وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلًا رَجُلَيْنِ جَعَلْنَا لِأَحَدِهِمَا جَنَّتَيْنِ مِنْ أَعْنَابٍ وَحَفَفْنَاهُمَا بِنَخْلٍ وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمَا زَرْعًا (32)
قوْلُهُ ـ تَعالى شَأْنُهُ: {وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلًا رَجُلَيْنِ} ضَرْبُ المَثَلِ مَعْنَاهُ: إِيرادُهُ، وقد عَبَّرَ عَنْهُ بالضَّرْبِ، لِشِدَّةِ مَا يَحْدُثُ عَنْ ذَلِكَ مِنَ التَأْثيرِ فِي نَفْسِ السَّامِعِ. أَيْ: واضْرِبْ يا رَسُولَ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، للفَريقَيْنِ، فَريقِ المُؤْمِنِينَ الذينَ يَدْعُونَ رَبَّهم بالغَدَاةِ والعَشِيِّ يُريدونَ وَجْهَهُ ـ سُبْحانَهُ وتَعَالى، وفريقِ المُشْركينَ المُتَكَبِّرينَ مِنْ زُعَمَاءِ قُرَيْشٍ الذين طَلَبُوا مِنَ النَّبِيِّ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، طَرْدَهُم مِنْ مَجْلِسِهِ إِذا أَرادَ أَنْ يُؤْمِنَوا بِهِ ويُصَدِّقوهُ، ويُجَالِسُوهُ، وأَنْ يُخَصِّصَ لهم يومًا ولِأُولَئِكَ الفُقَراءِ يَوْمًا، بحسَبِ مَا تقدَّمَ بَيَانُهُ مِنْ خلالِ تَفْسيرِ الآيَةِ: 28، السَّابِقَةِ مِنْ هَذِهِ السُّورةِ المُباركَةِ. فقدْ مَثَّلَ لكلِّ فريقٍ مِنْهُما بِرَجُلٍ كَمَا سَيَأْتِي.
قَيلَ فِيمَا نَقَلَهُ عَنْهُ ابْنُ عَطِيَّةَ: إِنَّ الرَّجُلَيْنِ مُفْتَرَضٌ وُجودُهما، وَضَرْبُ المَثَلِ بهِمَا لَا يَقْتَضِي وُجُودَهُمَا حَقيقَةً، فَالْكَلَامُ عَلَى كُلِّ حَالٍ تَمْثِيلُ مَحْسُوسٍ بِمَحْسُوسٍ لِأَنَّ تِلْكَ الْحَالَةَ مُتَصَوَّرَةٌ مُتَخَيَّلَةٌ. وقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: فَهَذِهِ الْهَيْئَةُ الَّتِي ذَكَرَهَا اللهُ تَعَالَى لَا يَكَادُ الْمَرْءُ يَتَخَيَّلُ أَجْمَلَ مِنْهَا فِي مَكَاسِبِ النَّاسِ.
