وَقَالَ الشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ الْأَمْرُ إِنَّ اللهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلَا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ مَا أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ وَمَا أَنْتُمْ بِمُصْرِخِيَّ إِنِّي كَفَرْتُ بِمَا أَشْرَكْتُمُونِ مِنْ قَبْلُ إِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ
(22)
قولُهُ تعالى شَأْنُهُ: {وَقَالَ الشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ الْأَمْرُ} أي أُحكم وفُرغ منه وهو الحسابُ ودخل أهلُ الجنةِ الجنةَ وأهلُ النار النارَ وقف إبليسُ فيهم خطيبًا في مَحْفِلِ الأَشْقياءِ مِنَ الثَّقَلَيْنِ، لِيَزِيدَهُمْ حُزْنًا إِلَى حُزْنِهِمْ، وَغَبْنًا إِلَى غَبْنِهِمْ، وَحَسْرَةً إِلَى حَسْرَتِهِمْ. وقَالَ الْحَسَنُ البَصْريُّ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: يَقِفُ إِبْلِيسُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ خَطِيبًا فِي جَهَنَّمَ عَلَى مِنْبَرٍ مِنْ نَارٍ يَسْمَعُهُ الْخَلَائِقُ جَمِيعًا. وذَلِكَ لَمَّا اعْتَذَرَ إِلَيْهِمْ الكُبَرَاء للضُعَفاءِ بِأَنَّهم مَحْرومونَ مِنَ الْهُدَى، وعَلِمُوا أَنَّ سَبَبَ إِضْلَالِهِمْ هُوَ الشَّيْطَانُ لِأَنَّ نَفْيَ الِاهْتِدَاءِ يُرَادِفُهُ الضَّلَالُ، أَوْ لِأَنَّ الْمُسْتَكْبِرِينَ انْتَقَلُوا مِنَ الِاعْتِذَارِ لِلضُّعَفَاءِ إِلَى مَلَامَةِ الشَّيْطَانِ الْمُوَسْوِسِ لَهُمْ مَا أَوْجَبَ ضَلَالَهَمْ، وَكُلُّ ذَلِكَ بِعِلْمٍ يَقَعُ فِي نُفُوسِهِمْ كَالْوِجْدَانِ، نَطَقَ مَصْدَرِ الضَّلَالَةِ وَهُوَ الشَّيْطَانُ. عَلَى أَنَّ قَوْلَهُ: فَلا تَلُومُونِي يَظْهَرُ مِنْهُ أَنَّهُم تَوَجَّهوا إِلَيْهِ بصَرِيحِ المَلامِ، وَيُحْتَمَلُ أَنَّهُ تَوَقَّعَهُ فَدَفَعَهُ قَبْلَ وُقُوعِهِ، فَجُمْلَةُ "وَقالَ الشَّيْطانُ" عَطْفٌ عَلَى جُمْلَةِ فَقالَ الضُّعَفاءُ. و "الأَمْرُ" إِذْنُ اللهِ وَحُكْمُهُ، وَمَعْنَى "قُضِيَ الْأَمْرُ" تُمِّمَ الشَّأْنُ. وَإِتْمَامُهُ: ظُهُورُهُ، وَهُوَ أَمْرُهُ تَعَالَى بِتَمْيِيزِ أَهْلِ الضَّلَالَةِ وَأَهْلِ الْهِدَايَةِ، كما قَالَ تَعَالَى في سُورَةِ (يَس): {وَامْتازُوا الْيَوْمَ أَيُّهَا الْمُجْرِمُونَ} الآية: 59، وَذَلِكَ بِتَوْجِيهِ كُلِّ فَرِيقٍ إِلَى مَقَرِّهِ الَّذِي اسْتَحَقَّهُ بِعَمَلِهِ، فَيَتَصَدَّى الشَّيْطَانُ لِلتَّخْفِيفِ عَنِ الْمَلَامِ عَنْ نَفْسِهِ بِتَشْرِيكِ الَّذِينَ أَضَلَّهُمْ مَعَهُ فِي تَبِعَةِ ضَلَالِهِمْ، وَقَدْ أَنْطَقَهُ اللهُ بِذَلِكَ لِإِعْلَانِ الْحَقِّ، وَشَهَادَةٍ عَلَيْهِمْ بِأَنَّ لَهُمْ كَسْبًا فِي اخْتِيَارِ الانْصِياعِ إِلَى دَعْوَةِ الضَّلَالِ دُونَ دَعْوَةِ الْحَقِّ.
