وَما مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جاءَهُمُ الْهُدى وَيَسْتَغْفِرُوا رَبَّهُمْ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمْ سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذابُ قُبُلًا (55)
قولُهُ ـ تَعَالى شَأْنُهُ: {وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جاءَهُمُ الْهُدى} أَيْ: مَا مَنَعَ كُفَّارَ قُرَيْشٍ مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ الذينَ مَضَى ذِكْرُهُمْ فيمَا تَقَدَّمَ مِنْ آياتٍ، أَنْ يُؤْمِنُوا بِمَا نَزَلَ عَلَى رَسُولِ اللهِ مُحَمَّدٍ ـ عَلَيْهِ وآلِهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ، مِنَ الهُدَى والذِّكْرِ الحَكيمِ. فَقَدْ قالَ ابْنُ عَبَّاسٍ ـ رَضِيَ اللهُ تَعَالَى عَنْهُمَا: المُرادُ بالنَّاسِ هُنَا: أَهلُ مَكَّةَ، انْظُرْ: (الجامِعُ لأَحكامِ القُرْآنِ للإمامِ القُرْطُبِيِّ): (10/110).
وقيلَ إِنَّ مَعْنَى الْآيَةِ: وَمَا مَنَعَ النَّاسَ مِنَ الْإِيمَانِ وَالِاسْتِغْفَارِ إِذْ جَاءَتْهُمُ الرُّسُلُ بِالْبَيِّنَاتِ الْوَاضِحَاتِ، إِلَّا مَا سَبَقَ فِي عِلْمِنَا: مِنْ أَنَّهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ، بَلْ يَسْتَمِرُّونَ عَلَى كُفْرِهِمْ حَتَّى تَأْتِيَهُمْ سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ مِنَ كُفَّارِ الأمَمِ السَّابِقَةِ، وَإِتْيَانُ الْعَذَابِ إِيَّاهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ قُبُلًا، وَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ فَالْآيَاتُ الدَّالَّةُ عَلَى هَذَا الْمَعْنَى كَثِيرَةٌ جِدًّا، كَقَوْلِهِ تَعَالَى مِنْ سُورَةِ المائدَةَ: {وَمَنْ يُرِدِ اللهُ فِتْنَتَهُ فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللهِ شَيْئًا، أُولَئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللهُ أَنْ يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ، لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ، وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ} الآية: 41، وكقولِهِ تَعَالى مِنْ سُورةِ يونُسَ ـ عليْهِ السَّلامُ: {إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ * وَلَوْ جَاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ} الآيتانِ: (96 و 97)، وَكَقَوْلِهِ في الآيةِ: 101، بعْدَها: {وَمَا تُغْنِي الْآيَاتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ}، وَقَوْلِهِ منْ في الآيةِ: 37، مِنْ سُورَةِ النَّحْلِ: {إِنْ تَحْرِصْ عَلَى هُدَاهُمْ فَإِنَّ اللهَ لَا يَهْدِي مَنْ يُضِلُّ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ}، وَالْآيَاتُ فِي مِثْلِ هَذَا الْمَعْنَى كَثِيرَةٌ.
وْقِيلَ: إِنَّ فِي الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ مُضَافًا مَحْذُوفًا، تَقْدِيرُهُ: وَمَا مَنَعَ النَّاسَ مِنَ الْإِيمَانِ وَالِاسْتِغْفَارِ إِلَّا طَلَبُهُمْ أَنْ تَأْتِيَهُمْ سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ، أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذَابُ قُبُلًا. وَالْآيَاتُ الدَّالَّةُ عَلَى طَلَبِهِمُ الْهَلَاكَ وَالْعَذَابَ عِنَادًا وَتَعَنُّتًا كَثِيرَةٌ جِدًّا، كَقَوْلِهِ في الآيَةِ: 77، مِنْ سُورَةِ الأَعْرَافِ: عَنْ قَوْمِ صَالِحٍ ـ عَلَيْهِ السَّلامُ: {وَقَالُوا يَا صَالِحُ ائْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ}، وَكَقَوْلِهِ في سُورَةِ هودٍ عَنْ قَوْمِ نُوحٍ ـ عَليْهِ السَّلامُ: {قَالُوا يَا نُوحُ قَدْ جَادَلْتَنَا فَأَكْثَرْتَ جِدَالَنَا فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ} الآية: 32. وكقولِهِ منْ سُورَةِ الشُّعَراءِ عَنْ قَوْمِ شُعَيْبٍ ـ عَليْهِ السَّلامُ: {فَأَسْقِطْ عَلَيْنَا كِسَفًا مِنَ السَّمَاءِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ} الآية: 187، وَكَقَوْلِهِ منْ سُورةِ العَنْكبوتِ عَنْ قَوْمِ لُوطٍ ـ عَلَيْهِ السَّلامُ: {فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قَالُوا ائْتِنَا بِعَذَابِ اللهِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ} الآية: 29، َكَقَوْلِهِ مِنْ سُورَةِ الأَحْقَافِ عَنْ قَوْمِ هُودٍ ـ عَلَيْهِ السَّلامُ: {قَالُوا أَجِئْتَنَا لِتَأْفِكَنَا عَنْ آلِهَتِنَا فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ} الآية: 22.