وَقِيلَ: الرَجُلانِ هما أَخَوانِ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ، واخْتَلَفُوا في اسْمَيْهِمَا فَقِيلَ: الأَوَّلُ اسْمُهُ (قَرْطوس) أَوْ (قَطْفير) وهوَ الكافرُ الذي ضُربَ بِهِ المَثَلُ لِمُشْرِكي قريشٍ، الآخَرُ اسْمُهُ (يَهُوذا) وذلكَ فِي قَوْلِ ابْنِ عَبَّاسٍ ـ رضَيَ اللهُ عَنْهُما، أَوْ (يَمْلِيخا) فِي قَوْلِ مُقَاتِل. وَرويَ أَيضًا عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُما ابْنَا مَلِكٍ مِنْ مُلوكِ بَني إِسْرَائيلَ، أَنْفَقَ أَحَدُهُمَا مَالَهُ فِي سَبيلِ اللهِ، واشْتَغَلَ الثاني بِزينَةِ الدُنْيَا ونَمَّى مَالَهُ حتى أَثرى ثراءً فاحشًا. وَرُوِيَ أيضًا أَنَّهُما كانَا حَدَّادَيْنِ كَسِبَا مَالًا؛ وَرُوِيَ أَنَّهُمَا وَرِثَا مِنْ أَبِيهِمَا ثَمَانِيَةَ آلافِ دِينَارٍ، لكُلٍّ مِنْهُما أَرْبَعَةُ آلافٍ، فاشْتَرَى الكافِرُ أَرْضًا بِأَلْفٍ، فَقَالَ المُؤْمِنُ: اللَّهُمَّ أَنَا أَشْتَري مِنْكَ أَرْضًا في الجَنَّةِ بِأَلْفٍ، فَتَصَدَّقَ بِها. ثُمَّ بَنَى أَخُوهُ دَارًا بِأَلْفٍ، فَقَالَ: اللَّهُمَّ إِنِّي أَشْتَرِي مِنْكَ دَارًا في الجَنَّةِ بِأَلْفٍ، فَتَصَدَّقَ بِها أَيْضًا، ثُمَّ تَزَوَّجَ الأوَّلُ امْرَأَةً بِأَلْفٍ ثالِثَةِ، فقال الثاني: اللَّهُمَّ إِنِّي جَعَلْتُ أَلْفًا صَدَاقًا للحُورِ العِينِ، فَتَصَدَّقَ بِهِ، ثُمَّ اشْتَرَى الكافرُ خَدَمًا ومَتَاعًا بِأَلْفٍ، فقالَ: اللَّهُمَّ إِنِّي أَشْتَرِي مِنْكَ الوِلْدَانَ المُخَلَّدينَ في الجَنَّةِ بِأَلْفٍ، فَتَصَدَّقَ بها، ثُمَّ أَصَابَتْهُ حَاجَةٌ فَجَلَسَ عَلَى طَريقِ أَخِيهِ، حتّى مَرَّ بِهِ فِي حَشَمِهِ وخدَمِهِ، فَتَعَرَّضَ لَهُ، فَطَرَدَهُ، وَوَبَّخَهُ عَلَى ما تَصَدَّقَ.
وَقَالَ الْكَلْبِيُّ: الْمَعْنِيُّ بِالرَّجُلَيْنِ رَجُلَانِ مِنْ بَنِي مَخْزُومٍ مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ: وهُما أَخَوَانِ مِنْ بَنِي مَخْزُومٍ، اسْمُ الأَوَّلِ: الأَسْوَدُ بْنُ عَبْدِ الْأَشَدِّ بْنِ عَبْدِ يَالِيلَ، وَكانَ كافِرًا باللهِ تَعَالَى، وَكانَ الثاني مُؤْمِنًا، واسْمُهُ عَبْدَ اللهِ بْنَ عَبْدِ الْأَشَدِّ بْنِ عَبْدِ يَالِيلَ، وهوَ أَبُو سَلَمَةَ زَوْجُ أُمِّ سَلَمَةَ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا، وَقَدِ اسْتُشْهِدَ فَتَزَوَّجَهَا رَسُولُ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ.
