وَقُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا (81)
قولُهُ ـ تَعَالَى شَأْنُهُ: {وَقُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ} المَأْمُورُ بالقولِ والتبليغِ هو سيِّدُنا محمدٌ ـ عَلَيْهِ صَلَواتُ اللهِ وسَلامُهُ، والمؤمنونَ بهِ مُكَلَّفُونَ بحملِ رِسالتِهِ مِنْ بعدِهِ. و "جاءَ الحَقُّ" أَيْ: نَزَلَ الدِّينُ الحَقُّ مِنْ عِنْدِ اللهِ ـ تَعَالى، وَهوَ القرآنُ، ودِينُ الإِسْلامِ، وسُمِّيَ حقًّا لِاشْتِمالِهِ عَلَى الحَقَائقَ الثابتَةِ الراسِخَةِ، وَخُلُوِّهِ مِنَ الأَكَاذيبِ والأَبَاطِيلِ. وَ "زَهَقَ" زَهْقًا، كَ "مَنَعَ" وزُهُوقًا أَيْ: زَالَ واضْمَحَلَّ وتَلَاشى، وَلَمْ يَثْبُتْ، وهوَ مِنْ قولِكَ: زَهَقَتْ نَفْسُ فُلانٍ، إِذا خَرَجَتْ كَمَدًا وأَسَفًا. والزُّهُوقُ (بالضمَّ): الذَّهابُ والاضْمِحْلالُ والتلاشِي، قالَ تَعَالَى في الآية: 18، مِنْ سُورَةِ الأَنْبِياءِ: {بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ وَلَكُمُ الْوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ}، فـ "زاهِقٌ" ذَاهِبٌ، هالِكٌ، مُتَلاشِي، وَقَالَ مِنْ سُورَةِ التَوْبَةِ: {وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُون} الآيةَ: 55، أي: تَهْلِكُ، وفي الحَديثِ الشريفِ: ((أَنَّ النَّحْرَ في الحَلْقِ واللَبَّةِ. وأَقِرُّوا الأَنْفُسَ حَتَّى تَزْهَقَ)) أَيْ تَخْرُجُ. ومِنَ الشِّعرِ قولُهُ:
ولقد شَفَى نَفْسي وأَبرَأَ سُقْمَها ................. إِقدامُهُ بمَزَالَةٍ لَمْ يَزْهَقِ
أَي: لَمْ يَهْلِكْ، فإِنَّهُ يُقَالُ: زَهَقَتْ نَفْسُ فُلانٍ تَزْهَقُ زُهوقًا ـ بالضَمِّ، إذا هَلَكتْ. قالَ اللَّيْثُ بْنُ سَعْدٍ الفَهْمِيُّ المِصْرِيُّ: وَكُلُّ شَيْءٍ هَلَكَ وَبَطَلَ فَقَدْ زَهَقَ. المُزْهِقُ: القاتِلُ، والمُزْهَقُ: المَقْتُولُ. وزَهَقَ الفرسُ، وزَهَقَتِ الراحلةُ تَزْهَقُ زُهوقًا، فهي زاهِقَةٌ، إذا سَبَقَتْ وتَقَدَّمَتْ أَمَامَ الخَيْلِ. والرَّجُلُ المُنْهَزِمُ: زاهِقٌ، وجَمْعُهم: زُهَّقٌ. وَزَهَقَ السَّهْمُ: جَاوَزَ الهَدَفَ. وأَزْهَقَهُ راميهِ، أَبعدهُ عنْ هدفِهِ. وأَزْهَقْتُ الإناءَ: مَلَأْتُهُ. والمُزْهِقُ أيضًا: المُغِذُّ في سَيْرِهِ. وفرَسٌ ذاتُ أَزاهيقَ، إذا كانتْ ذاتَ جَرْيٍ سَريعٍ. وزَهِقَتْ نفسُهُ بالكَسْرِ تَزْهَقُ زُهوقًا، لُغَةٌ في زَهَقَتْ. وفُلانٌ زَهِقٌ، أَيْ نَزِقٌ. والزَهَقُ مِنَ الأَرْضِ: المُطْمِئِنُّ مِنْهَا. وأَيضًا الزَهُوقُ: البِئْرُ البَعيدُ قَعْرُها، وفَجُّ الجَبَلِ المُشْرِفُ أَيْضًا. والزاهِقُ أَيضًا: السَّمينُ حَسَنُ الحالِ. وزَهَقَ العَظْمُ زُهُوقًا، أَيْ: اكْتَنَزَ مُخُّهُ. وزَهَقَ المُخُّ، إذا اكْتَنَزَ، فهوَ زاهِقٌ. وَمِنْهُ قَوْلُ زُهَيْرِ بْنِ أَبي سُلْمَى:
القائدُ الخَيْلَ مَنْكُوبًا دَوَابِرُها .......... مِنْهَا الشَّنُونُ ومِنْهَا الزاهِقُ الزَّهِمُ
قالَ ابْنُ السِكِّيتِ: الشَنُونُ: الذي بَيْنَ السَّمينِ والمَهْزُولِ. والزَّاهِقُ: السَّمينُ، والزَّهِمُ: أَسْمَنُ مِنْهُ. وهوَ مُنْتَهَى السِّمَنِ.
