الموسوعة القرآنية فيض العليم... سورة إبراهيم، الآية: 25
تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا وَيَضْرِبُ اللهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (25)
قولُهُ ـ تَعَالَى شَأْنُهُ: {تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ} أي: تُعْطِي ثِمَارَهَا كُلَّ وَقْتٍ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا: "تُؤْتي أُكُلَهَا" قَالَ: يَكونُ أَخْضَرَ ثُمَّ يَكونُ أَصْفَرَ. وَأَخْرَجَ عَنْهُ أَيضًا ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، أَنَّهُ قَالَ: "تُؤْتي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ" قَالَ: جُذاذُ النَّخْلِ. والجُذاذُ، أوِ الجِذاذُ (والضَمُّ أَفْصَحُ): ما تَقَطَّعَ مِنَ النَّخلِ. والْحِينُ فِي اللُّغَةِ هُوَ الْوَقْتُ، وَفِي مَعْنَى الْحِينِ أَقْوَالٌ:
1 ـ الحينُ سنةٌ كاملةٌ: لِمَا أَخْرَجَ أَبُو عُبَيْدٍ، وَابْنُ أَبي شَيْبَةَ، وَابْنُ جَريرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، عَنْ سَعيدِ بْنِ جُبَيْرٍ ـ رَضِي الله عَنْهُ، أنَّهُ قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ إِلَى ابْنِ عَبَّاسٍ ـ رَضِي الله عَنْهُمَا، فَقَالَ: إِنِّي حَلَفْتُ أَنْ لَا أُكَلِّمَ أَخي حِينًا. فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: أَوْقَتَّ شَيْئًا؟. قَالَ: لَا. قَالَ: فَإِنَّ اللهَ تَعَالَى يَقُولُ: "تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا". فالحِينُ سَنَةٌ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: الْحِينُ هَهُنَا هُوَ سَنَةٌ كَامِلَةٌ؛ لِأَنَّ النَّخْلَةُ تُثْمِرُ كُلَّ سَنَةٍ. أَخْرَجَهُ عنهُ ابْنُ جَريرٍ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَريرٍ عَنْ عِكْرِمَةَ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، قَالَ: أَرْسَلَ إِليَّ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ، فَقَالَ: يا مَوْلَى ابْنِ عَبَّاسٍ، إِنِّي حَلَفْتُ أَنْ لا أَفْعَلَ كَذَا وَكَذَا حِينًا، فَمَا الْحِينُ الَّذِي يُعْرَفُ بِهِ؟ فَقلْتُ: إِنَّ مِنَ الْحِينِ حِينًا لَا يُدْرَكُ، فَقَوْلُ اللهِ: {هَلْ أَتَى عَلَى الإِنْسانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئًا مَذْكُورًا} سُورةِ الإِنْسان الآيَة: 1، وَاللهِ مَا نَدْرِي كَمْ أَتَى لَهُ إِلَى أَنْ خُلِقَ، وَأَمَّا الَّذِي يُدْرَك فَقَوْلُهُ: "تُؤْتي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ" فَهُوَ ما بَيْنَ الْعَامِ إِلَى الْعَامِ الْمُقْبِلِ فَقَالَ: أَصَبْتَ يَا مَوْلَى ابْنِ عَبَّاسٍ، مَا أَحْسَنَ مَا قُلْتَ.
2 ـ الحينُ سبعةُ أشهُرٍ: أَخْرَجَهُ الْبَيْهَقِيُّ عَنْ قَتَادَةَ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، قَال: "تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ": فِي كُلِّ سَبْعَةِ أَشْهُرٍ.