والآيةُ عَطْفٌ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَقُلِ الحقُّ مِنْ رَبِّكم} الآيَةَ: 29، السابقةَ، فَبَعْدَ أَنْ بَيَّنَ لَهُمْ مَا أَعَدَّ لِأَهْلِ الشِّرْكِ، وَذَكَرَ مَا يُقَابِلُهُ مِمَّا أَعَدَّهُ لِلَّذِينَ آمَنُوا، ضَرَبَ مَثَلًا لِحَالِ الْفَرِيقَيْنِ بِمِثْلِ قِصَّةٍ أَظْهَرَ اللهُ فِيهَا تَأْيِيدَهُ لِلْمُؤْمِنِ وَإِهَانَتَهُ لِلْكَافِرِ، فَكَانَ لِذَلِكَ الْمَثَلِ شَبَهٌ بِمَثَلِ قِصَّةِ أَصْحَابِ الْكَهْفِ مِنْ عَصْرٍ أَقْرَبَ لِعِلْمِ الْمُخَاطَبِينَ مِنْ عَصْرِ أَهْلِ الْكَهْفِ، فَضَرَبَ مَثَلًا لِلْفَرِيقَيْنِ لِلْمُشْرِكِينَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ بِمَثَلِ رَجُلَيْنِ كَانَ حَالُ أَحَدِهِمَا مُعْجَبًا مُؤْنِقًا، وَحَالُ الْآخَرِ بِخِلَافِ ذَلِكَ، فَكَانَتْ عَاقِبَةُ صَاحِبِ الْحَالِ المُونِقَةِ تَبَابًا وَخَسَارَةً، وَكَانَتْ عَاقِبَةُ الْآخَرِ نَجَاحًا، لِيُظْهِرَ لِلْفَرِيقَيْنِ مَا يَجُرُّهُ الْغُرُورُ وَالْإِعْجَابُ وَالْجَبَرُوتُ إِلَى صَاحِبِهِ مِنَ الْأَرْزَاءِ، وَمَا يَلْقَاهُ الْمُؤْمِنُ الْمُتَوَاضِعُ الْعَارِفُ بِسُنَنِ اللهِ فِي الْعَالَمِ مِنَ التَّذْكِيرِ وَالتَّدَبُّرِ فِي الْعَوَاقِبِ فَيَكُونُ مُعَرَّضًا لِلنَّجَاحِ والصَّلَاحِ والفلاحِ.
وَاللَّامُ فِي قَوْلِهِ: "لَهُمْ" يَجُوزُ هُنَا أَنْ يَتَعَلَّقَ بِفِعْلِ "اضْرِبْ"، وهو كَقَوْلِهِ تَعَالَى مِنْ سُورَةِ الرُّومِ: {ضَرَبَ لَكُمْ مَثَلًا مِنْ أَنْفُسِكُمْ} الآيَة: 28. وَيَجُوزُ أَنْ يَتَعَلَّقَ بِقَوْلِهِ: "مَثَلًا" تَعَلُّقَ الْحَالِ بِصَاحِبِهَا، أَيْ شَبَهًا لَهُمْ، أَيْ لِلْفَرِيقَيْنِ، كَمَا هُوَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى مِنْ سُورَةِ النَّحْلِ: {فَلا تَضْرِبُوا للهِ الْأَمْثالَ} الآيَةَ: 74، وَالْوَجْهُ أَنْ يَكُونَ مُتَنَازَعًا فِيهِ بَيْنَ "ضَرَبَ" وَ "مَثَلًا".
عَلَى الْوَجْهِ الْأَوَّلِ فَالضَّمِيرُ فِي "لَهُمْ" يَعُودُ إِلَى زُعَماءِ الْمُشْرِكِينَ مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ، وَإنْ لَمْ يَتَقَدَّمْ لَهُمْ ذِكْرٌ، وَعَلَى الْوَجْهِ الثَّانِي يَعُودُ إِلَى جَمَاعَةِ الْكَافِرِينَ وَالْمُؤْمِنِينَ.
ثُمَّ إِنْ كَانَ حَالُ هَذَيْنِ الرَّجُلَيْنِ الْمُمَثَّلُ بِهِ حَالًا مَعْرُوفًا فَالْكَلَامُ تَمْثِيلُ حَالٍ مَحْسُوسٍ بِحَالٍ مَحْسُوسٍ.
وَقد حَكَى مَصِيرَهُمَا فِي الْآخِرَةِ بِمَا جاءَ فِي الآياتِ: (50 ـ 57)، مِنْ سُورَةِ الصَّافَّاتِ فَقَالَ: {فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ يَتَساءَلُونَ * قالَ قائِلٌ مِنْهُمْ إِنِّي كانَ لِي قَرِينٌ * يَقُولُ أَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُصَدِّقِينَ * أَإِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَإِنَّا لَمَدِينُونَ * قَالَ هَلْ أَنْتُمْ مُطَّلِعُونَ * فَاطَّلَعَ فَرَآهُ فِي سَوَاءِ الْجَحِيمِ * قَالَ تَاللهِ إِنْ كِدْتَ لَتُرْدِينِ * وَلَوْلَا نِعْمَةُ رَبِّي لَكُنْتُ مِنَ الْمُحْضَرِينَ}، فَتَكُونُ قِصَّتُهُمَا مَعْلُومَةً بِمَا نَزَلَ فِيهَا مِنَ الْقُرْآنِ فِي سُورَةِ الصَّافَّاتِ قَبْلَ سُورَةِ الْكَهْفِ.
