ثُمَّ بَعَثْنَاهُمْ لِنَعْلَمَ أَيُّ الْحِزْبَيْنِ أَحْصَى لِمَا لَبِثُوا أَمَدًا
(12)
قوْلُهُ ـ عَزَّ وَجَلَّ: {ثُمَّ بَعَثْنَاهُمْ لِنَعْلَمَ أَيُّ الْحِزْبَيْنِ أَحْصَى لِمَا لَبِثُوا أَمَدًا} فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ يَذْكُرُ لَنَا مَوْلانَا ـ جَلَّ ثَنَاؤُهُ، أَنَّ مِنْ حِكَمِ بَعْثِهِ لِأَصْحَابِ الْكَهْفِ مِنْ نَوْمَتِهِمُ الطَّوِيلَةِ تِلْكَ، أَنْ يُوضِحَ لِلنَّاسِ أَيُّ الْحِزْبَيْنِ الْلذَيْنِ اخْتَلَفَا فِي مُدَّةِ نَوْمِ هَوَ عَلَى الحَقِّ، أَو هوَ قريبٌ مِنْهُ.
وَأَكْثَرُ الْمُفَسِّرِينَ عَلَى أَنَّ الْحِزْبَيْنِ هُما أَصْحَابُ الْكَهْفِ، وَأَهْلُ الْمَدِينَةِ الَّذِينَ بُعِثَ الْفِتْيَةُ عَلَى عَهْدِهِمْ، لأَنَّهُ كانَ لَدَيْهِم تَأْرِيخٌ لاخْتِفائهِم، كَمَا تَقَدَّمَ بَيَانُهُ عِنْدَ تَفْسيرِ الآيَةِ التي قبلَها، مِنْ أَنَّ المَلِكَ الذي اخْتَفَى الفِتْيَةُ في عَهْدِهِ دَوَّنَ أَسْمَاءَهَمْ وتاريخَ اخْتِفائِهم عَلَى لَوْحٍ مِنْ رَصاصٍ، وَرَفَعَهُ في خِزَانَتِهِ، مُتَوَقِّعًا أَنْ يَكونَ لِاخْتِفائهم شَأْنٌ يومًا مَّا.
وَقِيلَ: الحِزْبَانِ هُمَا مِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ الْمَذْكُورَةِ، فقد كَانَ مِنْهُمْ مُؤْمِنُونَ وَكَافِرُونَ، وَقِيلَ: بَلْ الحِزْبَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي زَمَنِ أَصْحَابِ الْكَهْفِ. اخْتَلَفُوا فِي مُدَّةِ نَوْمِهِم، وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا: أَنَّ الْمُلُوكَ الَّذِينَ تَدَاوَلُوا مُلْكَ الْمَدِينَةِ حِزْبٌ، وَأَصْحَابُ الْكَهْفِ حِزْبٌ، وَالَّذِي يَدُلُّ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ: أَنَّ الْحِزْبَيْنِ كِلَيْهِمَا مِنْ أَصْحَابِ الْكَهْفِ، وَذَلِكَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى بَعْدَ ذَلِكَ في الآيَةِ: 19، مِنَ السُّورَةِ ذاتِها: {وَكَذَلِكَ بَعَثْنَاهُمْ لِيَتَسَاءَلُوا بَيْنَهُمْ، قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ كَمْ لَبِثْتُمْ؟ قَالُوا: لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ، قَالُوا رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثْتُمْ}، فَكَأَنَّ الَّذِينَ قَالُوا: {رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثْتُمْ} هُمُ الَّذِينَ عَلِمُوا أَنَّ لُبْثَهُمْ قَدْ تَطَاوَلَ، وَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: قَوْلُهُ تَعَالَى عَنْهُمْ: {رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثْتُمْ} يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُمْ لَمْ يُحْصُوا مُدَّةَ لُبْثِهِمْ، وَاللهُ أَعْلَمُ. وَقَدْ يُجَابُ عَنْهُ: بِأَنَّ رَدَّ الْعِلْمِ إِلَى اللهِ لَا يُنَافِي الْعِلْمَ، بِدَلِيلِ أَنَّهُ ـ سُبْحانَهَ، أَعْلَمَ نَبِيَّهُ ـ صَلَّى اللهُ عَليْهِ وَسَلَّمَ، بِمُدَّةِ لُبْثِهِمْ فِي الآيَةِ: 25، بِقَوْلِهِ: {وَلَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ ثلاثَ مِئَةً سِنِينَ وازْدادوا تِسْعًا}، كَمَا سَيَأْتي إِنْ شَاءَ اللهُ تَعَالى. ثُمَّ أَمَرَهُ بِرَدِّ الْعِلْمِ إِلَيْهِ تَعَالَى بقَوْلِهِ في الآيةِ: 26، فقالَ: {قُلِ اللهُ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثُوا}. وَالْبَعْثُ: التَّحْرِيكُ مِنْ سُكُونٍ، فَيَشْمَلُ بَعْثَ النَّائِمِ وَالْمَيِّتِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ.