وَ "الباطِلُ" هو الكُفْرُ باللهِ ـ تَعَالى وعَزَّ، وادِّعاءُ الولَدِ لَهُ، أَوِ الزَّوْجَةِ، أَوِ الشَّريكِ، أَوِ النِدِّ، ويَشْمَلُ كُلَّ الوَسَاوِسَ الشَيْطانِيَّةَ. قالَ ابْنُ عَبَّاسٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُما: أَمَرَ اللهُ نَبِيَّهُ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، إِذا دَخَلَ مَكَّةَ أَنْ يَقِفَ عَلَى الأَصْنَامِ التي كانُوا يَعْبُدونَهَا وَيَقُولُ: {جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ}. وَأَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ، وَابْنُ جَريرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبي حَاتِمٍ، عَنْ قَتَادَةَ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: "وَقُلْ جَاءَ الْحقُّ" قَالَ: الْقُرْآنُ، و "زَهَقَ الْبَاطِلُ" قَالَ: هَلَكَ، وَهُوَ الشَّيْطَانُ. وَقَالَ السُّدِّيُّ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: الحَقُّ: الإِسْلامُ، وَالباطِلُ: الشِّرْكُ. ورُوِيَ عَنِ ابْنِ جُرَيجٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، أَنَّ الحقَّ هوَ الجِهَادُ، وأَنَّ الباطلَ هو الشِرْكُ، ورُوِيَ عنْ مُقَاتِلٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، أَنَّ الحقَّ هو عِبادَةُ اللهِ تَعَالَى، أَمَّا الباطِلُ فهُوَ عِبَادَةُ الشَّيْطانِ وطاعتُهُ. وكلُّها مَعانٍ مُتَقَارِبَةٌ.
قولُهُ: {إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا} الزَّهوقُ (بالفَتْحِ): الذاهِبُ، فَقدْ أَخْرَجَ ابْنُ جَريرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبي حَاتِمٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا، فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: "إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا" قَالَ: ذَاهِبًا. وهوَ مِثَالُ مُبَالَغَةٍ، كَ "ضَرُوبٍ" فِي قَوْلِ أَبي طَالِبٍ، عَمِّ النَّبِيِّ ـ صَلَّى اللهُ عَليْهِ وآلِهِ وصحبِهِ وَسَلَّمَ:
ضَرُوْبٌ بنَصْلِ السَّيْفِ سُوقَ سِمانِها ........ إِذا عَدِمِوا زادًا فإنَّكَ عاقِرُ
وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبي شَيْبَةَ، وَالْبُخَارِيُّ والنَّصُّ لَهُ، وَمُسْلِمٌ، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَالنَّسَائِيُّ، والبَيْهَقِيُّ، وَابْنُ جَريرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ مِرْدُوَيْهِ، عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، قَالَ: دَخَلَ النَّبِيُّ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، مَكَّةَ، وَحَوْلَ الْبَيْتِ سِتُّونَ وثَلَثُ مِئَةِ نُصُبٍ (أَوْ نُصْبٍ)، فَجَعَلَ يَطْعَنُها بِعُودٍ فِي يَدِهِ، وَيَقُولُ: "جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا"، وَ {قُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَمَا يُبْدِئُ الْبَاطِلُ وَمَا يُعِيدُ} الآيةَ: 49، مِنْ سُورَةِ سَبَأ، صحيحُ البُخاري: (13/182). السُنن الكُبْرَى: (6/438). ودَلائلُ النُّبوَّةِ للبَيْهَقِيِّ: (5/105)
وَأخرج ابْن أبي شيبَة، وَأَبُو يَعْلَى وَابْنُ الْمُنْذِرِ، عَنْ جَابِرٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، قَالَ: دَخَلنَا مَعَ رَسُولِ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، مَكَّةَ وَحَوْلَ الْبَيْتِ ثلاثُمِئَةٍ وَسِتُّونَ صَنَمًا، فَأَمَرَ بِهَا رَسُولُ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَأُكِبَّتْ لِوُجوهِها، وَقَالَ: "جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا".