قوْلُهُ: {جَعَلْنَا لِأَحَدِهِمَا جَنَّتَيْنِ مِنْ أَعْنَابٍ} وَهَذَا الرَّجُلُ الذي ضُرِبَ مَثَلًا لِفَريقِ المُشْرِكينَ مِنْ أَثْرِياءِ قُرَيْشٍ. فقَدْ كانَتْ لَهُ جَنَّتانِ، اشْتَمَلَتا عَلَى الكثيرِ مِنَ الخيْراتِ كالأَعْنابِ ـ جُمْعُ عِنَبٍ، والحَبَةُ مِنْهُ: عِنَبَةٌ. والمُرادُ: مِنُهُ كُرُومٌ مُتَنَوِّعَةُ الثِّمارِ.
وَمَا ذَكَرَ لَنَا الْمُفَسِّرُونَ أَيْنَ كَانَتْ هاتَانِ الْجَنَّتَانِ، فَلَعَلَّهُمَا كَانَتَا بِالطَّائِفِ، لِأَنَّ جَنَّاتِ أَهْلِ مَكَّةَ كانَتْ فِيهِا.
والجنَّةُ هِيَ البُسْتانُ لِمَا أَخْرَجَ ابْنُ أَبي حَاتِمٍ عَنِ السُّدِّيِّ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: "جَعَلْنَا لِأَحَدِهِمَا جَنَّتَيْنِ مِنْ أَعْنَابٍ" قَالَ: إِنَّ الْجنَّة هِيَ الْبُسْتَان فَكَانَ لَهُ بُسْتَانٌ وَاحِدٌ، وَجِدَارٌ وَاحِدٌ، وَكَانَ بَيْنَهُمَا (أَيْ: بَيْنَ البُسْتانِ والجِدَارِ) نَهَرٌ، فَلِذَلِكَ سَمَّاهُ جَنَّةً فَصَارَتَا جَنَّتَيْنِ، لقولِهِ بعدَ ذَلِكَ: {وَدَخَلَ جَنَّتَهُ وَهُوَ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ} الآية: 35، وقولِهِ في الآيةِ: 39: {وَلَوْلَا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ مَا شَاءَ اللهُ لَا قُوَّةَ إِلَّا بِالله}، ولقولِهِ في الآيةِ: 42، بعدَها: {وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ فَأَصْبَحَ يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ عَلَى مَا أَنْفَقَ فِيهَا وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا}.
قوْلُهُ: {وَحَفَفْنَاهُمَا بِنَخْلٍ} أَيْ: أَحَطْنَاهُمَا بِنَخْلٍ، وجَعَلْنَا النَّخْلَ مُطْبِقًا بِهِمَا، لِيَكونَ كَالحِمَايَةِ النَّافِعَةِ لَهُمَا، والحَفُّ بالشَّيْءِ: مَعْناهُ الإِطافَةُ بِهِ، فيُقَولُونَ: حَفَّ القَوْمُ بِسَيِّدِهِمْ، يَحُفُّونَ بِهِ، (بِضَمِّ الحاءِ) إِذَا أَطافُوا بِهِ، وعَكَفُوا عَلَيْهِ، وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى مِنْ سُورَةِ الزُمَرِ: {وَتَرَى المَلائِكَةَ حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ يُسَبِّحونَ بِحَمْدِ ربِّهم} الآية: 75. وَيُقالُ: حَفَّ بالشَّيْءِ: إِذا طافَ بِهِ مِنْ جَمِيعِ جَوَانِبِهِ، كما هوَ في قوْلِ النَّابِغَةِ الذُّبْيَانِيِّ:
يَحُفُّهُ جانِبًا نِيْقٍ وَتُتْبِعُهُ ............... مِثْلَ الزُّجَاجَةِ لَمْ تُكْحَلْ مِنَ الرَّمَدِ
وحَفَّ القَوْمُ بالشَّيْءِ أَيْضًا: صَارُوا طائِفِينَ بِجَوانِبِهِ وَحَافَّتِهِ، وَحَفَفْتُهُ بِهِ، أَيْ: جَعَلْتُهُ مُطِيْفًا بِهِ.
