِيَ اللهُ عنهُما: كَانَ حُوتًا مُمَلَّحًا فِي زِنْبِيلٍ، وَكَانَا يُصِيبَانِ مِنْهُ غَدَاءً وَعَشَاءً، فَلَمَّا انْتَهَيا إلى الصَّخْرَةِ عَلَى سَاحِلِ الْبَحْرِ، وَضَعَ فَتَاهُ الْمِكْتَلَ، فَأَصَابَ الْحُوتَ جَرْيُ الْبَحْرِ، فَتَحَرَّكَ الْحُوتُ فِي الْمِكْتَلِ، فَقُلِبَ الْمِكْتَلُ، وَانْسَرَبَ الْحُوتُ، وَنَسِيَ الْفَتَى أَنْ يَذْكُرَ ذَلِكَ لِمُوسَى. وَقِيلَ: إِنَّمَا كَانَ الْحُوتُ دَلِيلًا عَلَى مَوْضِعِ الْخَضِرِ ـ عليْهِ السَّلامُ، لِقَوْلِهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسلَّمَ، فِي الْحَدِيثِ الشريفِ المُتَقَدِّمِ ذِكْرُهُ أَوَّلَ القِصَّةِ: (احْمِلْ مَعَكَ حُوتًا فِي مِكْتَلٍ، فَحَيْثُ فَقَدْتَ الْحُوتَ فَهُوَ ثَمَّ). وعَلَى هَذَا فَيَكُونا تَزَوَّدَا شَيْئًا آخَرَ غَيْرَ الْحُوتِ الوَارِدِ ذِكْرُهُ هُنَا والذي نَسِيَاهُ، وَهو ما اخْتَارَهُ ابْنُ عَطِيَّةَ، وروى عنْ أَبي الْفَضْلِ الْجَوْهَرِيَّ قُوْلَهُ: مَشَى مُوسَى إِلَى الْمُنَاجَاةِ، فَبَقِيَ أَرْبَعِينَ يَوْمًا لَمْ يَحْتَجْ إِلَى طَعَامٍ، وَلَمَّا مَشَى إِلَى بَشَرٍ، لَحِقَهُ الجُوعُ في بَعْضِ يَوْمٍ.
قوْلُهُ تَعَالى: {قَالَ أَرَأَيْتَ إِذْ أَوَيْنَا إِلَى الصَّخْرَةِ} قالَ: فِعْلٌ مَاضٍ مَبْنِيٌّ عَلَى الفَتْحِ، وفاعِلُهُ ضَميرٌ مُسْتترٌ فيهِ جوازًا تقديرُهُ (هو) يَعُودُ عَلى الفَتَى، والجُمْلَةُ مُسْتَأْنَفَةٌ لا مَحَلَّ لَهَا مِنَ الإعرابِ. و "أَرَأَيْتَ" الهَمْزةُ للاسْتِفهامِ، وَ "رَأَيْتَ" فِعْلٌ ماضٍ مَبْنِيٌّ عَلَى السُّكونِ لاتِّصالِهِ بِضَمِيرِ رَفْعٍ مُتَحَرِّكٍ هو تاءُ الفاعِلِ، وهي ضميرٌ متَّصِلٌ بِهِ في محلِّ الرَّفعِ فاعِلُهُ، وعلُ الرُّؤْيةِ هذا يَتَعَدَّى إِلى مَفْعُولَيْنِ لأَنَّهُ هُنَا بِمَعْنَى أَخْبِرْنِي، وَمَفْعُولاهُ مَحذوفان، والتَّقْديرُ: أَخْبِرْني مَا عَاقِبَةُ أَمْرَنَا، أَوْ أَخْبِرْني مَا دَهَانِي، وَنَابَنِي إَذْ أَوَيْنَا إِلَى الصَّخْرَةِ، والجملةُ في مَحَلِّ النَّصْبِ مَقُولُ "قالَ". و "إِذْ" ظَرْفٌ لِمَا مَضَى مِنَ الزَّمانِ، مُتَعَلِّقٌ بِمَعْمُولِ "أَرَأَيْتَ" المَحْذوفِ. و "أَوَيْنا" فِعْلٌ ماضٍ مَبْنِيٌّ عَلَى السُّكونِ لاتِّصالِهِ بِضَمِيرِ رَفْعٍ مُتَحَرِّكٍ هو "نا" جماعةِ المُتكلِّمينَ، وهوَ ضميرٌ متَّصِلٌ بِهِ مَبْنِيٌّ عَلى السُّكونِ في محلِّ الرَّفْعِ بالفاعِلِيَّةِ. و "إِلَى" حرفُ جرٍّ مُتَعَلِّقٌ بِـ "أَوَيْنا". وَ "الصَّخْرَةِ" مجرورٌ بحرْفِ الجَرِّ. والجُمْلَةُ الفِعْلِيَّةُ هَذِه فِي مَحَلِّ الجَرِّ بإضافةِ "إِذْ" إِلَيْهِا.
