الموسوعة القرآنية فيض العليم... سورة إبراهيم، الآية: 24
أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللهُ مَثَلًا كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ
(24)
قولُهُ ـ جلَّ وعَزَّ: {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللهُ مَثَلًا} أَلَمْ تَرَ: هي هَهُنا بِمَعْنَى: أَلَمْ تَعْلَمْ، فالرُؤيةُ علميَّةٌ وليستْ بَصَريَّةً. وهَذَا مَثَلٌ آخَرُ يضْربُهُ اللهُ تعالى لِعبادِهِ توضيحًا لمكانِ الإيمانِ في قلبِ المؤمنِ وأثرِهِ الطيِّبِ فيهِ. وللهِ أنْ يضرِبَ ما يشاءُ مِنَ الأمثلةِ بحسْبِ ما تقتضيِهِ حكمتُهُ. وَضَرْبُ الْمَثَلِ: نَظْمُ تَرْكِيبِهِ الدَّالِّ عَلَى تَشْبِيهِ الْحَالَةِ. والخِطابُ للرَّسولِ ـ صَلَّى اللهُ عَليْهِ وسَلَّمَ، ولا مانِعَ أَنْ يَعُمَّ الناسَ كلَّهم، وأنْ يَكونَ مُوَجَّهًا لِكُلِّ مَنْ يَصْلُحُ لِلْخِطَابِ.
قولُهُ: {كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ} الطَّيِّبَةُ: النَّافِعَةُ. اسْتُعِيرَ الطَّيِّبُ لِلنَّفْعِ لِحُسْنِ وَقْعِهِ فِي النُّفُوسِ كَوَقْعِ الرَّوَائِحِ الذَّكِيَّةِ. والكَلِمَةُ الطَّيِّبَةُ هيَ: الإيمانُ، عندَ مُجاهدٍ وابْنِ جُرَيْجٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُما. وهي المُؤْمِنُ نَفْسُهُ، عِنْدَ عَطِيَّة العوفي والربيعِ بْنِ أَنَسٍ ـ رضي اللهُ عنهما. وحَكَى ابنُ أَبي طَلْحَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ـ رضيَ اللهُ عنهم، أَنَّ الكَلِمَةَ الطَّيِّبَةِ هي الإيمانُ، والشَّجَرَةُ الطَيِّبَةُ هيَ المُؤْمِنُ. وروى عَنِ النَّبِيِّ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَنَّ الشجرةَ الطيبةَ هي النخلةُ، أَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ: (3119)، والنَّسائي، في سُنَنِهِ الكُبْرَى" (11198) ورُوِيَ عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عُمُرٍ وأَنَسِ بْنِ مَالِكٍ ـ رضيَ اللهُ عنهم. وَقد بُيِّنَتْ بِرِوَايَةِ ابْنِ عُمَرَ ـ رضي اللهُ عنهما، عَنِ النَّبِيِّ ـ صلى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ، أَنَّهُ قَالَ لأَصْحَابه: ((أَخْبِروني عَن شَجَرَةٍ هِيَ مَثْلُ الْمُؤمِنِ؟)) فَوَقَعَتِ الصَّحَابَةُ فِي شَجَرِ الْبَوَادِي. قَالَ ابْنُ عُمَرَ: وَوَقَعَ فِي نَفسِي أَنَّهَا النَّخْلَةُ، ثمَّ إِنَّ النَّبِي قَالَ: هِيَ النَّخْلَة. قَالَ ابْنُ عُمَرَ: فَذَكَرْتُ لأَبي أَنَّهُ كَانَ وَقعَ فِي نَفسِي كَذَا، فَقَالَ: لَو كُنْتَ قُلْتَهُ كَانَ أَحَبَّ إِلَيَّ مِنْ حُمْرُ النّعَمَ. صحيح البُخاري برقم: (4698)، ومسلم: (2811)، وابن حبان وغيرُهم كثيرٌ منْ أَئمَّةِ الحديثِ. وبِهِ قالَ أَكثرُ المُتَأَوِّلينَ.
