قولُهُ ـ تَعَالَى شَأْنُهُ: {وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جَاءَهُمُ الْهُدَى} بَيَانٌ للْعِلَّةِ الْأَصْلِيَّةِ الَّتِي تَبْعَثُ عَلَى الْجُحُودِ فِي جَمِيعِ الْأُمَمِ، وَهِيَ تَوَهُّمُهُمُ اسْتِحَالَةَ أَنْ يَبْعَثَ اللهُ لِلنَّاسِ رَسولًا لهمْ بَشَرًا مِثْلَهُمْ. فقد كَشَفُ اللهُ ـ تَعَالى، لِرَسُولِهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ، في هَذِهِ الآيةِ المُبَارَكَةِ مَا يَعْتَلِجُ فِي نُفُوسِ المُشْرِكِينَ مِنْ وَسَاوِسِ الشَّيْطانِ التي تَحُولُ بَيْنَهم وَبَيْنَ الإِيمانِ بِرَبِّهم ونبيِّهمْ والكِتابِ الذي أُنْزِلَ عليْهِ، وَفَضَحَ شُبْهَةً أُخْرَى مِنَ الشُّبَهِ التي تَمْنَعُهُمْ مِنَ الهِدَايَةِ للإِيمانِ وَالإسْلامِ.
قولُهُ: {إِلَّا أَنْ قَالُوا أَبَعَثَ اللهُ بَشَرًا رَسُولًا} هي الشُبْهَةُ التي تمنعُهُمْ مِنَ الانتفاعِ بالهدايةِ، أَنَّهُمْ يَسْتَبْعِدونَ أَنْ يَبْعَثَ اللهُ للخَلْقِ رَسُولًا مِنَ البَشَرِ، ويَعْتَقَدُونَ أَنَّ اللهَ تَعَالى، لَوْ أَرْسَلَ رَسُولًا إِلَى الخَلْقِ، فلا بُدَّ مِنْ أَنَّ هَذَا الرَّسُولَ سيكونُ مِنَ المَلائِكَةِ.
وفي الجَوَابِ عَنْ هَذِهِ الشُّبْهةِ نَقُولُ: أَنَّهُ بِافتِراضِ أَنْ يَبْعَثَ اللهُ مَلَكًا رَسُولًا إِلَى الخَلْقِ، فَالخَلْقُ إِنَّما يُؤْمِنُونَ بِكَوْنِهِ رَسُولًا مِنْ عِنْدِ اللهِ؛ لِأَجْلِ قِيامِ المُعْجِزَاتِ الدالَّةِ عَلَى صِدْقِهِ؛ وَذَلِكَ المُعْجِزُ هُوَ الذي يَهْديهم إِلَى مَعْرِفَةِ صِدْقِ ذَلِكَ المَلَكِ فِي ادِّعائِهِ الإرْسالَ، إِذًا فَالْمُرادُ مِنْ قَوْلِهِ: "إِذْ جَاءَهُمُ الهُدَى} هُوَ المُعْجِزُ، وَإِذَا كانَ الأَمْرُ كَذَلِكَ، فإِنَّهُ لمَّا كانَ الدَّليلُ على الصِّدْقِ هوَ الأمْرُ المُعْجِزُ الخارقُ للعادَةِ فَقَطْ، فإنَّهُ مِنَ الواجِبِ الإيمانُ بهَذَا المُعْجِزِ والإِقرارُ بِهِ سَوَاءٌ ظَهَرَ عَلَى يَدِ مَلَكِ، أَوْ عَلَى يَدِ بَشَرِ، وَوَجَبَ الإِقْرَارُ بِرِسَالَةِ هَذَا الرَّسولِ الذي ظهَرَ المُعجِزُ على يدَيْه. أَمَّا ما يقولُهُ المُشْرِكونَ مِنْ أَنَّهُ لا بُدَّ وَأَنْ يَكونَ الرَّسُولُ مِنَ المَلائِكَةِ، فإِنَّه عنادٌ، وَتَعَنَّتٌ، وَتَحَكُّمٌ بِاطِلٌ فَاسِدٌ.