قَوْلُهُ: {فَإِنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ} الفاءُ: تَعْلِيلِيَّةٌ لِتَعْليلِ الدَّهْشَةِ التي اعْتَرَتْهُمَا مِمَّا نابَهُما، و "إِنِّي" حرفٌ ناصِبٌ ناسِخٌ مُشَبَّهٌ بالفِعْلِ، وَياءُ المتكلِّمِ ضميرٌ متَّصِلٌ بِهِ في محلِّ النَّصِبِ اسْمُهُ. و "نَسِيتُ" فِعْلٌ ماضٍ مَبْنِيٌّ عَلَى السُّكونِ لاتِّصالِهِ بِضَمِيرِ رَفْعٍ مُتَحَرِّكٍ هو تاءُ الفاعِلِ، وهي ضميرٌ متَّصِلٌ بِهِ في محلِّ الرَّفعِ فاعِلُهُ. و "الحوتَ" مَفْعُولٌ بِه منصوبٌ، والجُمْلَةُ الفِعْلِيَّةُ هذِهِ في مَحَلِّ الرَّفْعِ خَبَرُ "إِنَّ"، وَجُمْلَةُ "إِنَّ" فِي مَحَلِّ النَّصْبِ بالقولِ لـ "قالَ".
قَوْلُهُ: {وَمَا أَنْسَانِيهُ إِلَّا الشَّيْطَانُ} الواوُ: اعْتِراضِيَّةٌ، و "ما" نَافِيَةٌ. و "أَنْسانِي" فِعْلٌ مَاضٍ مبنيٌّ على الفتحِ المُقدَّرِ على آخرِهِ لِتَعَذُّرِ ظُهُورِهَا على الأَلِفِ، والنُّونُ للوِقايَةِ، والياءُ ضَمِيرُ المُتَكَّلِّمِ ضميرٌ متَّصِلٌ بِهِ في محلِّ النَّصْبِ بالمَفْعُوليَّةِ، وَالهاءُ" ضَمِيرٌ مُتَّصِلٌ بِهِ في مَحَلِّ النَّصْبِ مَفْعولٌ ثانٍ لـ "أَنْسانِي"، مَبْنِيٌّ عَلَى الضَّمِّ، عَلى قِراءَةِ حَفْصٍ، رُجُوعًا إِلَى الأَصْلِ فِي حَرَكَةِ بِناءِ هاءِ الضَّميرِ، وَإِنْ كانَ الكَسْرُ مُنَاسِبًا للياءِ قَبْلَهُ، كَمَا قَرَأَ الجُمْهورُ. و "إِلَّا" أَداةُ اسْتِثْناءٍ مُفَرَّغٍ، (أَداةُ حَصْرٍ). و "الشَّيْطانُ" مرفوعٌ بالفاعليَّةِ، والجُمْلَةُ الفِعْلِيَّةُ هَذِه ِمُعْتَرِضَةٌ لاعْتِراضِهَا بَيْنَ المَعْطوفِ، والمَعْطوفِ عَلَيْهِ، فلا محلَّ لها مِنَ الإعراب.
قولُهُ: {أَنْ أَذْكُرَهُ} أَنْ: حرفٌ ناصِبٌ مَصْدَريٌّ. و "أَذْكُرَه" فِعْلٌ مُضارعٌ مَنْصوبٌ بـ "أَنْ"، وَفاعِلُهُ ضَميرٌ مُسْتترٌ فيهِ وجوبًا تقديرُهُ "أَنَا" يَعُودُ عَلى فَتَى سيِّدِنا موسَى ـ عَلَيْهِ السَّلامُ، وَالهاءُ: ضميرٌ متَّصِلٌ بِهِ في محلِّ النَّصْبِ على المَفْعُوليَّةِ، وَهذِهِ الجُمْلَةُ الفِعْلِيَّةُ مَعَ أَنْ المَصْدَرِيَّةِ، فِي تَأْويلِ مَصْدَرٍ مَنْصوبٍ عَلى كَوْنِهِ بَدَلَ اشْتِمالٍ مِنَ "الهاءِ" فِي قولِهِ: "أَنْسانيهُ" والتَقْديرُ: وَمَا أَنْسَانِي ذِكْرَهُ إِلَّا الشَّيْطانُ.