3ـ الحينُ ستَّةُ أشهُرٍ: ورويَ أيضًا عَنِ ابْنُ عَبَّاسٍ ـ رَضِيَ اللهُ عنْهُما: سِتَّةُ أَشْهُرٍ؛ لِأَنَّهَا مِنْ حِينِ ضِرابِها إِلَى حِينِ إطْلاعها. وَأَخْرَجَ الْفِرْيَابِيُّ، وَابْنُ جَريرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبي حَاتِمٍ عَنْ عِكْرِمَةَ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا، أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ رَجُلٍ حَلَفَ أَنْ لَا يَصْنَعَ كَذَا وَكَذَا إِلَى حِينٍ، فَقَالَ: إِنَّ مِنَ الْحِينِ حِينًا يُدْرَكُ، وَمِنَ الْحِينِ حِينًا لَا يُدْرَكُ، فالحِينُ الَّذِي لَا يُدْرَكُ قَوْلُهُ تعالى في الآيةِ: 88، مِنْ سورةِ (ص): {ولَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ بعدَ حِينٍ}. والحِينُ الَّذِي يُدْرَكُ قولُهُ: "تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا" وَذَلِكَ مِنْ حِينِ تُصْرِمُ النَّخْلَةُ إِلَى حِينِ تُطْلِعُ، وَذَلِكَ سِتَّةُ أَشْهُرٍ. وَأَخرجَ الْبَيْهَقِيُّ فِي سُنَنِهِ عَنْ عَليٍّ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، قَالَ: الْحِينُ سِتَّةُ أَشْهُرٍ.
4 ـ الحينُ أربعَةُ أشهُرٍ: فقد رُويَ عَنْ سَعيدِ بْنِ الْمُسَيّبِ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، أنَّهُ قَالَ: أَرْبَعَةُ أَشْهُرٍ؛ لِأَنَّهَا مِنْ حِينِ ظُهُورِهَا إِلَى حِينِ إِدْرَاكِهَا.
5 ـ الحينُ شَهرانِ: فقد أَخْرَجَ ابْنُ أَبي شَيْبَةَ، وَابْنُ جَريرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبي حَاتِمٍ، وَالْبَيْهَقِيُّ، عَنْ سَعيدِ ابْنِ الْمُسَيِّبِ، قَالَ: الْحِينُ يَكونُ شَهْرَيْنِ، والنَّخْلَةُ إِنَّمَا يَكونُ حَمْلُهَا شَهْرَيْنِ.
6 ـ الحينُ شَهْرٌ: أَخْرَجَهُ ابْنُ مِرْدُوَيْهِ عنِ ابنِ عباسٍ ـ رَضِيَ اللهُ تَعَالَى عَنْهُمَا.
7 ـ أَنَّهُ غُدْوَةٌ وَعَشِيَّةٌ: لِأَنَّ ثَمَرَ النَّخْلَةِ يُؤْكَلُ مِنْهَا أَبَدًا، إِمَّا رُطَبًا، وَإِمَّا تَمْرًا وَإِمَّا بِسْرًا. فَقدْ أَخْرَجَ الْبَيْهَقِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا، قَالَ: الْحِينُ قدْ يَكونَ غُدْوَةً وَعَشِيَّةً.
8 ـ كل سَاعَة بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ، والشِّتاءِ والصَّيْفِ، يُؤْكَلُ فِي جَمِيعِ الْأَوْقَاتِ. قَالَهُ الضَّحَّاكُ ـ رضيَ اللهُ عنْهُ. وَأَخرَجَهُ ابْنُ أبي حَاتِمٍ أيضًا عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا. وَذَلِكَ مَثَلُ الْمُؤمِنِ يُطِيعُ رَبَّهُ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ، والشِّتاءِ والصَّيْفِ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ، وَابْنُ جَريرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبي حَاتِمٍ عَنْ قَتَادَةَ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: "تُؤْتي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ" قَالَ: تُؤْكَلُ ثَمَرَتُهَا فِي الشِتَاءِ والصَّيْفِ. ذلك لأَنَّ ثَمَرَتَهَا لَا بُدَّ أَنْ تَكُونَ حَاضِرَةً دَائِمَةً فِي كُلِّ الْأَوْقَاتِ، لأنَّها لا تَفْسُدُ كغيرِها مِنَ الثِمَارِ وإنَّما تَبْقَى كما هِيَ لِمُدَّةٍ طويلةٍ، وكذلكَ الكلمةُ الطيِّبةُ التي شُبِّهتْ بها. وَكَذَلِكَ الْمُؤْمِنُ لَا يَخْلُو مِنَ الْخَيْرِ فِي الْأَوْقَاتِ كُلِّهَا.