ثمَّ إِنَّ قَوْلَهُ ـ جَلَّ جَلَالُهُ العَظِيمُ: "ثُمَّ بَعَثْنَاهُمْ لِنَعْلَمَ" لَا يَنْفِي عَلمَهُ بِذَلِكَ قَبْلَ بَعْثِهِمْ، بَلْ هُوَ عَالِمٌ بِكُلِّ مَا كانَ ومَا سَيَكُونُ قَبْلَ أَنْ يَكُونَ، فإِنَّهُ ـ تَبَاركَتْ أَسْماؤهُ: لَا تَخْفَى عَلَيْهِ خافيةٌ، قَالَ تَعَالَى مَنْ سُورَةِ البَقَرَةِ: {يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ} الآيةَ: 255، وقالَ في سُورَةِ طه: {يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا} الآيةَ: 110، وقالَ مِنْ سُورَةِ الأَنْبِياءِ: {يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ} الآيَةَ: 28، وقالَ مِنْ سُورةِ الحَجِّ: {يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَإِلَى اللهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ} الآيةَ: 76، إِلَى غَيْرِها مِنَ الْآيَاتِ الدَّالَّةِ عَلَى علْمِهِ المُطْلَقِ غيْرِ المَحْدُودِ وهوَ يَقْبَلُهُ العَقَلُ ويؤيِّدُهُ المَنْطِقُ، إذْ لَوْ كانَ عِلْمُهُ مَحْدُودًا، أَوْ مُحْتاجًا إِلَى واسِطةٍ أَوْ وَسِيلَةٍ، ما كانَ إِلَهًا. إِذًا فَمَعْنَى "لِنَعْلَمَ أَيُّ الْحِزْبَيْنِ" أَيْ: لِنُظْهِرَ حَقِيقَةَ ذَلِكَ لِلنَّاسِ، فَلَا يُنَافِي أَنَّهُ كَانَ عَالِمًا بِهِ قَبْلَ ذَلِكَ دُونَ خَلْقِهِ.
قوْلُهُ تَعَالى: {ثُمَّ بَعَثْنَاهُمْ لِنَعْلَمَ أَيُّ الْحِزْبَيْنِ أَحْصَى لِمَا لَبِثُوا أَمَدًا} ثُمَّ: حَرْفُ عَطْفٍ. و "بَعَثْناهُمْ" فِعْلٌ ماضٍ مبنيٌّ عَلى السُّكونِ لاتِّصالِهِ بضميرِ رَفْعٍ متحرِّكٍ هوَ "نا" المُعَظِّمِ نَفْسَهُ ـ سُبْحانَهُ، وَ "نا" التَعْظيمِ هَذِهِ ضميرٌ متَّصِلٌ بِهِ مَبْنِيٌّ عَلَى السُّكونِ في محلِّ الرَّفْعِ فَاعِلُهُ، والهاءُ: ضميرٌ مُتَّصِلٌ بِهِ في محلِّ النَّصْبِ بالمَفْعُوليَّةِ، والميمُ للجمعِ المذكَّرِ، والجُمْلةُ مَعْطوفةٌ عَلَى جُمْلَةِ {ضَرَبْنَا} مِنَ الآيَةِ التي قَبْلَها عَلى كَوْنِها فِي مَحَلِّ الجَرِّ. و "لِنَعْلَمَ" اللامُ: حَرْفُ جَرٍّ وَتَعْلِيلٍ، أَوْ هي العاقِبَةُ، و "نَعْلَمَ" فِعْلٌ مُضَارِعٌ مَنْصُوبٌ بِـ "أَنْ" مُضْمَرَةً بَعْدَ لامِ "كَيْ"، وَفاعِلُهُ ضَمِيرٌ مُسْتَتِرٌ فيهِ وُجوبًا تقديرُهُ (نحنُ) يَعُودُ عَلَى اللهِ تَعَالى، والجُمْلَةُ الفِعْلِيَّةُ هَذِهِ مَعَ "أَنْ" المُضْمَرَةِ فِي تَأْويلِ مَصْدَرٍ مَجْرُورٍ باللامِ، والتَقْديرُ: لِعِلْمِنَا أَيُّ الحِزْبَيْنِ أَحْصَى لِمَا لَبِثوا أَمَدًا. وهَذا الجَارُّ مُتَعَلِّقٌ بِـ "بَعَثْنَا". و "أَيُّ" اسْمُ اسْتِفْهَامٍ مَرْفوعٌ بالابْتِداءِ، مُضافٌ. و "الْحِزْبَيْنِ" مَجرورٌ بالإضافَةِ إِلَيْهِ، وعلامةُ جَرِّهِ الياءُ لأَنَّهُ مُثَنَّى، والنونُ عِوَضٌ مِنَ التنوينِ في الاسْمِ المُفرَدِ. و "أَحْصَى" فِعْلٌ مَاضٍ، وَفَاعِلُهُ ضَميرٌ مُسْتترٌ فيهِ جوازًا تقديرُهُ (هو) يَعُودُ عَلى "أَيُّ"، والجُمْلَةُ الفِعْلِيَّةُ هَذِهِ فِي مَحَلِّ الرَّفْعِ خَبَرُ المُبْتَدَأِ، والجُمْلَةُ الاسْمِيَّةُ مِنَ المُبْتَدَأِ وخَبَرِهِ في مَحَلِّ النَّصْبِ سَادَّةٌ مَسَدَّ مَفْعُولَيْ "عَلِمَ" لأَنَّهَا مُعَلَّقَةٌ عَنْها بِاسْمِ الاسْتِفْهامِ. و "لِمَا" اللَّامُ: حَرْفُ جَرٍّ مُتَعَلِّقٌ بِمَحْذُوفِ نَعْتٍ لِـ "أَمَدًا" وَلَكِنَّهُ لَمَّا قُدِّمَ عَلَيْهِ جُعِلَ حَالًا. و "ما" مَصْدَرِيَّةٌ. و "لَبِثُوا" فِعْلٌ ماضٍ مَبْنِيٌّ عَلَى الضَمِّ لاتِّصالِهِ بواوِ الجماعةِ، وواوُ الجماعةِ ضميرٌ متَّصِلٌ بِهِ مَبْنِيٌّ عَلى السُّكونِ في محلِّ الرَّفعِ فاعِلُهُ، والأَلِفُ فارقةٌ، والجُمْلَةُ الفِعْلِيَّةُ هَذِهِ صِلَةُ "ما" المَصْدَرِيَّةِ لا مَحَلَّ لها مِنَ الإِعْرَابِ. و "مَا" مَعَ صِلَتِهَا فِي تَأْويلِ مَصْدَرٍ مَجْرورٍ بِـ "اللامِ". و "أَمَدًا" مَفْعُولٌ بِـ "أَحْصَى" منصوبٌ بِهِ، والتَقْديرُ: أَحْصَى أَمَدًا لِلَبْثِهِمْ. وَيجوزُ أنْ تكونَ اللامُ مَزيدَةً، وَعَلَيْهِ: فَـ "أَمَدًا" مَنْصوبٌ بِـ "لَبِثوا"، وَ "مَا" مَصْدَرِيَّةٌ أَوْ مَوْصولَةٌ بِمَعْنَى "الذي". وَيَجُوزُ أَنْ يَكونَ "أَحْصَى" يَجُوزُ فِيهِ أَنْ يكونَ صيغةَ تفضيلٍ على وزنِ "أَفْعَل" فيكونُ خَبَرًا لِلمُبتَدَأِ "أَيُّ"، الاسْتِفْهامِيَّةِ، وَالجُمْلَةُ مُعَلَّقَةٌ للعِلْمِ قَبْلَهَا. وَ "لِمَا لَبِثُوا" حَالٌ مِنْ "أَمَدًا"، لِأَنَّهُ لَوْ تَأَخَّرَ عَنْهُ لَكَانَ نَعْتًا لَهُ. وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ اللامُ عَلَى بَابِها مِنْ أَنَّها للتَعْليلِ، أَيْ: لِأَجْلِ. ويَجُوزُ أنْ تَكونَ زَائِدةً، وَ "ما" في محلِّ النَّصْبِ بالمَفْعُولِيَّةِ: إِمَّا بِـ "أَحْصى" عَلَى رَأْيِ مَنْ يُعْمِلُ صيغَةَ التَفْضِيلِ "أَفْعَل" فِي المَفْعُولِ بِهِ، وَإِمَّا بِإِضْمَارِ فِعْلٍ مناسِبٍ. وَيكونُ "أَمَدًا" مَفْعُولَ "لَبِثُوا" أَوْ مَنْصُوبًا بِفِعْلٍ مُقَدَّرٍ يَدُلُ عَلَيْهِ صيغةُ "أَفْعَل" عِنْدَ الجُمْهُورِ، أَوْ مَنْصُوبًا بِنَفْسِ "أَفْعَل" عِنْدَ مَنْ يَرَى ذَلِكَ. وَاخْتَارَهُ الزَّجَّاجُ والتَبْرِيزِيُ، واخْتَارَ الآخَرَ أَبُو عَليٍّ الفارِسِيُّ، والزَّمَخْشَرِيُّ، وابْنُ عَطِيَّةَ. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ في تَفْسيرِهِ "الكَشَّافِ": فَإِنْ قُلْتَ: فَمَا تَقُولُ فِيمَنْ جَعَلَهُ مِنْ "أَفْعَلِ" التَفْضِيلِ؟. قال السَّمينُ الحلبيُّ في (الدُرِّ المَصُونِ): (لَيْسَ بِالْوَجْهِ السَّديدِ، وَذَلِكَ أَنَّ بِنَاءَهُ مِنْ غَيْرِ الثُّلاثيِّ لَيْسَ بِقياسٍ، وَنَحْو (أَعْدَى مِنَ الجَرَبِ). و (أَفْلَسَ مِنِ ابْنِ المُذَلَّقِ) شَاذٌّ، والقِيَاسُ عَلَى الشَّاذِّ فِي غَيْرِ القُرْآنِ مُمْتَنِعٌ فَكَيْفَ بِهِ؟ وَلِأَنَّ "أَمَدًا": إِمَّا أَنْ يَنْتَصِبَ بِـ "أَفْعَلَ"، وَ "أَفْعَل" لَا يَعْمَلُ، وَإِمَّا أَنْ يَنْتَصِبَ بِـ "لَبِثُوا" فَلَا يَسُدُّ عَلَيْهِ المَعْنَى: فَإِنْ زَعَمْتَ أَنِّي أَنْصِبُهُ بِفِعْلٍ مُضْمَرٍ ـ كَمَا أَضْمَرَ الْعَبَّاسُ بْنُ مِرْدَاسٍ السُّلَمِيُّ ـ رَضِيَ اللهُ تَعَالَى عنْهُ، إِذْ قَالَ:
فَلَمْ أَرَ مِثْلَ الحَيِّ حَيَّاً مُصَبِّحًا ............ وَلاَ مِثْلَنَا يَوْمَ الْتَقِيْنَا فَوَارِسَا
أَكَرَّ وأَحْمَى لِلْحَقِيقَةِ مِنْهُمُ ............. وَأَضَرَبَ مِنَّا بالسُّيُوف القَوَانِسَا
فَقَدْ أَبْعَدْتَ المُتَنَاوَلَ، حَيْثُ أَبَيْتَ أَنْ يَكونَ "أَحْصَى" فِعْلًا، ثُمَّ رَجَعْتَ مُضطَّرًا إِلَيْهِ. ونَاقَشَهُ الشِّيْخُ أَبُو حيَّانَ فقَالَ: أَمَّا دَعْوَاهُ أَنَّهُ شَاذٌّ فَمَذْهَبُ سِيبَوَيْهِ خِلافُهُ، وَذَلِكَ أَنَّ "أَفْعَلَ" فِيهِ ثَلاثةُ مَذَاهِبَ: الجَوَازُ مُطْلَقًا، وَيُعْزَى لِسِيبَوَيْهِ، والمَنْعُ مُطْلَقًا، وهوَ مَذْهَبُ الفارِسِيِّ، والتَفْصِيلُ: بَيْنَ أَنْ تَكونَ هَمْزَتُهُ للتَعْدِيَةِ فَيَمتَنِعَ، وَبَيْنَ أَنْ لَا تَكُونَ فَيَجُوزَ، وَهَذا لَيْسَتِ الهَمْزَةُ فِيهِ للتَّعْدِيَةِ. وَأَمَّا قَوْلُهُ: ("أَفْعَلُ" لَا يَعْمَلُ) فَلَيْسَ بِصَحِيحٍ لِأَنَّهُ يَعْمَلُ فِي التَمْيِيزِ، وَ "أَمَدًا" تَمْييزٌ لَا مَفْعُولٌ بِهِ، كَمَا تَقُولُ: زَيْدٌ أَقْطَعُ النَّاسِ سَيْفًا، وَزَيْدٌ أَقْطَعُ لِلْهامِ سَيْفًا).