قَوْلُهُ: {وَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ عَجَبًا} الواوُ: عاطفَةٌ، و "اتَّخَذَ" فِعْلٌ مَاضٍ مَبْنِيٌّ على الفتحِ، وَفاعِلُهُ ضَميرٌ مُسْتترٌ فيهِ جوازًا تقديرُهُ (هو) يَعودُ عَلى الحُوتِ، ويجوزُ أَنْ يَعودَ عَلى مُوسَى ـ عَلَيْهِ السَّلامُ. وَ "سَبِيلَهُ" مَفْعُولٌ بِهِ أَوَّلُ منصوبٌ، وهوَ مُضافٌ، والهاءُ: ضميرٌ مُتَّصِلٌ بِهِ في محلِّ الجرِّ بالإضافةِ إلَيْهِ. و "فِي" حرفُ جَرٍّ مُتَعَلِّقٌ بِـ "اتَّخَذَ" أَوْ بِحالٍ مِنْ "عَجَبًا"، و "الْبَحْرِ" مجرورٌ بحرفِ الجَرِّ. و "عَجَبًا" مَفْعُولُهُ الثاني مَنْصُوبٌ بِهِ، فَيَجوزُ أَنْ يَتَعَلَّقَ بِالاتِّخاذِ، ويَجوزُ أَنْ يتعلَّقَ بِمَحْذوفٍ عَلى أَنَّهُ حَالٌ مِنَ المَفْعُولِ الأَوَّلِ أَوِ الثانِي. ويَجُوزُ أَنْ يكونَ مَفْعولًا بِهِ، والعامِلُ فِيهِ مَحْذوفٌ، فَقَالَ صاحبُ الكَشَّافِ: أَوْ قالَ: عَجَبًا فِي آخِرِ كَلامِهِ تَعَجُّبًا مِنْ حَالِهِ. وقولُهُ: "وَمَا أَنْسَانِيهُ إِلاَّ الشيطان" اعْتِراضٌ بَيْنَ المَعْطوفِ والمَعْطوفِ عَلَيْهِ. فَظَاهِرُ هَذَا أَنَّهُ مَفْعُولٌ بـ "قالَ"، أَيْ: قالَ هَذَا اللَّفْظَ. ويَجُوزُ أَنْ يَكونَ مَصْدَرًا، وَتقديرُ العامِلِ فِيهِ: فَتَعَجَّبْ مِنْ ذَلِكَ عَجَبًا. وَيَجوزُ أَنْ يكونَ نَعْتًا لِمَصْدَرٍ مَحْذُوفٍ، نَاصِبُهُ "اتَّخَذَ"، أَيْ: اتَّخَذَ سَبِيلَهُ في البَحْرِ اتِّخاذًا عَجَبًا. وَعَلى هَذِهِ الأَقْوالِ الثَّلاثَةِ الأَخِيرَةِ يَكونُ "في البحر" مَفْعولًا ثانيًا لـ "اتَّخَذَ" إِنْ عَدَّيْناها لِمَفْعُولَيْنِ. وَالجُمْلَةُ فِي مَحْلَّ النَّصْبَ عَطْفًا عَلَى جُمْلَةِ "فَإِنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ" عَلى كَوْنِهَا مَقُولَ القولِ لِـ "قالَ".
قرَأَ العامةُ: {وَمَا أَنْسَانِيهِ} بِكَسْرِ الهاءِ، نَظَرًا إِلَى اللَّفْظِ، فَإِنَّها بَعْدَ يَاءٍ سَاكِنَةٍ. وقَرَأَ حَفْصٌ بِضَمِّها. وَكَذَا في قوْلِهِ مِنْ سُورَةِ الفَتْحِ: {عَلَيْهُ اللهَ} الآيَةَ: 10. قِيلَ: لِأَنَّ الياءَ هُنَا أَصْلُهَا الفَتْحُ، والهاءُ بَعْدَ الفَتْحَةِ مَضْمُومَةٌ فَنُظِرَ هُنَا إِلَى الأَصْلِ. وَأَمَّا فِي سُورَةِ الفَتْحِ فَلِأَنَّ الياءَ عَارِضَةٌ إِذْ أَصْلُهَا الأَلِفُ، وَالهَاءُ بَعْدَ الأَلِفِ مَضْمُومَةٌ فَنُظِرَ إِلَى الأَصْلِ أَيْضًا. وَقدْ جَمَعَ حَفْصُ فِي قِراءَتِهِ بَيْنَ اللُّغاتِ فِي هاءِ الكِنَايَةِ: فإِنَّهُ ضَمَّ الهاءَ في "أَنْسانِيْهُ" فِي غَيْرِ صِلَةٍ، وَوَصَلَها بِيَاءٍ فِي قَوْلِهِ مِنْ سُورَةِ الفُرْقان: {فِيهِ مُهَانًا} الآية: 69.