فَقدْ ذَكَرَ اللهُ تَعَالى في هَذِهِ الْآيَاتِ وَأَمْثَالِهَا مِنْ كتابِهِ العَزيزِ شَيْئًا مِنْ سُنَّةِ الْأَوَّلِينَ: وَطَلَبِهم تَعْجِيلَ الْعَذَابِ عِنَادًا مِنْهُمْ وَتَعَنُّتًا واسْتِكْبارًا، وَبَيَّنَ ـ سُبْحانَهُ وتَعَالَى، أَنَّهُ أَهْلَكَهُمْ جَمِيعًا بِعَذَابٍ شديدٍ مُسْتَأْصِلٍ، فأَهْلَكَ قَوْمَ نُوحٍ بِالطُّوفَانِ، وَأَهْلَكَ قَوْمَ صَالِحٍ بِالصَّيْحَةِ، وَقَوْمَ شُعَيْبٍ بِعَذَابِ يَوْمِ الظُّلَّةِ، وَقَوْمَ هُودٍ بِالرِّيحِ الْعَقِيمِ، وَقَوْمَ لُوطٍ بِالخَسْفِ فَجَعْلَ عَالِيَ قُرَاهُمْ سَافِلَهَا، وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ حِجَارَةً مِنْ سِجِّيلٍ مُسوَّمَةً، فأَبادَتْهُمْ فردًا فردًا حتى أَهلكتْهُمْ جميعًا كَمَا هُوَ مُفَصَّلٌ كلٌّ في مَكَانِهِ مِنْ الْقُرْآنِ الكريمِ. وَبَيَّنَ فِي آيَاتٍ كَثِيرَةٍ: أَنَّ كُفَّارَ هَذِهِ الْأُمَّةِ مِنْ مُشْرِكِي قُرَيْشٍ قَدْ سَأَلُوا عَذَابًا كَعذابِ أُولئكَ الذينَ مِنْ قبلِهِم فقالَ مِنْ سُورةِ الأَنْفالِ نَقَلًا عِنْهُمْ: {وَإِذْ قَالُوا اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} الآية: 32، وَقَال منْ سُورَةِ (ص): {وَقَالُوا رَبَّنَا عَجِّلْ لَنَا قِطَّنَا قَبْلَ يَوْمِ الْحِسَابِ} الآية: 16، فَمَعْنَى عَجِّلْ لَنَا قِطَّنَا أَيْ: نَصِيبَنَا الْمُقَدَّرَ لَنَا مِنَ الْعَذَابِ الَّذِي تَزْعُمُ وُقُوعَهُ بِنَا إِنْ لَمْ نُصَدِّقْكَ وَنُؤْمِنْ بِكَ، كَالنَّصِيبِ الَّذِي يُقَدِّرُهُ الْمَلِكُ فِي الْقِطِّ الَّذِي هُوَ كِتَابُ الْجَائِزَةِ، وَأَصْلُ الْقِطِّ: كِتَابُ الْمَلِكِ الَّذِي فِيهِ الْجَائِزَةُ، وَصَارَ يُطْلَقُ عَلَى النَّصِيبِ: وَمِنْهُ قَوْلُ الْأَعْشَى:
وَلَا الْمَلِكُ النُّعْمَانُ يَوْمَ لَقِيتُهُ ............. بِغِبْطَتِهِ يُعْطِي الْقُطُوطَ وَيَأْفَقُ
قَوْلُ الأَعْشى "يَأْفَقُ" معناهُ: يُفَضِّلُ بَعْضًا عَلَى بَعْضٍ فِي الْعَطَاءِ، وَالْآيَاتُ في مِثْلِ ذَلِكَ كَثِيرَةٌ، وَالأَظْهَرُ هوَ الْقَوْلُ الْأَوَّلُ، لِأَنَّ مَا لَا تَقْدِيرَ فِيهِ أَوْلَى مِمَّا فِيهِ تَقْدِيرٌ إِلَّا بِحُجَّةِ الرُّجُوعِ إِلَيْهَا تُثْبِتُ الْمَحْذُوفَ الْمُقَدَّرَ.
قولُهُ: {وَيَسْتَغْفِرُوا رَبَّهُمْ} الِاسْتِغْفَارُ هُوَ طَلَبُ العَبْدِ الْمَغْفِرَةِ مِنَ اللهِ ـ تَعَالى، لِمَا قَدْ سَلَفَ مِنْهُ الذُّنُوبِ والخطايا، والْإِنَابَةُ إِلَيْهِ، وَالنَّدَمُ عَلَى مَا فَاتَ مِنْهُ، وتَرْكُ قُرَناءُ السُّوءِ، مَعَ الْعَزْمِ والْتَصْميمِ عَلَى عَدَمِ الْعَوْدِةِ إِلَى مَا كانَ مِنْهُ البتَّةَ.
قولُهُ: {إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمْ سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ} أَيْ: مَا مَنَعَهُمْ مِنَ الإيمانِ باللهِ ورسولِهِ والكتابِ الذي فيهِ هداهم وصلاحُهمْ إِلَّا إِتْيَانُ سُنَّةِ الأَوَّلِينَ، أَيْ نَزُولِ العَذابِ بِهِمْ المُسْتَأْصِلِ لشَأْفتِهم، أَوْ انْتِظارُ ذَلِكَ، فهو عَلَى حَذْفِ مُضَافٍ، والمعنى: انْتِظارُ سُنَّةِ الأَوَّلِينَ، وهوَ الهَلاكُ. فالمَانِعُ لهم مِنَ الإيمانِ والاسْتِغْفارِ هوَ القَضَاءُ عَلَيْهِمْ كما فُعِلَ بالأُمَمِ المُتَقَدِّمَةِ، آيَةٌ يَرَوْنَها عِيانًا، كَعَادَةِ الأُمَمِ البائدةِ، فإنَّهم كانوا يُصِرُّنَ عَلَى عِنَادِهِمْ ولا يتعظونَ بغيرِهم حَتّى يَنْزِلَ بهِمْ عَذَابُ اللهِ فيُهلِكُم، وهذِهِ هِيَ سُنَّة اللهِ تَعَالى فِي خَلْقِهِ.
وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبي حَاتِمٍ عَنْ قَتَادَةَ ـ رَضِيَ اللهُ عنهُ، فِي قَوْلِهِ: "إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمْ سُنَّةُ الأَوَّلِينَ" قَالَ: عُقُوبَةُ الْأَوَّلينَ.
قوْلُهُ: {أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذابُ قُبُلًا} أَيْ يَأْتِيهِمْ كِفَاحًا جِهَارًا، لَيْلًا أَوْ نَهَارًا، فَجَأَةً فَيَبْغَتُهُمْ، وَهُمْ غافلونَ عَنْ شَأْنِهِمْ سَادِرُونَ في غيِّهِمْ، مِنْ حَيْثُ لَمْ يَكُونُوا يَتَوقَّعُونَ، فيُهْلِكُهُمْ، ويَقْضِي عَلَيْهِمْ، ويفنيهِمْ عنْ بَكْرةِ أَبيهم، واللهُ أَعْلَمُ.
وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أبي حَاتِمٍ، عَنْ مُجَاهِد ـ رَضِيَ اللهُ عنهُ، أَنَّهُ قَرَأَ: "أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذَابُ قبلًا" قَالَ: قَبَائِلَ.
وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبي شَيْبَةَ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبي حَاتِمٍ، عَن مُجَاهِدٍ ـ رَضِيَ اللهُ عنهُ، فِي قَوْلِهِ: "أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذَابُ قبلًا" قَالَ: فَجْأَةً.
وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبي حَاتِمٍ عَنْ قَتَادَةَ ـ رَضِيَ اللهُ عنهُ، أَنَّهُ قَرَأَ: "أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذَابُ قبلًا" فقال: أَيْ عِيَانًا.
وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبي حَاتِمٍ عَنِ الْأَعْمَش ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، فِي قَوْلِهِ: "قُبُلًا" قَالَ: جِهَارًا.
وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبي حَاتِمٍ عَنِ السُّدِّيِّ ـ رَضِيَ اللهُ عنهُ، فِي قَوْلِهِ: "أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذَابُ قبلًا" قَالَ: مُقَابِلَهُمْ فَيَنْظُرُونَ إِلَيْهِ.
قولُهُ تَعَالى: {وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا} الوَاوُ: للعَطْفَ أَوْ للاسْتِئْنافِ، وَ "مَا" للنَّفْيِ. وَ "مَنَعَ" فِعْلٌ مَاضٍ مَبْنِيٌّ عَلَى الفَتْحِ، وَفَاعِلُهُ المَصْدَرُ المُؤَوَّلُ مِنْ "أَنْ تَأْتِيَهُمْ" أَيْ: إِتْيَانُهم، أَوْ إِلَّا طَلَبُ أَنْ تَأْتِيَهُمْ، أَوْ إلَّا انْتِظَارُ أَنْ تَأْتِيَهُمْ، فيكونُ فِيهِ حَذْفُ مُضَافٍ. وَ "النَّاسَ" مَفْعُولٌ بِهِ أَوَّلُ مَنْصُوبٌ. وَ "أَنْ حَرْفٌ نَاصِبٌ مَصْدَرِيٌّ. وَ "يُؤْمِنُوا" فِعْلٌ مُضارعٌ منصوبٌ بِهِ، وعلامةُ نَصْبِهِ حذْفُ النُّونِ مِنْ آخِرِهِ لأنَّهُ مِنَ الأفعالِ الخمسَةِ، وواوُ الجماعَةِ ضميرٌ متَّصِلٌ بِهِ مبنيٌّ عل السكونِ في محلِّ الرَّفعِ بالفاعليَّةِ. والألفُ فارقةٌ، وَالجُمْلَةُ فِي تَأْويلِ مَصْدَرٍ مَنْصُوبٍ عَلَى كَوْنِهِ مَفْعُولًا ثانيًا لِـ "مَنَعَ"، والتقديرُ: وَمَا مَنَعَ النَّاسَ إِيْمَانَهُمْ، وَجُمْلَةُ "مَنَعَ" قيلَ: هيَ مَعْطوفَةٌ عَلَى جُمْلَةِ {وَلَقَدْ صَرَّفْنا فِي هذَا الْقُرْآنِ} الْآيةَ: 54، وَمَعْنَاهَا مُتَّصِلٌ تَمَامَ الِاتِّصَالِ بِمَعْنَى الْجُمْلَةِ الَّتِي قَبْلَهَا بِحَيْثُ لَوْ عُطِفَتْ عَلَيْهَا بِفَاءِ التَّفْرِيعِ لَكَانَ ذَلِكَ مُقْتَضَى الظَّاهِرِ، وَتُعْتَبَرُ جُمْلَةُ {وَكانَ الْإِنْسانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلًا} مِنَ الْآيَةِ: 54، السَّابِقَةِ مُعْتَرِضَةً بَيْنَهُمَا لَوْلَا أَنَّ فِي جَعْلِ هَذِهِ الْجُمْلَةِ مُسْتَقِلَّةً بِالْعَطْفِ اهْتِمَامًا بِمَضْمُونِهَا فِي ذَاتِهِ، بِحَيْثُ يُعَدُّ تَفْرِيعُهُ عَلَى مَضْمُونِ الَّتِي قَبْلَهَا يَحِيدُ بِهِ عَنِ الْمَوْقِعِ الْجَدِيرِ هُوَ بِهِ فِي نُفُوسِ السَّامِعِينَ إِذْ أُرِيدُ أَنْ يَكُونَ حَقِيقَةً مُقَرَّرَةً فِي النُّفُوسِ. وَلِهَذِهِ الْخُصُوصِيَّةِ عُدِلَ فِي هَذِهِ الْجُمْلَةِ عَنِ الْإِضْمَارِ إِلَى الْإِظْهَارِ بِقَوْلِهِ: "وَما مَنَعَ النَّاسَ"، وَبِقَوْلِهِ: "إِذْ جاءَهُمُ الْهُدى" دُونَ أَنْ يَقُولَ: وَمَا مَنَعَهُمْ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جَاءَهُمُ الْهُدَى قَصْدًا لِاسْتِقْلَالِ الْجُمْلَةِ بِذَاتِهَا غَيْرِ مُسْتَعَانَةٍ بِغَيْرِهَا، فَتَكُونُ فَائِدَةً مُسْتَقِلَّةً تَسْتَأْهِلُ تَوَجُّهَ الْعُقُولِ إِلَى وَعْيِهَا لِذَاتِهَا، لَا لِأَنَّهَا فَرْعٌ عَلَى غَيْرِهَا. وقيلَ: هِيَ مُسْتَأْنَفةٌ لَا مَحَلَّ لَهَا مِنَ الإِعْرابِ، واللهُ أَعلمُ.