وَأَخْرَجَ ابْنُ جريرٍ، وَابْنُ أبي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا، فِي قَوْلِهِ: "أَلَمْ تَرَ كَيفَ ضَرَبَ اللهُ مَثَلًا"، قَالَ: يَعْنِي بِالشَّجَرَةِ الطّيبَةِ الْمُؤمنَ، وَيَعْنِي بِالْأَصْلِ الثَّابِتِ فِي الأَرْضِ، وبالفَرْعِ فِي السَّمَاءِ: يَكونُ الْمُؤمِنُ يَعْمَلُ فِي الأَرْضِ وَيتَكَلَّمُ فَيَبْلُغُ عَمَلُهُ وَقَولُهُ السَّمَاءَ وَهُوَ فِي الأَرْض. وأَخْرجَ ابْنُ جَريرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أبي حَاتِمٍ، وَالْبَيْهَقِيُّ، فِي الْأَسْمَاء وَالصِّفَات عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا، فِي قَوْلِهِ تعالى: "أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللهُ مَثَلًا كَلِمَةً طَيِّبَةً" شَهَادَةُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ. ورُوِيَ عنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ـ رضيَ اللهُ عنهما: أَنَّها شَجَرَةٌ في الجَنَّةِ. ورُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ـ رضيَ اللهُ عنهما، قولُهُ: الكَلِمَةُ الطَّيِّبَةُ: هيَ لا إِلَهَ إِلَّا اللهُ، ورويَ ذلك عنْ غيرِهِ، فقيلَ: هي كلمةُ التَوحيدِ وكُلُّ كَلِمَةٍ حَسَنَةٍ، كالتَسْبيحَةَ، والتَحْميدَةِ، والاسْتِغْفارِ، والتَّوْبَةِ، والدَّعْوَةِ إلى اللهِ تَعَالى. فَالْمُشَبَّهُ هُوَ الْهَيْئَةُ الْحَاصِلَةُ مِنَ الْبَهْجَةِ فِي الْحِسِّ وَالْفَرَحِ فِي النَّفْسِ، وَازْدِيَادِ أُصُولِ النَّفْعِ بِاكْتِسَابِ الْمَنَافِعِ الْمُتَتَالِيَةِ بِهَيْئَةِ رُسُوخِ الْأَصْلِ، وَجَمَالِ الْمَنْظَرِ، وَنَمَاءِ أَغْصَانِ الْأَشْجَارِ. وَوَفْرَةِ الثِّمَارِ، وَمُتْعَةِ أَكْلِهَا. وَكُلُّ جُزْءٍ مِنْ أَجْزَاءِ إِحْدَى الْهَيْئَتَيْنِ يُقَابِلُهُ الْجُزْءُ الْآخَرُ مِنَ الْهَيْئَةِ الْأُخْرَى، وَذَلِكَ أَكْمَلُ أَحْوَالِ التَّمْثِيلِ أَنْ يَكُونَ قَابِلًا لِجَمْعِ التَّشْبِيهِ وَتَفْرِيقِهِ.
قولُهُ: {أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ} أَصْلُ الشَّجَرَةِ: جُذْورُهَا، وَفَرْعُها: غُصْنُهَا، وَفَرعُ الشيءِ هو مَا امْتَدَّ مِنْهُ وَعَلَا، وهوَ مُشْتَقٌّ مِنَ الِافْتِرَاعِ: الِاعْتِلَاءِ. وَالسَّمَاءُ: مُسْتَعْمَلٌ فِي الِارْتِفَاعِ، وَذَلِكَ مِمَّا يُزِيدُ الشَّجَرَةَ بَهْجَةً وَحُسْنَ مَنْظَرٍ. أي: إنَّ جُذورَها ضاربةٌ في أَعْماقِ الأَرْضِ ولذلكَ فهي ثابتةٌ راسخةٌ، لا تزعزعُها الرياحُ العاتيةُ عن مكانها ولا تقتلعُها العواصِفُ، ولأَنَّ جذورَها ضاربةٌ في أعماقِ الأرضِ فهي مَوْفُورَةُ النُّسْغِ، ولأنَّها موفورةُ النُّسْغِ فإنَّ فروعَها وأَغْصانَها مُمْتَدَّةٌ بعيدًا في الفضاءِ مشرئبَّةٌ نحْوَ السَّماءِ. فكأَنَّ أَصْلَ هَذِهِ الكَلِمَةَ ثابتٌ في قلوبِ المُؤمنين، وفَضْلُها ومَا يَصْدُرُ عَنْها مِنْ أَفْعالٍ زَكيَّةٍ، وأَنواعِ الحسناتِ هوَ فَرْعُها يَصْعُد إِلى السَّماءِ مِنْ قِبَلِ العبدِ. فأَصْلُ تِلكَ الشَّجَرَةِ المَعْرِفَةُ، والإِيمانُ مُصَحَّحًا بالأَدِلَّةِ العقليَّةِ والبَراهينِ القطعيَّةِ. وفُروعُها هي الأَعْمالُ الصَّالحَةُ التي هِيَ الفَرائضُ التي فرضَها اللهُ تعالى على عبادِهِ، من صلاةٍ وصيامٍ وصدَقةٍ وحجٍّ وغيرِهِ مما هو مبيَّنٌ في كتُبِ الفقهِ الإسلاميِّ، معَ مُجانَبَةِ المَعاصي والمُخالفاتِ، التي نَهى اللهُ تعالى عَنْها. وتلكَ الشجرةُ أوراقُها القيامُ بآدابِ العُبوديَّة، وأَزْهارُها الأخلاقُ الحَسَنَةُ الكريمةُ، وثِمارها حلاوةُ الطاعةِ ولذَّةُ العبادةِ. وكما أَنَّ الأَزهارَ تَخْتَلِفُ أَلْونُها وروائحُها، وكما أنَّ الثمارَ مختلفةُ الطَّعمِ متعدِّةُ المَذَاقِ. كَذلكَ ثمارُ الطاعاتِ ومَعاني الأشياءِ التي يَجِدُها المؤمِنُ في قلبِهِ.
قولُهُ تَعَالَى: {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللهُ مَثَلًا} الهمزةُ: للاسْتِفْهامِ التَقْريريِّ. و "لمْ" حرفُ نفيٍ وجَزْمٍ وقلبٍ، و "تَرَ" مَجْزومٌ بحرفِ الجزمِ، وعلامةُ جزمِهِ حذفُ حرفِ العلةِ منْ آخرِهِ، وفاعلُهُ ضَميرٌ مستترٌ فيهِ وُجوبًا تقديرُهُ (أنتِ) يَعودُ عَلى سيِّدِنا مُحَمَّدٍ ـ عليهِ الصلاةُ والسلامُ، أو على كلِّ مَنْ يَصْلُحُ للخِطابِ، والجُمْلَةُ مُسْتَأْنَفَةٌ لا مَحَلَّ لها مِنَ الإعرابِ. و "كَيْفَ" اسْمُ اسْتِفْهامٍ تَعَجُبِيٍّ في مَحَلِّ النَّصْبِ عَلَى الحالِ مِنَ المَفْعولِ الثاني الذي هوَ "مَثَلًا". و "ضَرَبَ" فعلٌ ماضٍ بِمَعْنَى (صَيَّرَ) فيَتَعَدَّى إِلى مَفْعُولَيْنِ، مَبْنِيٌّ عَلَى الفَتْحِ، ولَفْظُ الجَلالَةِ "اللهُ" فاعِلُهُ مرفوعٌ بهِ، و "مَثَلًا" مفعولُهُ الثاني. ويجوزُ أَنَّهُ مُتَعَدٍ لواحِدٍ، فيكونُ بِمعنى: اعْتَمَدَ مَثَلًا، ووضَعَهُ، و عَلَيْهِ فَـ "كلمةً" مَنْصوبَةٌ بِمُضْمَرٍ، أَيْ: جَعَلَ كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ، وهوَ تَفْسيرٌ لِقَوْلِهِ "ضَرَبَ الله مَثَلًا" كَقَوْلِكَ: شَرَّفَ الأَميرُ زَيْدًا كساهُ حُلَّة، وحَمَلَهُ عَلَى فَرَسٍ. أَوْ تكونُ بَدَلًا مِنْ "مثلًا".
