يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ (50)
قولُهُ ـ تَعَالَى شَأْنُهُ: {يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ} أَيْ: وَيَسْجُدُ للهِ جَمِيعُ مَا خَلَقَهُ اللهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ مِنْ مَلاَئِكَةٍ وَبَشَرٍ وَحَيَوَانٍ وَجَمَادٍ، وَهُمْ خَائِفُونَ وَجِلُونَ مِنَ الرَّبِّ ـ جَلَّ جَلاَلُهُ العَظِيمِ. والظاهِرُ أَنَّ ضَمِيرَ الفاعلِ في قولِهِ "يَخافون"، عائدٌ عَلَى المَنْسُوبِ السَّاجِدينَ منَ قولِهِ في الآيةِ التي قبلَها {وَللهِ يَسْجُدُ}. وَيَجُوزُ أَنْ يَكونَ الخَوْفُ مِنْ صِفَةِ المَلائِكَةِ الكِرامِ خاصَّةً، فَيكونُ هذا الضَميرُ عائدًا عَلَيْهِمْ. والفَوْقِيَّةُ هنا مُسْتَحِيلٌ أَنْ تَكونَ مَكَانِيَّةً بِالنِسْبَةِ إِلَيْهِ تَعَالَى، فإِنْ عَلَّقْنا الضَّمِيرَ "الهاءَ" مِنْ "ربِّهم" و "فوقِهِمْ" بِـ "يَخَافون" كانَ عَلَى حَذْفِ مُضَافٍ، أَيْ: يَخافُونَ عَذَابَهُ كَائِنًا مِنْ فَوْقِهِمْ، أَوْ يَخَافُونَ أَنْ يُرْسِلَ عَلَيْهِمْ عَذَابًا مِنْ فَوْقِهِمْ، لأَنَّ العَذَابَ إِنَّمَا يَنْزِلُ مِنْ فَوْقُ، وَإِنْ عَلَّقْتَهُ بِرَبِّهِمْ كانَ حَالًا مِنْهُ أَيْ: يَخافونَ رَبَّهُمْ عَالِيًا لَهُمْ قاهِرًا. وَفِي نِسْبَةِ الخَوْفِ لِمَنْ نُسِبَ السُّجُودُ إِلَيْهِ، أَوْ للمَلائِكَةِ خَاصَّةً دَليلٌ عَلَى تَكْليفِ المَلائكَةِ كَسَائِرِ المُكَلِّفينَ، وأَنَّهمْ بَيْنَ الخَوْفِ والرَّجَاءِ مُدارُونَ عَلَى الوَعْدِ والوَعِيدِ كَمَا قَالَ تَعَالَى في الآية: 28، مِنْ سورةِ الأنبياء: {وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ}. فالخَوْفُ خَوْفُ جَلالٍ ومَهَابَةٍ. وَأَخْرَجَ الْخَطِيب فِي تَارِيخِهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا، فِي قَوْلِهِ: "يَخَافُونَ رَبَّهم مِنْ فَوْقِهم" قَالَ: مَخَافَةَ الإِجْلالِ. والفَوْقِيَّةُ فَوْقِيَّةُ القَدْرِ والعَظَمَةِ والقَهْرِ، فَوْقِيَّةُ تَصَرُّفٍ وَمِلْكٍ وَشَرَفٍ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى مِنْ سُورَة الْأَنْعَام: {وَهُوَ الْقاهِرُ فَوْقَ عِبادِهِ} الآية: 18، وَكَقَوْلِهِ مِنْ سُورَةِ الْأَعْرَاف: {وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قاهِرُونَ} الآيَةَ: 127.
قولُهُ: {وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} أَيْ: وَهُمْ مُثَابِرُونَ عَلَى طَاعَتِهِ، وَامْتِثَالِ أَوَامِرِهِ، وَتَرْكَ نَواهَيهِ. أَمَّا المُؤْمِنُونَ فإِنَّما يَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ بِهِ بِحَسَبِ الشَّرْعِ والطّاعَةِ، وأَمَّا غَيْرُهُمْ مِنَ الحَيَوَانِ فَبِالتَّسْخيرِ والقَدَرِ الذي يَسُوقُهُمْ إِلَى مَا نَفَذَ فِيهِمْ مِنْ أَمْرِ اللهِ تَعَالى. وإِيرادُ الفِعْلِ "يُؤْمَرُونَ" مَبْنِيًّا للمَفْعُولِ جَرْيٌ عَلَى سَنَنِ الجَلالَةِ، وإِيذانٌ بِعَدَمِ الحَاجَةِ إِلَى التَصْريحِ بالفَاعِلِ لاسْتِحَالَةِ اسْتِنَادِهِ إِلَى غَيْرِهِ ـ سُبْحَانَهُ، وَفِيهِ أَنَّ المَلائِكَةَ مُكَلَّفونَ مُتقلِّبونَ بَيْنَ الخَوْفِ وَالرَّجاءِ. وَهُنَا مَوضِعُ سُجُودٍ للقَارِئِ بِالِاتِّفَاقِ. وَالحِكْمَةُ فيهُ إِظْهَارُ الْمُؤْمِنِ أَنَّهُ مِنَ الْفَرِيقِ الْمَمْدُوحِ بِأَنَّهُ مُشَابِهٌ لِلْمَلَائِكَةِ.
قولُهُ تَعَالَى: {يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ} يَخَافُونَ: فِعْلٌ مُضارعٌ مَرْفوعٌ لِتَجَرُّدِهِ مِنَ النَّاصِبِ والجازِمِ، وعَلامَةُ رَفْعِهِ ثَبَاتُ النُّونِ فِي آخِرِهِ، لأَنَّهُ مِنَ الأَفْعَالِ الخَمْسَةِ، وواوُ الجَماعَةِ ضَمِيرٌ مُتَّصِلٌ بِهِ، مَبْنِيٌّ عَلَى السُّكونِ في مَحَلِّ الرَّفْعِ فاعِلُهُ. "رَبَّهُمْ" مفعولٌ بِهِ منصوبٌ، وهو مُضافٌ، والهاءُ ضميرٌ متَّصِلٌ بِهِ في محلِّ الجرِّ بالإضافةِ إِليْهِ، والميمُ للجمعِ المُذكَّر. و "مِنْ" حَرْفُ جَرٍّ متعلِّقٌ بـ "يَخَافُونَ" عَلَى حَذْفِ مُضافٍ، أَيْ: يَخَافُونَ عَذَابَ رَبِّهِمْ مِنْ فَوْقِهِمْ، لأَنَّ العَذَابَ إنَّما يَنْزِلُ مِنْ فَوْق، ويَجوزُ أَنْ يتعلَّقَ بِحالٍ مِنْ "ربَّ"، عَلى تَقَديرِ: حالَ كونِهِ عَالِيًا مِنْ فَوْقِهِمْ بِالقَهْرِ. و "فَوْقِهِمْ" مجرورٌ بحرفِ الجَرِّ، مُضافٌ، والهاءُ: ضميرٌ متَّصِلٌ في محلِّ الجرِّ بالإضافةِ إِلَيْهِ، والميمُ علامةُ الجمعِ المذكَّرِ. والجُمْلةُ في مَحَلِّ النَّصْبِ عَلَى الحَالِ مِنْ ضميرِ الفاعِلِ في "يَسْتَكْبِرون"، أَوْ هِيَ عَطْفُ بَيَانٍ لِنَفْيِ الاسْتِكْبَارِ، وتقريرٌ لَهُ، لأَنَّ مَنْ يَخَافُ اللهَ ـ سُبْحانَهُ وتَعَالَى، لا يَسْتَكْبِرُ عَنْ عِبَادَتِهِ.
قولُهُ: {وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} الواوُ: للعَطْفِ، وَ "يَفْعَلُونَ" مِثْلُ "يخافونَ" مَعْطُوفٌ عَلَيْهِ، والجُمْلَةُ مَعْطُوفَةٌ عَلَى الجُمْلَةِ. وَ "مَا" مَوْصُولَةٌ مَبْنِيَّةٌ عَلَى السُّكونِ في مَحَلِّ النَّصْبِ عَلَى المَفْعُولِيَّةِ، أَوْ هِيَ نَكِرةٌ مَوْصُوفَةٌ. و "يُؤْمَرُونَ" فِعْلٌ مُضارعٌ مبنيٌّ للمجهولِ مَرْفوعٌ لِتَجَرُّدِهِ مِنَ النَّاصِبِ والجازِمِ، وعَلامَةُ رَفْعِهِ ثَبَاتُ النُّونِ فِي آخِرِهِ، لأَنَّهُ مِنَ الأَفْعَالِ الخَمْسَةِ، وواوُ الجَماعَةِ ضَمِيرٌ مُتَّصِلٌ بِهِ، مَبْنِيٌّ عَلَى السُّكونِ في مَحَلِّ الرَّفْعِ نائبٌ عنْ فاعِلِهِ. والجُمْلَةُ صِلَةُ "مَا" المَوْصُولَةِ فَلا مَحَلَّ لَهَا مِنَ الإِعْرابِ، أَوْ صِفَةٌ لَهَا فَي مَحَلِّ النَّصْبِ، إنْ أُعرِبَتْ نَكِرةً مَوْصُوفَةً. والعائدُ، أَوِ الرابطُ محذوفٌ تَقْديرُهُ: مَا يُؤْمَرُونَ بِهِ.