جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَهَا وَبِئْسَ الْقَرَارُ
(29)
قولُهُ ـ تعالى شَأْنُهُ: {جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَهَا} قالَ قبْلُ في الآيةِ السَّابقةِ: {دارَ البوارِ} فأَبْهَمَ الأَمْرَ عَلَيْهِمْ، لِيَتَسَاءَلُوا: تُرى مَا هَذِهِ الدَّارُ التي وصَفها بدارِ البوارِ أي: الخُسْرانِ والهَلاكِ؟. ثمَّ قالَ هُنَا "جهنَّمَ" فأَوْضَحَ وبيَّنَ، كَمَا قَالَ ابْنُ زَيْدٍ، وَعَلَى هَذَا لَا يَجُوزُ الْوَقْفُ عَلَى {دارَ الْبَوارِ} لِأَنَّ جَهَنَّمَ مَنْصُوبَةٌ عَلَى التَّرْجَمَةِ عَنْ {دارَ الْبَوارِ} فَلَوْ رَفَعَهَا رَافِعٌ بِإِضْمَارٍ، عَلَى مَعْنَى: هِيَ جَهَنَّمُ، أَوْ بِمَا عَادَ مِنَ الضَّمِيرِ فِي "يَصْلَوْنَها" لَحَسُنَ الْوَقْفُ عَلَى {دارَ الْبَوارِ}. وفي الإبْهامِ ثُمَّ البَيَانِ مَا لا يَخْفَى مِنَ التَهْويلِ عَلَيْهمْ والتخويفِ لهم. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَريرٍ وَابْنُ أَبي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ زَيْدٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، فِي قَوْلِهِ تعالى: {دَار الْبَوَارِ} قَالَ: النَّار، قَالَ: وَقدْ بَيَّنَ اللهُ ذَلِكَ وأَخْبَرَكَ بِهِ فَقَالَ: "جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَها وَبِئْسَ الْقَرارِ". و "يَصْلَوْنَها" أَيْ: يَدْخُلونَها ويَنْزِلِونَ فِيها فَيَكْتَوُونَ بِحَرِّها، ويُقَاسُونَ عَذَابَها ويُعانونَ منْ شدَّةِ أَلَمِهِ، وَهَذَا بَيَانٌ لِكَيْفِيَّةِ الحُلولِ فِيها المَذْكورِ في الآيَةِ التي قَبْلَها. وَأَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ وَابْنُ جَريرٍ، وَابْنُ أَبي حَاتِمٍ، عَنْ قَتَادَةَ ـ رضِيَ اللهُ عَنْهُ، فِي قَوْلِهِ تعالى: "جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَها" قَالَ: هِيَ دَارُهم فِي الْآخِرَةِ.
قولُهُ: {وَبِئْسَ الْقَرَارُ} أَيْ: بِئْسَ القَرارُ قَرارُهُمْ، وبِئْسَ المَقَرُّ جَهَنَّمُّ، لأَنَّ أَحَدًا منهم لَنْ يستطيعَ الخروجَ مِنْها إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللهُ. أَوْ أَنَّ الذَمَّ لِذاتِ القَرارِ في جَهَنَّمَ، وهوَ الحالُ التي انْتَهُوا إِلَيْها. فكأَنَّهم مَربوطونَ بِكلالِيبَ فَلا يَسْتَطيعونَ خلاصًا مِنْها أَوْ فِكاكًا. وهيَ تَقُولُ: {هَلْ مِنْ مَّزِيدٍ} الآية: 30، مِنْ سورة (ق). وكأَنَّهمْ قَدْ عَشِقُوها فعَشِقَتْهمْ، ولَوْ كانَتْ لَديهمْ قُدْرَةٌ عَلَى أَنْ يَفِرُّوا مِنْها لَفَعَلُوا، لَكِنَّهم موَثَّقونَ فيها؛ وَفِيهِ بَيَانٌ أَنَّ حُلولَهم فيها وصِلِيَّهم حرَّها دائمٌ مُسْتَمِرٌّ.