وَقَالَ النَّحَّاسُ: وَهَذِهِ الْأَقْوَالُ مُتَقَارِبَةٌ غَيْرُ مُتَنَاقِضَةٍ، لِأَنَّ الْحِينَ عِنْدَ جَمِيعِ أَهْلِ اللُّغَةِ ـ إِلَّا مَنْ شَذَّ مِنْهُمْ، بِمَعْنَى الْوَقْتِ يَقَعُ لِقَلِيلِ الزَّمَانِ وَكَثِيرِهِ، وَأَنْشَدَ الْأَصْمَعِيُّ بَيْتَ النَّابِغَةِ يَصِفُ فيهِ حَيَّةً:
تَنَاذَرَها الرَّاقونَ مِنْ سُوءِ سَمِّها ............... تَطْلُقُهُ حِينًا وحِينًا تُراجِعُ
تَنَاذَرَها الرَّاقونَ: أَيْ أَنْذَرَ بَعْضَهم بَعْضًا أَلَّا يَتَعَرَّضُوا لَهَا. وتَطْلُقُهُ حِينًا وحِينًا تُراجِعُ: يَعْنِي أَنَّ الأَوْجاعَ تَخْفَى عَنِ السَّليمِ تارةً و تَشْتَدُّ أُخرى. ويُرْوَى: (مِنْ سُوءِ سَمْعِها) أَيْ: لا تُجِيبُ الرَّاقي، لا أَنَّها صَمَّاءُ، لِقَوْلِهِمْ: أَسْمَعُ مِنْ حَيَّةٍ.
فقد شَبَّهَ اللهُ تعالى في هذه الآيةِ المباركةِ عَمَلَ الْمُؤْمِنِ لوجه اللهِ ـ عَزَّ وَجَلَّ، فِي كُلِّ وَقْتٍ بِالنَّخْلَةِ الَّتِي تُؤْتِي أُكُلَهَا فِي أَوْقَاتٍ مُخْتَلِفَةٍ. فإِنَّ مَعْرِفَةَ اللهِ تَعَالَى وَالِاسْتِغْرَاقَ فِي مَحَبَّتِهِ وَفِي خِدْمَتِهِ وَطَاعَتِهِ تُشْبِهُ هَذِهِ الشَّجَرَةَ فِي صِّفَاتِهَا الْأَرْبَعِ تلكَ التي تقدَّمَ بيانُها وَهِيَ: كَوْنُهَا طَيِّبَةً، وَكَوْنُهَا ثَابِتَةَ الْأَصْلِ، وكَوْنُ فَرْعِهَا فِي السَّمَاءِ، وكونُها تُؤْتِي أُكُلَها كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّها، لِأَن فَائِدَةَ الْإِيمَانِ وبَرَكَتُهُ لَا تَنْقَطِعُ أَبَدًا، بَلْ تَصِلُ إِلَى الْمُؤمِنِ فِي كلِّ وَقْتٍ، كَمَا أَنَّ نَفْعَ النَّخْلَة وبَرَكَتُها تَصِلُ إِلَى حَاجَتِهَا فِي كُلِّ وَقْتٍ. وَمِنَ الْمَعْلُومِ بِالضَّرُورَةِ أَنَّ الرَّغْبَةَ فِي تَحْصِيلِ مِثْلِ هَذِهِ الشَّجَرَةِ يَجِبُ أَنْ تَكُونَ عَظِيمَةً، وَأَنَّ الْعَاقِلَ مَتَى أَمْكَنَهُ تَحْصِيلُهَا وَتَمَلُّكُهَا فَإِنَّهُ لَا يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَتَغَافَلَ عَنْهَا وَأَنْ يَتَسَاهَلَ فِي الْفَوْزِ بِهَا. فَأَثَرُ رُسُوخِ شَجَرَةِ الْمَعْرِفَةِ فِي أَرْضِ الْقَلْبِ أَنْ يَكُونَ نَظَرُهُ بالعِبْرَةِ كَمَا قالَ تعالى في الْآية: 2، مِنْ سُورةِ الحَشْر: {فَاعْتَبِرُوا يا أُولِي الْأَبْصارِ} وَأَنْ يَكُونَ سَمَاعُهُ بِالْحِكْمَةِ كَمَا قَالَ في سورةِ الزُّمَرِ: {الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ} الآية: 18، وَنُطْقُهُ بِالصِّدْقِ وَالصَّوَابِ كَمَا قَالَ في الآيةِ: 135، منْ سورةِ النِّسَاءِ: {كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَداءَ للهِ وَلَوْ عَلى أَنْفُسِكُمْ}، وَكما قَالَ ـ عَلَيْهِ الصلاةُ والسَّلَامُ: ((قُولُوا الْحَقَّ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ)) رَواهُ الحافِظُ بْنُ حَجَرٍ العَسْقلانِيُّ في كتابِهِ: (تَلْخيصُ الحَبيرِ في أَحَاديثِ الرافعِيِّ الكَبيرِ) (3/64)، مِنْ حَديثِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طالِبٍ ـ رَضِيَ اللهُ عنْهُ وأَرْضاهُ، ولَفْظُهُ: (وَجَدْتُ في قائمِ سَيْفِ النَّبِيِّ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ، رُقْعَةً فِيها: ((صِلْ مَنْ قَطَعَكَ، وأَحْسِنْ إِلى مَنْ أَساءَ إِلَيْكَ، وقُلِ الحَقَّ وَلَوْ عَلَى نَفْسِكَ)). وَكُلَّمَا كَانَ رُسُوخُ شَجَرَةِ الْمَعْرِفَةِ فِي أَرْضِ قَلْبِ هَذَا الْإِنْسَانِ أَقْوَى وَأَكْمَلَ، كَانَ ظُهُورُ هَذِهِ الْآثَارِ عِنْدَهُ أَكْثَرَ، وَرُبَّمَا صارَ بِحَيْثُ كُلَّما لا حَظَ شَيْئًا لَاحَظَ الْحَقَّ فِيهِ، وَرُبَّمَا عَظُمَ تَرَقِّيهِ فِيهِ فَصارَ لَا يَرَى شَيْئًا إِلَّا وَرَأَى اللهَ قَبْلَهُ.
فَهَذَا هُوَ الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: "تُؤْتِي أُكُلَها كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّها"، وَهُو أَيْضًا إِشَارَةٌ إِلَى الْإِلْهَامَاتِ النَّفْسَانِيَّةِ وَالْمَلَكَاتِ الرُّوحَانِيَّةِ الَّتِي تَحْصُلُ فِي جَوَاهِرِ الْأَرْوَاحِ، ثُمَّ لَا يَزَالُ يَصْعَدُ مِنْهَا فِي كُلِّ حِينٍ وَلَحْظَةٍ وَلَمْحَةٍ كَلَامٌ طَيِّبٌ، وَعَمَلٌ صَالِحٌ، وَخُضُوعٌ، وَخُشُوعٌ، وَبُكَاءٌ، وَتَذَلُّلٌ، كَثَمَرَةِ هَذِهِ الشَّجَرَةِ الطَيِّبةِ.
