فَعَسَى رَبِّي أَنْ يُؤْتِيَنِ خَيْرًا مِنْ جَنَّتِكَ وَيُرْسِلَ عَلَيْهَا حُسْبَانًا مِنَ السَّمَاءِ فَتُصْبِحَ صَعِيدًا زَلَقًا (40)
قوْلُهُ ـ تَعَالَى شَأْنُهُ: {فَعَسَى رَبِّي أَنْ يُؤْتِيَنِ خَيْرًا مِنْ جَنَّتِكَ} قالَ ابْنُ عَبَّاسٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا: يُريدُ في الآخِرَةِ. وقالَ الزَّجَّاجُ في مَعَانِي القرآنِ وإِعْرابِهِ لَهُ: وجائِزٌ أَنْ يَكونَ أَرادَ فِي الدُنْيا. مَعَاني القُرْآنِ وإعرابُهُ: (3/290).
قَوْلُهُ: {وَيُرْسِلَ عَلَيْهَا حُسْبَانًا مِنَ السَّمَاءِ} الحُسْبَانُ: الحِسابُ، قالَ تَعَالَى مِنْ سُورَةِ الأَنْعامِ: {فَالِقُ الْإِصْبَاحِ وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَنًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ حُسْبَانًا} الآيةَ: 96. وقالَ مِنْ سُورَةِ الرَّحْمَنِ: {الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبَانٍ} الآيةَ: 5. وَالْحُسْبَانُ: مَصْدَرُ حَسَبَ كَ "الْغُفْرَانِ" مَصْدَرُ "غَفَرَ". وَهُوَ هُنَا صِفَةٌ لِمَوْصُوفٍ مَحْذُوفٍ، أَيْ: هَلَاكًا حُسْبَانًا، أَيْ مُقَدَّرًا مِنَ اللهِ ـ تَعَالَى، كَقَوْلِهِ مِنْ سُورةِ النَّبَأِ: {عَطاءً حِسَابًا} الآيَةَ: 36. وَقِيلَ: الْحُسْبَانُ اسْمُ جَمْعٍ لِسِهَامٍ قِصَارٍ يُرْمَى بِهَا فِي طَلْقٍ وَاحِدٍ وَلَيْسَ لَهُ مُفْرَدٌ. وَقِيلَ: اسْمُ جَمْعِ حُسْبَانَةٍ وَهِيَ الصَّاعِقَةُ. وَقِيلَ: اسْمٌ لِلْجَرَادِ. وَالْمَعَانِي الْأَرْبَعَةُ صَالِحَةٌ هُنَا. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبي شَيْبَةَ، وَابْنُ أَبي حَاتِمٍ، عَنِ الضَّحَّاكِ ـ رَضِيَ اللهُ عنْهُ، فِي قَوْلِهِ: "حُسْبَانًا مِنَ السَّمَاءِ" قَالَ: نَارًا. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَريرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا، أَنَّهُ قَالَ: الحُسْبَانُ: الْعَذَابُ. وَأَخْرَجَ الطَّسْتِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا، أَنَّ نَافِعَ بْنِ الْأَزْرَقِ، قَالَ لَهُ: أَخْبِرْنِي عَنْ قَوْلِهِ تَعَالى: "حُسْبَانًا مِنَ السَّمَاءِ" قَالَ: نَارًا. قَالَ: وَهلْ تَعْرِفُ الْعَرَبُ ذَلِكَ؟ قَالَ: نَعَم، أَمَا سَمِعْتَ حَسَّانَ بْنِ ثَابِتٍ ـ رَضِيَ اللهُ عنْهُ، وَهُوَ يَقُولُ:
بَقِيَّةُ مَعْشَرٍ صُبَّتْ عَلَيْهِم .................. شَآبِيبٌ مِنَ الحُسْبَانِ شُهْبُ
ورَوَى عَطاءٌ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا، أَنَّهُ قالَ: نَارًا مِنَ السَّمَاءَ. وَهُوَ قَوْلُ الكَلْبِيِّ. وَقَالَ قَتَادَةَ والضَّحَّاكَ: عَذابًا. وَقَالَ ابْن زَيْدٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا: قَضَاءً مِنْ أَمْرِ اللهِ يَقْضِيهِ. وَقَالَ الأَخْفَشُ في مَعَانِي القُرْآنِ لَهُ: الحُسْبَانُ المَرَامِي، واحِدَتُها حُسْبَانة: مَعَاني القُرْآنِ: (2/498). وَروى ثَعْلَبٌ عنِ ابْنِ الأَعْرَابي أَنَّهُ قالَ: أَرادَ بِالحُسْبَانِ المَرامِي، قَالَ: والحُسْبَانَةُ: السَّحَابَةُ، والحُسْبَانةُ أَيْضًا: الصَّاعِقَةُ. "تَهْذيبُ اللَّغَةِ" (1/811). وقالَ النَّضْرُ بْنُ شُميلٍ: الحُسْبَانُ: سِهَامٌ يَرْمي بِهَا الرَّجُلُ في جَوْفِ قَصَبَةٍ، يَنْزِعُ القَوْسَ، ثُمَّ يَرْمِي بِعِشْرينَ مِنْهَا دَفْعَةً، فَلا تَمُرُّ بِشَيْءٍ إِلَّا عَقَرَتْهُ مِنْ صَاحِبِ سِلاحٍ وَغَيْرِهِ، فإِذَا نَزَعَ فِي القَصَبَةِ خَرَجَتِ الحُسْبَانُ كَأَنَّهَا غَيْثَةَ مَطَرٍ، فَتَفَرَّقَتْ فِي النَّاسِ، وَاحِدُها حُسْبَانَةٌ، قَالَ: والمَرَامِي مِثْلُ المَسَالِّ دَقِيقةٌ فِيهَا شَيْءٌ مِنْ طُوَلٍ لا حُروفَ لها. تَهْذيبُ اللُّغَةِ: (1/811)، و لسانُ العَرَبِ: (2/867). وَنَحْوَ هَذَا قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ في مَجَازِ القُرْآنِ لَهُ: (1/403)، وَابْنُ قُتَيْبَةَ في غَريبِ القُرْآنِ له: (1/267)، وَكذلِكَ قالَ جَميعُ أَهْلِ اللَّغَةِ. وَ "السَّمَاء": الْجَوُّ الْمُرْتَفِعُ فَوْقَ الْأَرْضِ، المُحيطُ بها.
قوْلُهُ: {فَتُصْبِحَ صَعِيدًا زَلَقًا} الصَّعِيدُ: وَجْهُ الْأَرْضِ. كَقَوْلِهِ تَعَالَى مِنْ سُورَةِ المائدَةِ: {فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا} الْآيةَ:6. وَفِي "اللِّسَانِ" عَنِ اللَّيْثِ بْنِ سعدٍ: يُقَالُ لِلْحَدِيقَةِ، إِذَا خَرِبَتْ وَذَهَبَ شَجْرَاؤُهَا: قَدْ صَارَتْ صَعِيدًا، أَيْ أَرْضًا مُسْتَوِيَةً لَا شَجَرَ فِيهَا. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَريرٍ، وَابْنُ الْمُنْذرِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا، فِي قَوْلِهِ: "فَتُصْبِحَ صَعِيدًا زَلَقًا" قَالَ: مِثْلَ الجُرُزِ. وَأَخَرْجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبي حَاتِمٍ، عَنْ قَتَادَةَ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: "حُسْبانًا مِنَ السَّمَاءِ" قَالَ: عَذَابًا "فَتُصْبِح صَعِيدًا زَلَقًا} أَي: قَدْ حُصِدَ مَا فِيهَا فَلَمْ يُتْرَكْ فِيهَا شَيْءٌ. وَ "الزَّلْقُ": الحَلْقُ، وَالزَّلِقُ: المَحْلوقُ، وَهوَ مِنْ قَوْلِهِمْ: زَلَقَ رَأْسَهُ، وَأَزْلَقَهُ، وَزَلَقَهُ أيْ: حَلَقَهُ. "تَهْذيبُ اللُّغَةِ": (2/1550)، و "مَقَايِيسُ اللُّغَةِ": (3/21)، و "القاموس المُحيطُ": (ص: 891)، و "الصِّحَاحُ": (4/1491). يُقَالُ: زَلَقَتِ الرِّجْلُ، إِذَا اضْطَرَبَتْ وَزَلَّتْ عَلَى الْأَرْضِ وَلَمْ تَسْتَقِرَّ عَلَيْها. وَقد وُصِفَتِ الْأَرْضِ بِذَلِكَ مُبَالَغَةً، أَيْ ذَاتَ زَلَقٍ، أَيْ هِيَ مُزْلَقَةٌ. إِذًا فَقَدْ شَبَّهَ اللهُ تَعَالَى الأَرضَ القاحِلَةَ الجَرداءَ التي لا شَجَرَ فِيهَا وَلَا نَبَاتَ بِالرَّأْسِ المَحْلُوقةِ. وَمْنْ ذَلِكَ قَوْلُ الشَّاعِرِ مُحَمَّدِ بْنِ يَسيرٍ الرِّياشيِّ البَصْرِيِّ:
قَدِّرْ لِرِجْلِكَ قَبْلَ الخَطْوِ مَنْزِلَهَا ............ فَمَنْ عَلَا زَلِقًا عَنْ غَرَّةٍ زَلَقَا
وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ ـ رَضِيَ اللهُ عنهُما، الكَلْبِيُّ وغَيْرُهُ: "صَعِيدًا زَلَقًا": أَرْضًا لا نَبَاتَ فِيهَا. قالَ الفَرَّاءُ: الزَّلقُ التُّرابُ الذي لا نَبَاتَ فِيهِ. "مَعاني القُرْآنِ": (2/145). وَقالَ قَتَادَةُ: وَفِي قَوْلِهِ: "صَعِيدًا زَلَقًا" يَقُولُ: قد حُصِدَ مَا فِيها فَلَمْ يُتْرَكْ فِيها شَيْءٌ. وَقريبًا منْ هَذا ما قالَهُ ابْنُ قُتَيْبَةِ: الزَّلَقُ: الإِمْلاسُ الذي تَزِلُّ عَلَيْهِ الأَقْدَامُ. "تَفْسيرِ غَريب القرآنِ" لَهُ: (1/267). والمَعْنَى: أَنَّ العَذَابَ يُهْلِكُهَا وَيُبْطِلُ غَلَّتَهَا.
قوْلُهُ تَعَالَى: {فَعَسَى رَبِّي أَنْ يُؤْتِيَنِ خَيْرًا مِنْ جَنَّتِكَ} الفاءُ: رَابِطَةٌ لِجَوابِ "إِنْ" الشَّرطيَّةِ وُجُوبًا مِنْ قولِهِ في الآية التي قبلَها {إِنْ تَرَنَي أنَا أَقلَّ مِنْكَ مالًا وولَدًا} لِكَوْنِ الجَوابِ جُمْلةً جَامِدَةً، و "عَسَى" فِعْلٌ مَاضٍ جامدٌ مِنْ أَفْعَالِ الرَّجاءِ. وَ "رَبِّي" اسْمُ "عَسَى" مَرْفوعٌ، وعَلاَمةُ رَفْعِهِ الضمَّةُ المُقدَّرةُ عَلَى ما