قولُهُ: {إِذْ جاءَهُمُ الْهُدى} إِذْ: ظَرْفٌ لِمَا مَضَى مِنَ الزَّمَانِ، مُتَعَلِّقٌ بِـ "يُؤْمِنُوا". و "جاءَهُمُ" فعلٌ ماضٍ مبنيٌّ على الفتحِ، والهاءُ: ضميرٌ متَّصِلٌ بِهِ في محلِّ النَّصْبِ على المفعولِيَّةِ، والميمُ للجمعِ المُذكَّرِ. و "الْهُدى" فاعِلُهُ مرفوعٌ بِهِ، وعلامةُ رَفْعِهِ ضمَّةٌ مُقَدَّرةٌ عَلى آخِرِهِ لتَعَذُّرِ ظهورها على الأَلِفِ، والجُمْلَةُ فِي مَحَلِّ الجَرِّ بإِضافَةِ "إِذْ" إِلَيْها.
قوْلُهُ: {وَيَسْتَغْفِرُوا رَبَّهُمْ} الوَاوُ: حرفُ عَطْفٍ، وَ "يَسْتَغْفِرُوا" فعلٌ مُضارعُ منْصوبٌ بـ "أَنْ" عَطْفًا على "يؤْمِنوا"، وعلامةُ نَصْبِهِ حذْفُ النونِ مِنْ آخِرِهِ لأنَّهُ مِنَ الأفعالِ الخمسَةِ، وواوُ الجماعَةِ ضميرٌ متَّصِلٌ بِهِ مبنيٌّ عل السكونِ في محلِّ الرَّفعِ بالفاعليَّةِ. والألفُ فارقةٌ، وَالجُمْلَةُ معطوفةٌ على جملةِ "يُؤْمِنُوا". وَ "رَبَّهُمْ" مَفْعُولٌ بِهِ منصوبٌ، وهو مُضافٌ، والهاءُ: ضميرٌ مُتَّصِلٌ بِهِ في مَحلِّ الجَرِّ بالإضافةِ إلَيْهِ، والميمُ للجَمْعِ المُذَكَّرِ.
قوْلُهُ: {إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمْ سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ} إِلَّا: أَدَاةُ اسْتِثْناءٍ مُفَرَّغٍ "أَداةُ حَصْرٍ". و "أَنْ" حرفٌ نَاصِبٌ، و "تَأْتِيَهُمْ" فِعْلٌ مُضارعٌ منصوبٌ بها، والهاءُ: ضميرٌ مُتَّصِلٌ بِهِ في محلِّ النَّصْبِ مفْعولٌ بِهِ مُقدَّمٌ، والميمُ للجَمعِ المُذكَّرِ. وَ "سُنَّةُ" فاعِلُهُ مرفوعٌ بِهِ مُؤخَّرٌ، وهوَ مُضافٌ. و "الْأَوَّلِينَ" مجرورٌ بالإضافةِ إلَيْهِ، وعلامةُ جَرِّهِ الياءُ: لأنَّهُ جمعُ المُذكَّرِ السالمُ، والنونُ عِوَضٌ مِنَ التنوينِ في الاسْمِ المُفْرَدَ، وقد تقدَّمَ أنَّ الجُمْلَةَ فِي تَأْويلِ مَصْدَرٍ مَرْفُوعٍ عَلَى الفاعِلِيَّةِ لِـ "مَنَعَ" وَلَكِنَّهُ عَلَى تَقْديرِ مُضافٍ، وَالتَقْديرُ: وَمَا مَنَعَ النَّاسَ إِيمانُهم، وَقْتَ مَجِيءِ الهُدَى إِيَّاهُمْ، وَاسْتِغْفَارُهُمْ رَبَّهُمْ، إِلَّا إِتْيَانُ سُنَّةِ الأَوَّلِينَ إِيَّاهُمْ؛ أَيْ: إِلَّا انْتِظارُ إِتْيَانِ سُنَّةِ الأَوَّلينَ إِيَّاهُمْ.
