الموسوعة القرآنية فيض العليم ... سورة إبراهيم، الآية: 41
رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الْحِسَابُ (41)
قولُهُ ـ تَعَالى شَأْنُهُ: {رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِلْمُؤْمِنِينَ} أَيْ: اغْفِرْ لي مَا فَرَطَ مِنِّي مِمَّا هوَ جائزٌ في حقِّ الأَنْبِياءِ ـ عَلَيْهِمُ السَّلامُ، كَتَرْكِ الأَوْلى فيما يَخُصُّ أَمْرَ الدِّينِ وغَيْرِهِ مِمَّا لا يَسْلَمُ مِنْهُ البَشرُ، أمَّا دُعَاءُهُ لِأَبَوَيْهِ فقد كانَ هَذَا قَبْلَ أَنْ يَتَبَيَّنَ لَهُ أَنَّ أَبَاهُ عَدُوٌّ للهِ، قالَ ابْنُ الأَنْبَارِيِّ: اسْتَغْفَرَ لأَبَوَيْهِ وَهُمَا حَيَّانِ، طَمَعًا في أَنْ يُهْدَيَا إِلى الإِسْلامِ. وَقَدْ تَقَدَّمَ بَيانُ هذا مُفَصَّلًا عِنْدَ قولُهُ تَعالى فِي سُورَةِ بَرَاءَةٍ: {وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ إِلَّا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ للهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ} الآية: 114. وقِيلَ إِنَّ أُمَّهُ أَسْلَمَتْ فالدُعاءُ لها، وهي قراءةُ بعضِهم "ولوالِدَتي" وَقِيلَ: أَرَادَ إِنْ أَسْلَمَا وَتَابَا. وقيلَ أَرادَ آدمَ وحَوَّاءَ ـ عَلَيْهِما السَّلامُ. وَقِيلَ: إِنَّهُ أَرَادَ وَلَدَيْهِ إِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ ـ عَلَيْهِ السَّلامُ. يؤيِّدُ ذَلِكَ قراءةُ ابْنِ مَسْعُودٍ، وَأُبَيٍّ، إِبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ، والزُّهْرِيِّ، وَيَحْيَى بْنِ يَعْمَرَ: "وَلِوَلَدَيَّ" يَعْنِي ابْنَيْهِ. و "لِلْمُؤْمِنِينَ" قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ ـ رضيَ اللهُ عنهُما: أرادَ المِؤمنينَ مِن أُمَّةِ مُحَمَّدٍ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَقِيلَ: أرادَ كلَّ الْمُؤْمِنِينَ، وَهُوَ الأَظْهَرُ، وكذلكَ دعا نوح ـ عليهِ السَّلامُ للمؤمنين جَميعِهم فَقالَ: {رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِمَنْ دَخَلَ بَيْتِيَ مُؤْمِنًا وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ} الآية: 28، مِنْ سُورةِ نوح. أَخْرَجَ ابْنُ أَبي حَاتِمٍ عَنِ الإمامِ الشَّعْبِيِّ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، أَنَّهُ قَالَ: مَا يَسُرُّني بِنَصِيبي مِنْ دَعْوَةِ نُوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ للْمُؤْمِنينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ حُمرُ النِّعَمِ. وهَذِهِ الآيَةَ.
قولُهُ: {يَوْمَ يَقُومُ الْحِسَابُ} أَيْ: يَوْمَ تُحاسِبُ عِبادَكَ فَتُجازيهم بِأَعْمَالِهِمْ، إِنْ خَيْرًا فَخَيْرٌ، وَإِنَّ شَرًّا فَشَرٌّ. أَيْ: يَوْمَ القِيَامَةِ. و "يَقُومُ الْحِسَابُ" يَثْبُتُ. اسْتُعِيرَ الْقِيَامُ لِلثُّبُوتِ تَبَعًا لِتَشْبِيهِ الْحِسَابِ بِإِنْسَانٍ قَائِمٍ، لِأَنَّ حَالَةَ الْقِيَامِ أَقْوَى أَحْوَالِ الْإِنْسَانِ إِذْ هُوَ انْتِصَابٌ لِلْعَمَلِ. يُقَالُ: قَامَتِ الْحَرْبُ عَلَى سَاقٍ، إذا قَوِيَتْ وَاشْتَدَّتْ. وَيقولُونَ: تَرَجَّلَتِ الشَّمْسُ، إِذَا قَوِيَ ضَوْؤهَا واشتدَّ. وَقِيلَ: أَرَادَ يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِلْحِسَابِ، فَاكْتَفَى بِذِكْرِ الْحِسَابِ لِكَوْنِهِ مَفْهُومًا.
