ثُمَّ إِذَا كَشَفَ الضُّرَّ عَنْكُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِنْكُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ
(54)
قولُهُ ـ تَعَالى شأْنُهُ: {ثُمَّ إِذَا كَشَفَ الضُّرَّ عَنْكُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِنْكُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ} تَعْجِيبٌ مِنَ الْإِشْرَاكِ بَعْدَ النَّجَاةِ مِنَ الْهَلَاكِ، وَهَذَا الْمَعْنَى مُكَرَّرٌ فِي غيرِ سورةٍ مِنْ كتابِ اللهِ الْكَريمِ. وَهَذَا خَاصٌّ بِمَنْ كَفَرَ. وَثُمَّ هُنَا لِلتَّرْتِيبِ الرُّتَبِيِّ كَمَا هُوَ شَأْنُهَا فِي عَطْفِ الْجُمَلِ، وَقد جِيءَ بِها لِأَنَّ مَضْمُونَ الْجُمْلَةِ الْمَعْطُوفَةِ أَبْعَدُ فِي النَّظَرِ مِنْ مَضْمُونِ الْمَعْطُوفِ عَلَيْهَا. فَإِنَّ إِعْرَاضَ العبدِ عَمَّنْ أَنْعَمَ عليْهِ بِكَشْفِ البلاءِ عنْهُ والأَسْقَامَ، وَإِشْرَاكَ غَيْرِهِ بِهِ تعالى فِي الْعِبَادَةِ أَعْجَبُ حَالًا، وَأَبْعَدُ حُصُولًا، مِنَ اللَّجَأِ إِلَيْهِ عِنْدَ نُزُولِ الشِّدَّةِ بِهِ. وَالْمُرادُ بالآيةِ الكريمةِ تَسْجِيلُ كُفْرَانِ الْمُشْرِكِينَ لِنِعَمِ اللهِ تَعَالى عَلَيْهم، وَإِظْهَارُ رَأْفَةِ اللهِ تعالى بهم وبِالْخَلْقِ أجمعينَ، ومِنْ ذلكَ كَشْفُ الضُّرِّ عَنْهُمْ عِنْدَ الْتِجَائِهِمْ إِلَيْهِ مَعَ أَنَّهُ ـ سُبحانَه، يَعْلَمُ حقيقةَ هؤلاءِ بِأَنَّهم مُشْرِكُونَ بِهِ، مُسْتَمِرُّونَ عَلَى شِرْكِهِم حتَّى بَعْدَ كَشْفِ الضُّرِّ عَنْهُم. وَمعَ ذَلِكَ فإِنَّهُ ـ جَلَّ وَعَلَا، يشفُ البلاءَ عنهم لأَنَّهُ رَبُّهم وليسَ لهم مِنْ رَبٍّ غيره ليكشفَ عنهُمُ الضُرَّ.
وقدْ جيءَ بـ "إِذا" الثَّانِيَةِ ـ الفُجَائِيَّةِ، لِلدَّلَالَةِ عَلَى سُرْعَةِ عَوْدَتهمِ إِلَى الشِّرْكِ، وَأَنَّهُم لَا يَتَرَيَّثُونَ إِلَى أَنْ يَبْعُدَ الْعَهْدُ بِنِعْمَةِ اللهِ تلكَ، ويُفاجِئُونَ بِكُفْرِهم هَكَذَا مُبَاشَرَةً.
أَخْرَجَ ابْنُ أَبي حَاتِمٍ عَنْ قَتَادَةَ ـ رَضِيَ اللهُ عنهُ، فِي قَوْلِهِ تعالى: "ثُمَّ إِذا كَشَفَ الضُّرَّ عَنْكُمْ" قَالَ: الْخَلْقُ كُلُّهُمْ يُقِرُّونَ للهِ أَنَّهُ رَبُّهُمْ، ثُمَّ يُشْرِكُونَ بِهِ بَعْدَ ذَلِكَ.