وَالذي أَحْوَجَ الزَّمَخْشَرِيَّ إِلَى عَدَمِ جَعْلِهِ تَمْيِيزًا مَعَ ظُهُورِهِ فِي بَادِئِ الرَّأْيِ عَدَمُ صِحَّةِ مَعْنَاهُ. وَذَلِكَ أَنَّ التَمْييزَ شَرْطُهُ فِي هَذا البابِ أَنْ تَصِحَّ نِسْبَةُ ذَلِكَ الوَصْفِ الذي قَبْلَهُ إِلَيْهِ، وَيَتَّصِفَ بِهِ، أَلَا تَرَى إِلَى مِثَالِهِ فِي قَوْلِهِ: (زَيْدٌ أَقْطَعُ النَّاسِ سَيْفًا)كَيْفَ يَصِحُّ أَنْ يُسْنَدَ إِلَيْهِ فَيُقَالَ: زَيْدٌ قَطَعَ سَيْفُهُ، وَسَيْفٌهٌ قَاطِعٌ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ. وَهُنَا لَيْسَ الإِحْصاءُ مِنْ صِفَةِ الأَمَدِ، وَلا تَصِحُّ نِسْبَتُهُ إِلَيْهِ، وَإِنَّمَا هوَ صِفَاتُ الحِزْبَيْنِ، وَهوَ دَقيقٌ.
وكانَ الشَّيْخُ أَبو حيَّانٍ نَقَلَ عَنِ العُكْبُريِ أَبي البَقَاءِ نَصْبَهُ عَلى التَمْيِيزِ، ولَمْ يَذْكُرِ العُكْبُريُّ نَصْبَهُ عَلَى التَمْييزِ حَالَ جَعْلِهِ "أَحْصَى" "أَفْعَلَ" تَفْصِيلٍ، وَإِنَّما ذَكَرَ ذَلِكَ حِينَ ذَكَرَ أَنَّهُ فِعْلٌ مَاضٍ. قَالَ أَبُو البَقَاءِ: فِي أَحْصَى وَجْهَانِ، أَحَدُهُمَا: هُوَ فِعْلٌ مَاضٍ، و "أَمَدًا" مَفْعُولُهُ، وَ "لِما لَبِثوا" نَعْتٌ لَهُ، قُدِّمَ فَصَارَ حَالًا أَوْ مَفْعُولًا لَهُ، أَيْ: لِأَجْلِ لُبْثِهِم. وَقِيلَ: اللامُ زَائدَةٌ وَ "ما" موصولةٌ بِمَعْنَى "الذي" كما تقدَّمَ، وَ "أَمَدًا" مَفْعُولُ "لَبِثُوا" وَهُوَ خَطَأٌ، وَإِنَّمَا الوَجْهُ أَنْ يَكونَ تَمْييزًا، والتَقْديرُ: لِمَا لَبِثُوهُ. والوَجْهُ الثاني: هُوَ اسْمٌ وَ "أَمَدًا" مَنْصُوبٌ بِفِعْلٍ دَلَّ عَلَيْهِ الاسْمُ. فَهَذَا تَصْريحٌ بِأَنَّ "أَمَدًا" ـ حالَ جَعْلِهِ "أَحْصَى" اسْمًا، لَيْسَ تَمْييزًا بَلْ مَفْعُولًا بِهِ بِفِعْلٍ مُقَدَّرٍ، وَأَنَّهُ جَعَلَهُ تَمْييزًا عَنْ "لَبِثُوا" كَمَا رَأَيْتَ.