قَولُهُ: {بِإِذن رَبهَا} أَي: بِأَمْر رَبهَا. وفِيهِ دَقِيقَةٌ عَجِيبَةٌ، وَذَلِكَ لِأَنَّ عِنْدَ حُصُولِ هَذِهِ الْأَحْوَالِ السَّنِيَّةِ، وَالدَّرَجَاتِ الْعَالِيَةِ، فقَدْ يَفْرَحُ الْإِنْسَانُ بِهَا، وَقَدْ يَتَرَقَّى فَلَا يَفْرَحُ بِهَا مِنْ حَيْثُ إِنَّهَا مِنَ الْمَوْلَى، بَلْ يَكُونُ فَرَحُهُ بِالْمَوْلَى لَا بِهَذِهِ الْأَحْوَالِ، فإنَّ هَذَا الْمِثَالَ الَّذِي ذَكَرَهُ اللهُ تَعَالَى فِي هَذَا الْكِتَابِ مِثَالٌ هَادٍ إِلَى عَالَمِ الْقُدُسِ، وَحَضْرَةِ الْجَلَالِ، وَسُرَادِقَاتِ الْكِبْرِيَاءِ، فنَسْأَلُهَ تَعَالَى مَزِيدَ الِاهْتِدَاءِ وَالرَّحْمَةِ إِنَّهُ هوَ السَّمِيعٌ المُجِيبٌ.
وَقَولُهُ: {وَيضْرب الله الْأَمْثَال للنَّاس} ومَوْضِعُ الْمَثَلِ أَنَّ الْإِيمَان ثَابتٌ فِي الْقلْبِ، وَالْعَمَلُ صاعِدٌ إِلَى السَّمَاء، كالنَّخْلَةِ ثَابتٌ أَصْلُهَا فِي الأَرْضِ، وفُرُوعُها مُرْتَفعَةٌ إِلَى السَّمَاءِ، وَقَدِ اسْتَدَلَّ بَعْضُ أهلِ العِلْمِ بِأَنَّ النَّخْلَةَ تُشبِهُ الْآدَمِيَّ؛ لِأَنَّهَا مُحْتَاجَةٌ إِلَى اللُّقَاحِ، والآدَمِيُّ كذلكَ فإنَّهُ لَا يُولَدُ لَهُ حَتَّى يُلَقَّحَ.
قولُهُ: {لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ} أَيْ: يَتَّعِظونَ، لأَنَّ فِي ضَرْبِ الْأَمْثَالِ زِيَادَةَ إِفْهامٍ لِحَقائقِ الأُمورِ وتوضِيحً لها، وَفيهِ تَصْوِيرٍ لِلْمَعَانِي وتَذْكِيرٌ بها، فإنَّ الْمَعَانِيَ الْعَقْلِيَّةَ الْمَحْضَةَ لَا يَقْبَلُهَا الْحِسُّ وَالْخَيَالُ وَالْوَهْمُ، فَإِذَا ذُكِرَ مَا يُسَاوِيهَا مِنَ الْمَحْسُوسَاتِ تَرَكَ الْحِسُّ وَالْخَيَالُ وَالْوَهْمُ تِلْكَ الْمُنَازَعَةَ وَانْطَبَقَ الْمَعْقُولُ عَلَى الْمَحْسُوسِ وَحَصَلَ بِهِ الْفَهْمُ التَّامُّ، والحَقُّ ـ سُبْحَانَهُ وتَعَالى، حينَ يَضْرِبُ لَنَا الأَمْثالَ بِالأُمورِ المَحْسوسَةِ، إنَّما يَنْقُلُ لنا المَعاني المُجَرَّدَةَ إِلَى أَذْهانِنَا؛ لأَنَّ للإنْسانِ إِلْفٌ بالمَحسوسِ؛ وإِدْراكاتُ حواسِّهِ تُعْطيهِ الأُمُورَ الحِسِّيَّةَ أَوَّلًا، ثُمَّ تُحَقِّقُ لَهُ المَعَاني.