قوْلُهُ: {أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذابُ قُبُلًا} أَوْ: حَرْفُ عَطْفٍ للتَّنْوِيعِ، وَ "يَأْتِيَهُمُ" فِعْلٌ مُضارعٌ مَنْصُوبٌ عَلى "تَأْتِيَهُمْ"، الأوَّلِ ولَهُ مِثْلُ إعْرابِهِ. وَ "العَذابُ" فَاعِلُهُ مَرْفُوعٌ بِهِ مُؤخَّرٌ. و "قُبُلًا" منصوبٌ عَلى الحالِ مِنَ الضَّميرِ، في ""تَأْتِيَهُمْ" أَوْ مِنَ العَذَابِ، والتَقْديرُ: أَوْ إِلَّا انْتِظارُ إِتْيَانِ العذابِ إِيَّاهُمْ حالَ كونِهِ "قُبُلًا".
قَرَأَهُ الْكُوفِيُّونَ: وَهُمْ عَاصِمٌ وَحَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ "قُبُلًا" بِضَمِّ الْقَافِ وَالْبَاءِ، جَمْعُ قَبِيلٍ، وَالْفَعِيلُ إِذَا كَانَ اسْمًا يُجْمَعُ عَلَى فُعُلٍ كَسَرِيرٍ وَسُرُرٍ، وَطَرِيقٍ وَطُرُقٍ، وَحَصِيرٍ وَحُصُرٍ، وَعَلَى هَذَا، فَمَعْنَى الْآيَةِ أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذَابُ قُبُلًا أَيْ: أَنْوَاعًا مُخْتَلِفَةً، يَتْلُو بَعْضُهَا بَعْضًا.
وَقَرَأَهُ الْأَرْبَعَةُ الْبَاقُونَ مِنَ السَّبْعَةِ القرَّاءِ: وَهُمْ نَافِعٌ، وَابْنُ كَثِيرٍ، وَأَبُو عَمْرٍو، وَابْنُ عَامِرٍ "قِبَلًا" بِكَسْرِ الْقَافِ وَفَتْحِ الْبَاءِ، كَ "عِنَبٍ"، وَعَلَيْهِ فَمَعْنَاهُ عِيَانًا، أَيْ: أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذَابُ عِيَانًا.
وَقَالَ مُجَاهِدٌ ـ رَضيَ اللهُ تَعَالى عنْهُ، "قُبُلًا" أَيْ: فَجْأَةً، وَالتَّحْقِيقُ: أَنَّ مَعْنَاهَا عِيَانًا، وَأَصْلُهُ مِنَ الْمُقَابَلَةِ، لِأَنَّ الْمُتَقَابِلَيْنِ يُعَايِنُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا الْآخَرَ.
وَذَكَرَ أَبُو عُبَيْدٍ: أَنَّ مَعْنَى الْقِرَاءَتَيْنِ وَاحِدٌ، وَأَنَّ مَعْنَاهُمَا عِيَانًا، وَأَصْلُهُ مِنَ الْمُقَابَلَةِ، فَهُوَ اسْمٌ جَامِدٌ مُؤَوَّلٌ بِمُشْتَقٍّ، لِأَنَّهُ فِي تَأْوِيلِ: أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذَابُ فِي حَالِ كَوْنِهِ أَنْوَاعًا وَضُرُوبًا مُخْتَلِفَةً.