وَفِي قوْلِهِ "وَحَفَفْنَاهُمَا بِنَخْلٍ" إِشَارَةٌ إِلَى حَقِيقَةِ أَنَّ الفَاعِلَ الوَحيدَ ـ عَلَى الحَقِيقَةِ، هوَ اللهُ تعَالى، فَضَميرُ المُعَظِّمِ نَفْسَهُ ـ سُبْحانَهُ وتَعَالَى "نَا" التعظيمِ، إِنَّما هوَ عائدٌ إِلى الحَقِّ ـ جَلَّ وَعَلا، وفي الظاهِرِ فإنَّ الرَّجُلَ هُوَ مَنْ غَرَسَ وتَعَهَّدَ.
قوْلُهُ: {وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمَا زَرْعًا} أَيْ: وجَعَلْنَا فِي وَسَطِهِمَا "زَرْعًا" وَبِذَلِكَ تَكونُ الجَنَّتانِ جَامِعَتَيْنِ لِلْأَقْواتِ وَالفَوَاكِهِ، مُشْتَمِلَتَيْنِ عَلَى مَا مِنْ شَأْنِهِ أَنْ يُفِيدَ الخَلْقَ، ويَشْرَحَ الصَّدْرَ.
قوْلُهُ تَعالى: {وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلًا رَجُلَيْنِ} الواوُ: اسْتِئْنَافِيَّةٌ، و "اضْرِبْ" فِعْلُ أَمْرٍ مبنيٌّ على السُّكونِ، وَفَاعِلُهُ ضَميرٌ مُسْتترٌ فِيهِ وُجوبًا تقديرُهُ (أَنْتَ) يَعُودُ عَلى سَيِّدِنا مُحَمَّدٍ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ، والجُمْلَةُ مُسْتَأْنَفَةٌ لا محلَّ لها مِنَ الإعرابِ. و "لَهُمْ" اللامُ: حَرْفُ جَرٍّ مُتَعَلِّقٌ بِـ "اضْرِبْ"، والهاءُ: ضميرٌ متَّصِلٌ بِهِ في محلِّ الجرِّ بحرفِ الجَرِّ، والميمُ للجمعِ المُذكَّرِ. و "مَثَلًا" مَنْصُوبٌ عَلَى أَنَّهُ مَفْعُولٌ بِهِ ثَانٍ لِـ "اضْرِبْ" لِأَنَّهُ بِمَعْنَى "اجْعَلْ". وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي سُورةِ البَقَرَةِ. أَنَّ "ضَرَبَ" مَعَ المَثَلِ، يَجُوزُ أَنْ يَتَعَدَّى لاثْنَيْنِ. وَقَالَ أَبُو البَقَاءِ العُكْبُريُّ: التَقْديرُ: مَثَلًا مَثَلَ رَجُلَيْنِ. و "رَجُلَيْنِ" مَنصوبٌ عَلى أَنَّهُ مَفعولٌ بِهِ أَوَّلُ لـ "اضْرِبْ"؛ أَيْ: وَاجْعَلْ رَجُلَيْنِ مَثَلًا، وَشبهًا لَّهم، فَـ "مَثَلًا رَجُلَيْنِ" مَفْعُولانِ لِـ "اضْرِبْ" أَوَّلُهُمَا ثَانِيهِمَا، لِأَنَّهُ المُحْتَاجُ إِلَى التَفْصِيلِ والبَيَانِ.