قولُهُ تَعَالى: {تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا} تُؤْتِي: فِعْلٌ مُضَارِعٌ متعدٍّ لمفعولين لأنَّهُ بمعنى "تُعطي"، مَرْفوعٌ لتجرُّدِهِ منَ الناصِبِ والجازمِ، وعلامَةُ رفعِهِ مقدَّرةٌ على الياءِ للثقلِ، وفاعِلُهُ ضميرٌ مُسْتترٌ فيهِ جوازًا تقديرُهُ (هي) يَعودُ عَلَى "شَجَرَةٍ". ومفعولُهُ الأولُ مَحَذوفٌ، والتَقديرُ: تُؤْتي أَصْحابَها أُكُلَها. و "أُكُلَهَا" مَفْعُولُهُ الثاني مَنْصُوبٌ بِهِ مُضافٌ، و "ها" ضميرٌ متَّصلٌ بِهِ مبنيٌّ على السكونِ في محلِّ الجرِّ بالإضافةِ، و "كُلَّ" مَنْصوبٌ عَلَى الظَرْفِيَّةِ كونَهُ اسْمٌ نائبٌ عَنِ الظَرْفِ، مُتَعَلِّقٌ بِـ "تُؤْتِي" وهو مُضافٌ، و "حِينٍ" مجرورٌ بالإضافةِ إليْهِ، والجُمْلَةُ في مَحَلِّ الجَرِّ صِفَةً لِـ "شَجَرَةٍ" مِنَ الآيةِ السابقةِ. وجوَّزَ أَبو البَقَاءِ العُكْبُريُّ أَنْ تَكونَ حالًا مِنْ مَعْنَى الجُمْلَةِ التي قَبْلَها، أَيْ: تَرْتَفِعُ مُؤْتِيَةً. و "بِإِذْنِ" الباءُ: حرفُ جَرٍّ مُتَعَلِّقٌ بِـ "تُؤْتِي"، و "إذْنِ" مَجْرورٌ بحرفِ الجرِّ مُضافٌ، و "رَبِّهَا" ربِّ: اسمٌ مَجْرورٌ بالإضافةِ إِلَيْهِ وهو مُضافٌ أيضًا، و "ها" ضَميرٌ متَّصلٌ بِهِ مبنيٌّ عَلى السُّكونِ في مَحَلِّ الجرِّ بالإضافةِ إليهِ. وقد تقدَّم الخلافُ بين القرَّاءِ في "أُكُلَها".
قَوْله: {وَيَضْرِبُ اللهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ} وَيَضْرِبُ: الواوُ: للاسْتِئْنافِ، و "يَضْرِبُ" فعلٌ مضارعٌ مرفوعٌ لتجرُّدِهِ مِنَ الناصِبِ والجازِمِ. ولفظُ الجلالةِ "اللهُ" فاعِلُهُ مرفوعٌ بِهِ، و "الْأَمْثَالَ" مَفْعولُهُ منصوبٌ بِهِ. و "لِلنَّاسِ" اللامُ: حرفُ جرٍّ مُتَعَلِّقٌ بِـ "يَضْرِبُ" بِتَضْمينِهِ مَعْنَى "يُبَيِّنُ"، و "الناس" مجرورٌ بحرفِ الجرِّ. والجُمْلَةُ مُسْتَأْنَفَةٌ لا محلَّ لها مِنَ الإعرابِ.
قولُهُ: {لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ} لَعَلَّهُمْ: لعلَّ: حرفٌ ناصِبٌ مشبَّهٌ بالفعلِ للترجي، و "الهاء" ضميرٌ متَّصلٌ بهِ في محلِّ النَّصبِ اسْمُهُ، والميمُ للجمعِ المُذكَّرِ. و "يَتَذَكَّرُونَ" فعلٌ مضارعٌ مرفوعٌ لتجرُّدِهِ مِنَ الناصِبِ والجازمِ، وعلامةُ رفعِهِ ثبوتُ النونِ في آخرِهِ لأنَّهُ مِنَ الأفعالِ الخمسةِ، والواوُ: واوُ الجماعةِ ضميرٌ متَّصلٌ بهِ مبنيٌّ على السكونِ في محلِّ الرفعِ فاعِلُهُ، و الجملةُ في محلِّ الرفعِ خَبَرُ "لعلَّ"، وجُمْلَةُ "لَعَلَّ" مُسْتَأْنَفَةٌ مَسُوقَةٌ لِتَعْليلِ مَا قَبْلَها لا محلَّ لها مِنَ الإعرابِ.