ثُمَّ قالَ الشَّيْخُ أبو حيَّان: وَأَمَّا قوْلُهُ: وَإَمَّا أَنْ يُنْصَبَ بِـ "لَبِثُوا" فَلَا يَسُدُّ عَلَيْهِ المَعْنَى، أَيْ: لَا يَكُونُ مَعْنَاهُ سَديدًا، فَقَدْ ذَهَبَ الطَبَرِيُّ إِلَى أَنَّهُ مَنْصُوبٌ بِـ "لَبِثوا". قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: (وهوَ غَيْرُ مُتَّجِهٍ). وَقَدْ يَتَّجِهُ: وَذَلِكَ أَنَّ الأَمَدَ هوَ الغايَةُ، وَيَكونُ عَبَارَةً عَنِ المُدَّةِ مِنْ حَيْثُ إِنَّ المُدَّةَ غَايَةٌ هِيَ أَمَدُ المُدَّةِ عَلَى الحَقِيقَةِ، وَ "مَا" بِمَعْنَى "الذي"، وَ "أَمَدًا" مَنْصُوبٌ عَلى إِسْقاطِ الحَرْفِ، والتقديرُ: لِمَا لَبِثُوا مِنْ أَمَدٍ، مِنْ مُدَّةٍ، ويَصيرُ "مِنْ أَمَدٍ" تَفْسيرًا لِمَا أُبْهِمَ مِنْ لَفْظِ "ما" كما في قوْلِهِ تعالى مِنْ سُورةِ البَقَرَةِ: {مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ} الآيةَ: 106، وكقولِهِ في الآيةِ الثانيةِ مِنْ سُورَةِ فاطر: {ما يَفْتَحِ اللهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَّحْمَةٍ}، وَلَمَّا سَقَطَ الحَرْفُ وَصَلَ إِلَيْهِ الفِعْلُ.
قالَ السَّمينُ: يَكْفِيهِ أَنَّ مِثْلَ ابْنِ عَطِيَّةَ جَعَلَهُ غَيْرَ مُتَّجِهٍ، وَعَلى تَقْديرِ ذَلِكَ فَلا نُسَلِّمُ أَنَّ الطَّبَرِيَّ عَنَى نَصْبَهُ بِـ "لَبِثُوا" مَفْعُولًا بِهِ، بَلْ يَجُوزُ أَنْ يَكونَ عَلَى نَصْبَهِ تَمْييزًا كَمَا قَالَ أَبُو البَقَاءِ العُكْبُريُّ. ثُمَّ قالَ: وَأَمَّا قوْلُهُ: (فَإِنْ زَعَمْتَ ..) إِلَى آخِرِهِ، فَنَقُولُ: لا يُحْتَاجُ إِلَى ذَلِكَ، لِأَنَّ لِقَائِلِ ذَلِكَ أَنْ يَذْهَبَ مَذهبَ الكُوفِيِّينَ فِي أَنَّهُ يَنْصِبُ (القَوانِسَ) بِنَفْسِ (أَضْرَبُ) وَلِذَلِكَ جَعَلَ بَعْضُ النُّحاةِ أَنَّ "أَعْلَمَ" نَاصِبٌ لِـ "مَنْ" في قَوْلِهِ تَعَالَى: (أَعْلَمُ مَنْ يَضِلُّ)، وَذَلِكَ لِأَنَّ "أَفْعَلَ" مُضَمَّنٌ لِمَعْنَى المَصْدَرِ، إِذِ التَقْديرُ: يَزيدُ ضَرْبُنَا القَوَانِسَ عَلَى ضَرْبِ غَيْرِنَا. وهَذَا مَذْهَبٌ مَرْجُوحٌ، و "أَفْعَلُ" التَفْصيلِ ضَعيفٌ، ولِذَلِكَ قَصُرَ عَنِ الصِّفَةِ المُشَبَّهَةِ بِاسْمِ الفاعِلِ، حَيْثُ لَمْ يُؤَنَّثْ، وَلَمْ يُثَنَّ، وَلَمْ يُجْمَعْ. وَإِذَا جَعَلْنَا "أَحْصَى" اسْمًا فقد جَوَّزَ الشَّيْخُ أبو حيَّان فِي "أَيُّ" أَنْ تَكونَ المَوْصٌولَةَ، وَ "أَحْصَى" خَبَرٌ لِمُبْتَدَأٍ مَحْذٌوفٍ هُوَ عَائدُها، وَأَنَّ الضَمَّةَ عَلَى مَذْهَبِ سِيبَوَيْهِ هي للبِنَاءِ، لِوُجُودِ شَرْطِ البِنَاءِ، وَهُوَ إِضَافَتُها لَفْظًا، وَحَذْفُ صَدْرِ صِلَتِهَا، وإِنَّمَا يكونُ هَذَا عَلَى جَعْلِ العِلْمِ بِمَعْنَى العِرْفانِ، لِأَنَّهُ لَيْسَ فِي الكَلامِ إِلَّا مَفْعُولٌ وَاحِدٌ، وَتَقْديرٌ آخَر لَا حَاجَةَ إِلَيْهِ. وَإِذا جَعَلْنَاهُ فعْلًا امْتَنَعَ أَنْ تَكونَ مَوْصُولةً، إِذْ لا وَجْهَ لِبِنَائِها حَينَئِذٍ، وَهُوَ وجْهٌ حَسَنٌ، واللهُ أَعْلَمُ.
قرَأَ العامَّةُ: {لِنَعْلَمِ} بِنُونِ العَظَمَةِ جَرْيًا عَلَى مَا تَقَدَّمَهُ. وَقَرَأَ الزُّهْرِيُّ "لِيَعْلمَ" بِيَاءِ الغَيْبَةِ، وَالفاعِلُ هو اللهُ ـ تَعَالى، وَفِيهِ الْتِفَاتٌ مِنَ التَكَلُّمِ إِلَى الغَيْبَةِ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكونَ الفَاعِلُ "أَيُّ" إِذَا جَعَلْناهَا مَوْصُولَةً.
وَقُرِئَ: "لِيُعْلَمَ" مَبْنِيًّا للمَفْعُولِ، وَالقائمُ مَقامُ الفاعِلِ: مَضْمُونُ الجُمْلَةِ، كَمَا أَنَّه مَفْعُولُ العِلْمِ. وقدْ رَدَّهُ الشَّيْخُ أبو حيَّانَ بِأَنَّهُ لَيْسَ مَذْهَبَ البَصْرِيِّينَ. وللكوفِيِّينَ في قِيَامِ الجُمْلَةِ مَقَامَ الفَاعِلِ أَوِ المَفْعُولِ الذي لَمْ يُسَمَّ فَاعِلُهُ: الجَوَازُ مُطْلَقًا، والتَفْصِيلُ بَيْنَ مَا يُعَلَّقُ كَهَذِهِ الآيَةِ فَيَجُوزُ، وَقَدْ نَحَا الزمخشريُّ نَحْوَهُمْ عَلى قَوْلَيْهِمْ. وَإِذا جَعَلْنا "أَيُّ" مَوْصُولَةً جَازَ أَنْ يَكونَ الفِعْلُ مُسْنَدًا إِلَيْهِ فِي هَذِهِ القُراءَةِ أَيْضًا كَمَا جَازَ إِسْنَادُهُ إِلَيْهِ فِي القَراءَةِ قَبْلَها. وَقُرِئَ "لِيُعْلِمَ" بِضَمِّ الياءِ، وَالفاعُلُ اللهُ تَعَالى، وَالمَفْعُولُ الأَوَّلُ مَحْذوفٌ، والتَقْديرُ: لِيُعْلِمَ اللهُ النَّاسَ. وَ "أَيُّ" فِي مَوْضِعِ الثاني فَقَط، إِنْ كانَتْ عِرْفانِيَّةً، وَفِي مَوْضِعِ المَفْعُولَيْنِ إِنْ كانَتْ يَقِينِيَّةً.