قولُهُ: {كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ} كَلِمَةً: مَفْعُولُ "ضَرَبَ" الأَوَّلُ، وأُخِّرَتْ عَنِ المَفْعُولِ الثاني، وهوَ "مَثَلًا"، لِئَلَّا تَبْعُدَ عَنْ صِفَتِها. و "طَيِّبَةً" صِفَةٌ لِـ "كَلِمَةً"، والتَقْديرُ: أَلَمْ تَرَ كَيْفَ صَيَّرَ كَلِمَةً طَيِّبَةً مَثَلًا حالَةَ كَوْنِ ذَلِكَ المَثَلِ كَيْفَ؛ أَيْ: حالةَ كَوْنِهِ مَسْؤولًا عَنْ حالِهِ مِنْ غَرَابَتِهِ وإِحْكامِهِ وتَوْضيحِهِ، وجُمْلَةُ "ضَرَبَ" في مَحَلِّ النَّصْبِ سادَّةً مَسَدَّ مَفْعُولَيْ "رَأَى". و "كَشَجَرَةٍ" حرفُ جَرٍّ متعلِّقٌ بِخَبَرٍ لِمُبْتَدَأٍ مَحذوفٍ تَقديرُهُ: هيَ؛ أَيْ: الكَلِمَةُ الطَّيِّبَةُ كائنَةٌ كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ، و "شَجَرَةٍ" مجرورٌ بحرفِ الجرِّ، والجُمْلَةُ الاسْمِيَّةُ جُمْلَةُ مُفَسِّرَةٌ للمَثَلِ، لا مَحَلَّ لَها مِنَ الإعْرابِ. و "طَيِّبَةٍ" صفةٌ مجرورةٌ لـ "شَجَرَةٍ".
قولُهُ: {أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ} أَصْلُهَا: مبتدأٌ مرفوعٌ مُضافٌ، و "ها" ضميرٌ متَّصلٌ بِهِ مبنيٌّ على السكونِ في محلِّ الجرِّ بالإضافة إليهِ. و "ثَابِتٌ" خبَرُهُ مَرفوعٌ، والجملةُ في مَحَلِّ الجَرِّ صِفَةٌ ثانِيَةٌ لِـ "شجرةٍ". و "وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ" الواوُ: للعطفِ، و "فرعُها" مَبْتَدَأٌ مرفوعٌ، مُضافٌ، و "ها" ضميرٌ متَّصلٌ بِهِ مبنيٌّ على السكونِ في محلِّ الجرِّ بالإضافة إليهِ. و "في" حرفُ جَرٍّ متعلِّقٌ بِخَبَرِ والمبتدَأِ، و "السماءِ" مجرورٌ بحرفِ الجرِّ، والجُمْلَة صِفَةٌ لِـ "شَجَرةٍ"، عَطْفًا عَلى الجملةِ قَبْلَهَا.
قرأَ الجمهورُ: {كَلِمَةٍ} وقُرِئ: "كَلِمَةٌ" بالرَّفْعِ عَلَى أنَّها خبَرُ مُبْتَدَأٍ مُضْمَرٍ، تَقْديرُهُ: هوَ، أَيْ: المَثَلُ كَلِمَةٌ طَيِّبَةٌ، وعَليْهِ يكونُ الجارُّ في "كَشَجَرَةٍ" متعلِّقًا بِنَعْتٍ لِـ "كلمةٌ". أَوْ أَنَّهُ رَفْعٌ بالابْتِداءَ، فيتَعلَّقُ الجارُّ في "كَشَجَرَةٍ" بالخَبَرِ.
قرأَ العامَّةُ: {أَصْلُها ثابِتٌ}، وقرَأَ أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ ـ رضي اللهُ عنه: "ثابتٍ أَصْلُها". و معنى قراءةِ الجمَاعَةِ أَقْوى لأَنَّ المُخْبَرَ عَنْهُ فيها إِنَّما هوَ أَصْلُ الشجرةِ؛ بينمَا أُجْرِيَتِ الصِّفَةُ عَلى الشَجَرَةِ في قِراءَةَ أَنَسٍ والثباتُ بالأصْلِ أَلْيَقٌ.