قولُهُ تَعَالى: {جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَهَا} جَهَنَّمَ: عَطْفُ بَيَانٍ مِنْ {دَارَ} في الجملةِ التي قبلَها أَو بَدَلٌ مِنْهُ مَنْصوبٌ مِثلهُ. وعَلى هَذَيْنِ الوَجْهَيْنِ فالإِحْلالُ واقِعٌ في الآخِرَةِ. ويجوزُ أَنْ يَنْتَصِبَ عَلَى الاشْتِغالِ بِفِعْلٍ مُقَدَّرٍ، وعَلَيْهِ فالإِحلالُ واقعٌ في الدُنْيا، لأَنَّ قولَهُ: "جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَهَا" واقعٌ في الآخِرَةِ. ويُؤَيِّدُ هَذا التَأْويلَ قِراءَةُ ابْنِ أَبي عَبْلَةَ "جَهَنَّمُ" بالرَّفْعِ، عَلَى أَنَّها رفعٌ بالابْتِداءِ، والجُمْلةُ بعدَها خبَرُهُ. و "يَصْلَوْنَهَا" فِعْلٌ مُضارعٌ مرفوعٌ لتجَرُّدِهِ مِنَ الناصِبِ والجازِمِ، وعلامةُ رفعِهِ ثباتُ النونِ في آخِرِهِ لأنَّهُ مِنَ الأفعالِ الخمسَةِ، وواوُ الجماعةِ ضميرٌ متَّصلٌ بهِ مبنيٌّ على السكونِ في محلِّ الرفعِ فاعلُهُ، و "ها" ضميرٌ مُتَّصلٌ بهِ مبنيٌّ على السكونِ في محلِّ النَّصْبِ مفعولٌ بِهِ، والجُمْلَةُ في مَحَلِّ النَّصْبِ عَلى الحالِ مِنْ {قَوْمَهُمْ} أَوْ مِنْ {دَارَ} مِنَ الجُمْلةِ التي قبلَها، أَوْ مِنْ "جَهَنَّمَ"، ذَلِكَ لأَنَّه لَمْ يَتَقَدَّمْ ما يرجِّحُ النَّصْبَ، ولا ما يَجْعلُهُ مُساوِيًا.
قولُهُ: {وَبِئْسَ الْقَرَارُ} الواوُ: للاسْتِئْنافِ، أَوْ هي حاليَّةٌ، و "بِئْسَ" فعْلٌ ماضٍ لإنْشاءِ الذَمِّ، مَبْنِيٌّ عَلَى الفَتْحِ الظاهِرِ على آخِرِهِ، والمَخْصُوصُ بالذَمِّ هنا مَحذوفٌ وُجُوبًا تقديرُهُ: (هي) يعودُ على: "جَهَنَّمَ"، و "القَرارُ" فاعِلُهُ مَرْفوعٌ بِهِ وعلامةُ رَفْعِهِ الضمَّةُ الظاهرةُ على آخِرِهِ. والجُملةُ اسْتِئْنافيَّةٌ إنْشائيَّةٌ لا مَحَلَّ لَها مِنَ الإعْرابِ، أَوْ فِي مَحَلِّ النَّصْبِ على الحالِ مِنْ ضَميرِ الغائبِ.
قَرَأَ الجُمْهورُ: {جَهَنَّمَ} بالنَّصْبِ وقد تقدَّمَ توجيهُها في الإعْرابِ، وهوَ الأَفْصَحُ. وقَرَأَ ابْنُ أَبي عَبْلَةَ "جَهَنَّمُ" بالرَّفْعِ، عَلَى أَنَّها رَفْعٌ بالابْتِداءِ، خَبَرُهُ الجُمْلةُ بعدَهُ. ويُحْتَمَلُ أَنْ يَرْتَفِعَ عَلَى الخَبَرِ.