قولُهُ:{جَعَلْنَا لِأَحَدِهِمَا جَنَّتَيْنِ مِنْ أَعْنَابٍ} جَعَلْنا: فِعْلٌ ماضٍ مَبْنِيٌّ عَلَى السُّكونِ لاتِّصالِهِ بِضَمِيرِ رَفْعٍ مُتَحَرِّكٍ هُوَ "نَا" المُعَظِّمِ نَفْسَهُ ـ سُبْحانَهُ وتَعَالَى، وَ "نَا" التَعْظيمِ هَذِهِ، ضَمِيرٌ مُتَّصِلٌ بِهِ مَبْنِيٌّ عَلَى السُّكونِ في مَحَلِّ الرَّفْعِ فاعِلُهُ. وَ "لِأَحَدِهِما" اللامُ: حَرْفُ جَرٍّ مُتَعَلِّقٌ بِمَفْعُولٍ بِهِ ثَانٍ لِـ "جَعَلْنا"، و "أَحَدِهِما" مَجرورٌ بِحرْفِ الجَرِّ، وهو مُضافٌ، وَ "هما" ضَميرٌ مُتَّصِلٌ بِهِ في مَحَلِّ الجَرِّ بالإضافةِ إِلَيْهِ. و "جَنَّتَيْنِ" مَفْعُولٌ بِهِ أَوَّلُ مَنْصُوبٌ، وعَلَامَةُ نَصْبِهِ الياءُ لأَنَّهُ مُثنَّى. و "مِنْ" حَرْفُ جَرٍّ مُتَعَلِّقٌ بِصِفَةٍ لـ "جَنَّتَيْنِ"، و "أَعْنابٍ" مجرورٌ بِحَرْفِ الجَرِّ، والجُمْلَةُ الفِعْلِيَّةُ هَذِهِ فِي مَحَلِّ النَّصْبِ عَلَى كَونِهَا صِفَةً لِـ "رَجُلَيْنِ"، وَلَكِنَّهَا سَبَبِيَّةٌ أَيْضًا.
قوْلُهُ: {وَحَفَفْنَاهُمَا بِنَخْلٍ} الوَاوُ: حرفُ عَطْفٍ، و "حَفَفْناهُما" فِعْلٌ ماضٍ مَبْنِيٌّ عَلَى السُّكونِ لاتِّصالِهِ بِضَميرِ رَفْعٍ مُتَحَرِّكٍ هُوَ "نَا" المُعَظِّمِ نَفْسَهُ ـ سُبْحانَهُ، وَ "نَا" التَعْظيمِ، ضَمِيرٌ مُتَّصِلٌ بِهِ مَبْنِيٌّ عَلَى السُّكونِ في مَحَلِّ الرَّفْعِ فَاعِلُهُ، و "هُما" ضميرٌ مُتَّصِلٌ بِهِ في محلِّ النَّصِبِ مَفْعُولٌ بِهِ. و "بِنَخْلٍ" الباءُ: حَرْفُ جَرٍّ مُتَعَلِّقٌ بِـ "حَفَفْنَا"، و "نَخْلٍ" مَجْرُورٌ بِحَرْفِ الجَرِّ. والجُمْلةُ مَعْطُوفَةٌ عَلَى جُمْلَةِ "جَعَلْنا" عَلَى كَوْنِها في محلِّ النَّصْبِ صِفَةً لِـ "رَجُلَيْنِ".
قولُهُ: {وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمَا زَرْعًا} الوَاوُ: حرفُ جَرٍّ، و "جَعَلْنا" تقدَّمَ إِعْرابُهُ. و "بَيْنَ" مَنْصوبٌ على الظَّرْفِيَّةِ المكانيَّةِ مُتَعلِّقٌ بمَفْعُولٍ ثانٍ لِـ "جَعَلْنا"، وهوَ مُضافٌ، و "هُما" ضميرٌ متَّصِلٌ في محلِّ الجَرِّ بالإضافةِ إِلَيْهِ. و "زَرْعًا" منصوبٌ على أَنَّهُ مَفْعُولٌ بِهِ أَوَّلُ لِـ "جَعَلْنا"، وَالجُمْلَةُ الفعليَّةُ هَذِهِ مَعْطُوفَةٌ عَلَى جُمْلَةِ "جَعَلْنا لِأَحَدِهِما" عَلَى كَوْنِها في مَحَلِّ النَّصْبِ.