قبلِ ياءِ المُتكَلِّمِ لانْشِغالِ المَحَلِّ بالحَرَكَةِ المناسِبةِ للياءِ، وهوَ مُضافٌ، وياءُ المُتكَلِّمِ ضميرٌ مُتَّصِلٌ بِهِ في محلِّ الجرِّ بالإضافةِ إليْهِ. وَ "أَنْ" حَرْفُ مَصَدَرٍ ونصْبٍ. و "يُؤْتِيَنِ" فِعْلٌ مُضارِعٌ مَنْصُوبٌ بِـ "أَنْ"، وعَلامَةُ نَصْبِهِ الفَتْحَةُ الظَاهِرَةُ عَلىَ الياءِ، وَفَاعِلُهُ ضَميرٌ مُسْتترٌ فيهِ جوازًا تقديرُهُ (هو) يَعُودُ عَلَى اللهِ ـ تَعَالَى، والنُّونُ للوِقَايَةِ، وَياءُ المُتَكَلِّمِ المَحْذُوفَةِ للتخفيفِ فِي مَحَلِّ النَّصْبِ مَفْعُولُه الأَوَّلُ. و "خَيْرًا" مَفْعُولٌ بِهِ ثانٍ لـ "أَتَى" و "مِنْ" حَرْفُ جَرٍّ مُتَعَلِّقٌ بِـ "خَيْرًا"، و "جَنَّتِكَ" مجرورٌ بحرفِ الجَرِّ مُضافٌ، وكافُ الخطابِ ضميرٌ متَّصِلٌ بِهِ في مَحَلِّ الجرِّ بالإضافةِ إلَيْهِ. وَالجُمْلَةُ الفِعْلِيَّةُ مَعَ "أَنْ" المَصْدَرِيَّةِ فِي تَأْويلِ مَصْدَرٍ مَنْصُوبٍ عَلى كَوْنِهِ خَبَرًا لِـ "عَسَى"، وَلَكِنَّهُ فِي تَأْويلِ مُشْتَقٍّ، وَالتَقْديرُ، فَعَسَى رَبِّي آتِيًا إِيَّايَ خَيْرًا مِنْ جَنَّتِكَ، وَجُمْلَةُ "عَسَى" فِي مَحَلِّ الجَزْمِ جَوَابٌ لِـ "إِنْ" الشَّرْطِيَةِ منَ الجملةِ السابقةِ، وجُمْلَةُ "إِنْ" الشَّرْطِيَّةُ فِي مَحَلِّ النَّصْبِ مَقُولُ القولِ لِـ {قالَ}.
قوْلُهُ: {وَيُرْسِلَ عَلَيْهَا حُسْبَانًا مِنَ السَّمَاءِ} الوَاوُ: حرفُ عطْفٍ، و "يُرْسِلَ" مَعْطوفٌ عَلَى "يُؤْتِيَ" مَنَصْوبٌ مَثْلُهُ بـ "أَنْ"، وَفَاعِلُهُ ضَمِيرٌ مُْتترٌ فيهِ جوازًا تقديرُهُ (هو) يَعُودُ عَلَى "رَبِّي". و "عَلَيْها" حرفُ جرٍّ مُتَعَلِّقٌ بِـ "يُرْسِلَ"، و "ها" ضميرٌ مُتَّصِلٌ بِهِ مَبْنِيٌّ عَلَى السُّكونِ في محلِّ الجرِّ بحرفِ الجَرِّ. و "حُسْبانًا" مَفْعولٌ بِهِ منْصوبٌ. و "مِنَ" حرفُ جرٍّ متعلِّقٌ بِصِفَةٍ لِـ "حُسْبانًا"، وَ "السَّماءِ" مجرورٌ بحرْفِ الجَرِّ.
قوْلُهُ: {فَتُصْبِحَ صَعِيدًا زَلَقًا} الفاءُ: هيَ حرْفٌ للعَطْفِ، وَ "تُصْبِحَ" فِعْلٌ مُضَارِعٌ ناقِصٌ مَنْصَوبٌ بـ "أَنْ" عَطْفًا عَلَى جملةِ قولِهِ: "يُرْسِلَ"، وَاسْمُهُ ضَمِيرٌ مُسْتترٌ فِيهِ جَوازًا تَقْديرُهُ (هِيَ) يَعُودُ عَلَى "جَنَّتِكَ". وَ "صَعِيدًا" خَبَرُ الفعلِ المُضَارعِ النَّاقِصِ: "تُصْبِحَ" مَنْصُوبٌ بِهِ. وَ "زَلَقًا" صِفَةٌ لِـ "صَعِيدًا" مَنْصُوبَةٌ مِثْلُهُ.