قولُهُ تَعَالَى: {رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِلْمُؤْمِنِينَ} رَبَّنَا: مُنَادَى مُضافٌ مَنْصُوبٌ، وعَلامَةُ نَصْبِهِ الفَتْحَةُ، و "نَا" ضميرُ جماعةِ المتكلِّمينَ متَّصلٌ بِهِ مَبْنِيٌّ عَلَى السُّكونِ في مَحلِّ الجَرِّ بِحَرْفِ الجَرِّ، وجُمْلَةُ النِّداءِ في مَحَلِّ النَّصْبِ مَقولُ القَوْلِ لِـ {قَالَ}. و "اغْفِرْ" فِعْلُ دُعَاءٍ مبنيٌّ على السُّكونِ، وفاعِلُهُ ضَميرٌ مُسْتترٌ فيهِ وُجوبًا تقديرُهُ (أنتَ) يَعُودُ عَلَى اللهِ تَعَالَى. "لِيَ" حرْفُ جرٍّ مُتَعَلِّقٌ بِـ "اغْفِرْ" وياءُ المُتَكلِّمِ ضميرٌ مُتَّصِلٌ بِهِ، مَبْنِيٌّ عَلَى السُّكونِ في مَحَلِّ الجَرِّ بِحَرْفِ الجَرِّ. و "وَلِوَالِدَيَّ" حرفُ عطفٍ ومعطوفٌ على الجارِّ قبلَهُ متعلِّقٌ بما تَعَلَّقَ بِهِ، و "والِدَيّ" مَجْرورٌ بحرفِ الجرِّ وعلامةُ جرِّهِ الياءُ لأنَّهُ مُثَنَّى وهو مُضافٌ، والياءُ الثانيةُ ضميرُ المتكلِّمِ متَّصلٌ بِهِ مبنيٌّ على السكونِ في محلِّ الجرِّ بالإضافةِ، وحُرِّكتْ بالفتحِ لانَّ الياءَ الأولى ساكنَةٌ فحرِّكتِ الثانيةُ لاستحالةِ التقاءِ الساكنَيْنِ. و "وَلِلْمُؤْمِنِينَ" حرفُ عَطْفٍ، وحرفُ جَرٍّ مَعْطُوفٌ عَلَى الجارِّ قبلَهُ متعلِّقٌ بما تَعَلَّقَ بِهِ أَيْضًا. و "المؤمنين" مجرورٌ بحرفِ الجَرِّ وعلامةُ جَرِّهِ الياءُ لأنَّهُ مثنَّى، والنونُ عِوَضٌ عنِ التنوينِ في الاسْمِ المفرَدِ، والجُمْلَةُ فِي مَحَلِّ النَّصْبِ، مَقولُ {قَالَ} عَلَى كَوْنِها جَوابَ النِّداءِ.
قولُهُ: {يَوْمَ يَقُومُ الْحِسَابُ} يَومَ: مَنْصوبٌ عَلَى الظَرْفِيَّةِ الزَّمانيَّةِ، مُتَعَلِّقٌ بِالفعلِ "اغْفِرْ". و "يَقُومُ" فِعْلٌ مُضارعٌ مرفوعٌ لتجَرُّدِهِ مِنَ الناصِبِ والجازِمِ، وعلامةُ رفعِهِ الضمَّةُ الظاهرةُ على آخِرِه، و "الْحِسَابُ" فاعِلُهُ مرفوعٌ بِهِ، وعلامةُ رفعِهِ ظاهرةٌ على آخرِهِ، والجُمْلَةُ الفعليَّةُ هذه في مَحَلَّ الجَّرِّ بإضافةِ "يَوْمَ" إليها.
قرَأَ العَامَّةُ: {والِدَيَّ} بِأَلِفٍ بَعْدَ الواوِ وتَشْديدِ الياءِ، وَقَرَأَ سَعِيدُ ابْنُ جُبَيْرٍ كَذَلِكَ، إِلَّا أَنَّه سَكَّنَ الياءَ، أَرادَ والدَهُ وَحْدَّهُ، كَقَوْلِهِ في سورةِ الشُعَراءِ: {واغْفِرْ لأَبي} الآية: 86. وقرَأَ ابنُ مسعودٍ، وأُبَيٌّ، والحُسَيْنُ بْنُ عَلِيٍّ، ومُحَمَّدُ، وَزَيْدٌ ابْنَا عَلِيِّ بْنِ الحُسَيْنِ، والنُخَعيُّ، والزُهرِيُّ، ويَحْيَى ابْنُ يَعْمُرَ ـ رضي اللهُ عنهم جميعًا "ولِوَلَدَيَّ" دُونَ أَلِفٍ، تَثْنِيَةَ وَلَدٍ، ويَعْنِي بِهِمَا إِسْماعيلَ وإِسْحاقَ، وأَنْكَرَهَا الجَحْدَرِيُّ بِأَنَّ فِي مُصْحَفِ أُبَيٍّ "ولأَبَوَيَّ" فَهِيَ مُفَسِّرَةٌ لِقِراءَةِ العَامَّةِ. ورُوِيَ عَنِ ابْنِ يَعْمُرَ أَنَّهُ قَرَأَ أيضًا "ولِوُلْدي" بِضَمِّ الواوِ وسُكُونِ الياءِ، جَمْعَ "وَلَدٍ" كَأُسْدٍ في "أَسَد"، وَيجوزُ أَنْ يَكُونَ لُغَةً في الوَلَدِ كالحُزْنِ والحَزَنِ، والعَدَمِ والعُدْمِ، والبُخْلِ والبَخَلِ، وعَلَيْهِ قولُ الشَّاعِرِ:
فليتَ زيادًا كان في بَطْنِ أُمِّه ................ وَلَيْتَ زِيادًا كانَ وُلْدَ حِمَارِ