قولُهُ تَعَالَى: {وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جَاءَهُمُ الْهُدَى} الواوُ: اسْتِئْنافِيَّةٌ، و "مَا" نَافِيَةٌ. و "مَنَعَ" فعلٌ ماضٍ مبنيٌّ على الفتْحِ، وفاعلُهُ ضميرٌ مُسْتَتِرٌ فيهِ جوازًا تقديرُهُ (هو). و "النَّاسَ" مَفْعُولٌ بِهِ أَوَّلُ. و "أَنْ" حَرْفٌ مَصْدَرِيٌّ نَاصِبٌ. وَ "يُؤْمِنُوا" فِعْلٌ مُضَارِعٌ َمَنْصوبٌ بـ "أَنْ"، وَعَلامَةُ رَفعِهِ حذْفُ النُّونِ منْ آخِرِهِ لِأَنَّهُ مِنَ الأَفْعالِ الخَمْسَةِ، ووَاوُ الجَمَاعَةِ ضميرٌ مُتَّصِل بِهِ مَبْنِيٌّ عَلَى السُّكونِ في مَحَلِّ الرَّفْعِ، فاعِلُهُ، والألِفُ فارقةٌ. والجُمْلَةُ في تَأْويلِ مَصْدَرٍ مَنْصُوبٍ عَلى أَنَّهُ مَفْعُولٌ ثَانٍ لِـ "مَنَعَ" والتَقْديرُ: وَمَا مَنَعَ النَّاسَ إِيمانَهُمْ. و "إِذْ" ظَرْفٌ لِمَا مَضَى مِنَ الزَّمَانِ، مُتَعَلِّقٌ بِـ "يُؤْمِنُوا". و "جاءَهُمُ" فعلٌ ماضٍ مَبْنِيٌّ عَلَى الفتْحِ. والهاءُ: ضميرٌ متَّصِلٌ بهِ في محلِّ النَّصْبِ مفعولٌ بِهِ، والميمُ لتذكيرِ الجمعِ. و "الْهُدَى" فاعِلُهُ مرفوعٌ بِهِ، وعلامةُ رَفعِهِ ضمَّةٌ مقدَّرةٌ على آخِرِهِ لتعذُّرِ ظهورها على الأَلِفِ. وَالجُمْلَةُ فِي مَحَلِّ الجَرِّ، مُضَافٌ إِلَيْهِ، لِـ "إِذْ" والتقديرُ: وَمَا مَنَعَ النَّاسَ إِيمانَهُمْ، وَقْتَ مَجِيءِ الهُدَى إِيَّاهُمْ.
قولُهُ: {إِلَّا أَنْ قَالُوا أَبَعَثَ اللهُ بَشَرًا رَسُولًا} إِلَّا: أَداةُ اسْتِثْنَاءٍ مُفَرَّغٍ، و "أَنْ" حَرْفٌ ناصِبٌ مَصْدَرِيٌّ. و "قَالُوا" فِعْلٌ ماضٍ مَبْنِيٌّ عَلى الضَمِّ لاتِّصالِهِ بواوِ الجماعةِ، في مَحَلِّ النَّصْبِ، بِـ "أَنْ" المَصْدَرِيَّةِ، ووَاوُ الجَمَاعَةِ ضميرٌ مُتَّصِل بِهِ مَبْنِيٌّ عَلَى السُّكونِ في مَحَلِّ الرَّفْعِ، فاعِلُهُ، والألِفُ فارقةٌ. والجُمْلَةُ الفِعْلِيَّةُ هَذِهِ مَعَ "أَنْ" المَصْدَرِيَّةِ، فِي تَأْويلِ مَصْدَرٍ مَرْفوعٍ عَلَى الفَاعِلِيَّةِ لِـ "مَنَعَ" والتَقديرُ: وَمَا مَنَعَ النَّاسَ إِيمانَهُم وَقْتَ مَجِيءِ الهُدَى إِيَّاهُمْ، إِلَّا قَوْلُهم: "أَبَعَثَ اللهُ بَشَرًا رَسُولًا. و "أَبَعَثَ" الهَمْزَةُ} للاسْتِفْهَامِ الإِنْكارِيِّ، و "بَعَثَ" فعلٌ ماضٍ مبنيٌّ على الفتحِ الظاهِرِ. ولَفْظُ الجلالةِ "اللهُ" فاعِلُهُ مَرفوعٌ بِهِ. و "بَشَرًا" منصوبٌ على الحالِ مِنْ "رَسُولًا" لِأَنَّهُ نَعْتُ نَكِرَةٍ قُدِّمَتْ عَلَيْهَا. و "رَسُولًا" مَفْعُولٌ بِهِ مَنْصوبٌ، والجُمْلَةُ الاسْتِفْهَامِيَّةُ هَذِهِ فِي مَحَلِّ النَّصْبِ بالقولِ على أَنَّهُ مَقُولُ القَوْلِ لِـ "قَالُوا".