قولُهُ تَعَالَى: {ثُمَّ إِذَا كَشَفَ الضُّرَّ عَنْكُمْ} ثُمَّ: حَرْفُ عَطفٍ وَتَرْتيبٍ، و "إذَا" ظَرْفٌ لِمَا يُسْتَقْبَلُ مِنَ الزَمَانِ، متعلِّقٌ بجوابِهِ خافضٌ لشرطِهِ. و "كَشَفَ" فِعْلٌ ماضٍ مَبْنِيٌّ على الفتحِ، وفاعِلُهُ مُسْتَتِرٌ فيهِ جوازًا تقديرُهُ (هو) يعودُ على اللهَ تعالى. و "الضُّرَّ" مَفْعولٌ بِهِ منصوبٌ. و "عَنْكُمْ" عن: حرفُ جَرٍّ مُتَعَلِّقٌ بِـ "كَشَفَ"، وكافُ الخطابِ ضميرٌ متَّصِلٌ بِهِ في محلِّ الجرِّ بحرفِ الجرِّ، والميمُ للجمعِ المُذكَّرِ. والجُمْلَةُ في مَحَلِّ الخَفْضِ بإِضافَةِ "إذَا" إِلَيْهَا. والظَرفُ مُتَعَلِّقٌ بالجَوابِ الآتي، وَلَكِنَّ مَا بَعْدَ "إِذَا" الفُجَائِيَّةِ لا يَعْمَلُ فِيمَا قَبْلَهَا. وَفِي الآيَةِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ "إِذَا" الشَرْطِيَّةِ لَا تَكُونَ مَعْمُولَةً لِجَوابِهَا، لأَنَّ مَا بَعْدَ "إِذَا" الفُجَائِيَّةِ لا يَعْمَلُ فيمَا قَبلَها.
قولُهُ: {إِذَا فَرِيقٌ مِنْكُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ} إِذَا: حَرْفُ فُجْأَةٍ رَابِطَةٌ الجوابَ بِالشَّرْطِ وُجُوبًا. و "فَرِيقٌ" مَرفوعٌ بالابْتَدَاءِ، و "مِنْكُمْ" مِنْ: حَرْفُ جَرٍّ للتَبْعِيضِ مُتَعَلِّقٌ بِصِفَةٍ لِـ "فريقٌ"، ويَجُوزُ أَنْ تَكُونَ للبَيَانِ، وكَأَنَّهُ قال: إِذَا فَريقٌ كَافِرٌ، وَهُمْ أَنْتُمْ. وَكافُ الخِطَابِ ضَمِيرٌ مُتَّصِلٌ بِهِ في محلِّ الجرِّ بحرفِ الجرِّ، والميمُ للجمعِ المُذكَّرِ. و "بِرَبِّهِمْ" الباءُ: حرفُ جرٍّ مُتَعَلِّقٌ بِمَا بَعْدَهُ، والهاءُ: ضَمِيرٌ مُتَّصِلٌ بِهِ في محلِّ الجرِّ بحرفِ الجرِّ، والميمُ للجمعِ المُذكَّرِ. و "يُشْرِكُونَ" فِعْلٌ مُضارعٌ مَرْفوعٌ لِتَجَرُّدِهِ مِنَ النَّاصِبِ والجازِمِ، وعَلامَةُ رَفْعِهِ ثَبَاتُ النُّونِ فِي آخِرِهِ، لأَنَّهُ مِنَ الأَفْعَالِ الخَمْسَةِ، وواوُ الجَمَاعَةِ ضَمِيرٌ مُتَّصِلٌ بِهِ، مَبْنِيٌّ عَلَى السُّكونِ في مَحَلِّ الرَّفْعِ فاعِلُهُ. وَالجُمْلَةُ الفعليَّةِ هَذِهِ في مَحَلِّ الرَّفْعِ خَبَرُ المُبْتَدَأِ، والجُمْلَةُ الاسميَّةُ جَوابُ "إِذَا" الشرطيَّةِ لا مَحَلَّ لَهَا مِنَ الإِعْرابِ، وَجُمْلَةُ "إِذَا" الشرطيَّةِ في مَحَلِّ النَّصْبِ عَطْفًا على الجُمْلَةِ التي قَبْلَها، عَلَى كَوْنِها مَقولُ "قالَ".
قرأَ العامَّةُ" {كَشَفَ}، وَقَرَأَ قَتَادَةُ "كَاشَفَ" عَلَى وَزْنِ "فَاعَلَ" بمَعْنَى "فَعَل"، وَهوَ أَقْوَى مِنْ "كَشَفَ" لِأَنَّ بِنَاءَ المُغَالَبَةِ يَدُلُّ عَلَى المُبَالَغَةِ.