وَأَخْرَجَ الطَّبَرَانِيُّ فِي الصَّغِيرِ، وَابْنُ مِرْدُوَيْهِ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي الدَّلَائِلِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا، قَالَ: دَخَلَ رَسُولُ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، مَكَّة يَوْمَ الْفَتْحِ وَعَلَى الْكَعْبَةِ ثَلاثُمِئَةٍ وَسِتُّونَ صَنَمًا، فَشَدَّ لَهُم إِبْلِيسُ أَقْدَامَهَا بالرَّصاصِ، فجَاءَ مَعَهُ قَضيبٌ فَجَعَلَ يَهْوِي بِهِ إِلَى كُلِّ صَنَمٍ مِنْهَا، فَيَخِرُّ لِوَجْهِهِ، فَيَقُولُ: "جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا". حَتَّى مَرَّ عَلَيْهَا كُلَّهَا.
قوْلُهُ تَعَالَى: {وَقُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ} الواوُ: حرفُ عطْفٍ، و "قُلْ" فِعْلُ أَمْرٍ مَبْنِيٌّ عَلَى السُّكونِ، وفاعِلُهُ ضَميرٌ مُسْتتِرٌ فيهِ وُجوبًا تقديرُهُ (أنتَ) يَعُودُ عَلى سيِّدِنا مُحَمَّدٍ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسلَّمَ، والجُمْلَةُ مَعْطُوفَةٌ عَلَى جُمْلَةِ قَوْلِهِ: {وَقُلْ رَبِّ أَدْخِلْنِي} مِنَ الآيةِ التي بعدَها. و "جاءَ" فِعْلٌ ماضٍ مَبْنِيٌّ عَلَى الفَتْحِ، و "الحقُّ" فَاعِلُهُ مرفوعٌ بِهِ، والجُمْلَةُ فِي مَحَلِّ النَّصْبِ بـ "قُلْ". و "زَهَقَ الْباطِلُ" مِثْلُ "جاءَ الحقُّ" مَعْطُوفٌ عَلَيْهِ، فَلَهُ مِثْلُ إِعْرَابِهِ.
قولُهُ: {إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا} إِنَّ: حرفٌ نَاصِبٌ ناسِخٌ مُشبَّهٌ بالفعلِ. و "الْباطِلَ" اسْمُهُ منصوبٌ بِهِ. و "كَانَ" فعلٌ ماضٍ ناقصٌ مبنيٌّ على الفتحِ، واسْمُهُ ضَميرٌ مُسْتَتِرٌ فِيهِ جوازًا تقديرُهُ (هو) يَعُودُ عَلَى "الْبَاطِلُ"، وَ "زَهُوقًا" خَبَرُهُ منصوبٌ بِهِ. وجُمْلَةُ "كَانَ" فِي مَحَلِّ الرَّفْعِ خَبَرُ "إِنَّ"، وَجُمْلَةُ "إِنَّ" مُسْتَأْنَفَةٌ مَسُوقَةٌ لِتَعْلِيلِ مَا قَبْلَها.