قولُهُ: {إِنَّ اللهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ} الْحَقُّ: هُنَا بِمَعْنَى الصِّدْقِ وَالْوَفَاءِ بِالْمَوْعُودِ بِهِ. وَضِدُّهُ: الْإِخْلَافُ، وَلِذَلِكَ قَالَ تعالى هنا: "وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ" الآية، أَيْ كَذَبْتُ مَوْعِدِي. وَإِضَافَةُ وَعْدَ إِلَى الْحَقِّ مِنْ إِضَافَةِ الْمَوْصُوفِ إِلَى الصِّفَةِ مُبَالَغَةً فِي الِاتِّصَافِ، أَيِ الْوَعْدُ الْحَقُّ الَّذِي لَا نَقْضَ لَهُ، وَشَمَلَ وَعَدُ الْحَقِّ جَمِيعَ مَا وَعَدَهُمُ اللهُ بِالْقُرْآنِ عَلَى لِسَان رَسُولِهِ ـ عَلَيْهِ الصَّلَاة والسَّلامُ. يَعْنِي الْبَعْثَ وَالْجَنَّةَ وَالنَّارَ وَثَوَابَ الْمُطِيعِ وَعِقَابَ الْعَاصِي وَشَمَلَ الْخُلْفُ جَمِيعَ مَا كَانَ يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ عَلَى لِسَانِ أَوْلِيَائِهِ وَمَا يَعِدُهُمْ إِلَّا غُرُورًا.
أَخْرَجَ ابْنُ الْمُبَارَكِ فِي الزُّهْدِ: (1/111، رقم: 374)، وَابْنُ جَريرٍ في تفسيره: (13/201)، وَابْنُ أَبي حَاتِمٍ، واللفظُ لَهُ، وَالطَّبَرَانِيُّ في معجمهِ الكبير: (17/320، رقم: 887)، وَابْنُ مِرْدُوَيْهِ، وَابْنُ عَسَاكِر: (7/453)، عَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((إِذَا جَمَعَ اللهُ الْأَوَّلِينَ وَالْآخَرِينَ، فَقَضَى بَيْنَهُمْ، فَفَرَغَ مِنَ الْقَضَاءِ، قَالَ الْمُؤْمِنُونَ: قَدْ قَضَى بَيْنَنَا رَبُّنَا، فَمَنْ يَشْفَعُ لَنَا؟ فَيَقُولُونَ: انْطَلِقُوا بِنَا إِلَى آدَمَ ـ وَذَكَرَ نُوحًا، وَإِبْرَاهِيمَ، وَمُوسَى، وَعِيسَى، فَيَقُولُ عِيسَى: أَدُلُّكُمْ عَلَى النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ. فَيَأْتُونِي، فَيَأْذَنُ اللهُ لِي أَنْ أَقُومَ إِلَيْهِ فَيَثُورُ مِنْ مَجْلِسِي مِنْ أَطْيَبِ رِيحٍ شَمَّهَا أَحَدٌ قَطُّ، حَتَّى آتِيَ رَبِّي فَيُشَفِّعَنِي، وَيَجْعَلَ لِي نُورًا مِنْ شَعَرِ رَأْسِي إِلَى ظُفْرِ قَدَمِي، ثُمَّ يَقُولُ الْكَافِرُونَ هَذَا: قَدْ وَجَدَ الْمُؤْمِنُونَ مَنْ يَشْفَعُ لَهُمْ، فَمَنْ يَشْفَعُ لَنَا؟ مَا هُوَ إِلَّا إِبْلِيسُ هُوَ الَّذِي أَضَلَّنَا، فَيَأْتُونَ إِبْلِيسَ فَيَقُولُونَ: قَدْ وَجَدَ الْمُؤْمِنُونَ مَنْ يَشْفَعُ لَهُمْ، فَقُمْ أَنْتَ فَاشْفَعْ لَنَا، فَإِنَّكَ أَنْتَ أَضْلَلْتَنَا. فَيَقُومُ فَيَثُورُ مِنْ مَجْلِسِهِ مِنْ أَنْتَنِ رِيحٍ شَمَّهَا أَحَدٌ قَطُّ، ثُمَّ يَعْظُمُ نَحِيبُهُمْ: "وَقَالَ الشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ الأمْرُ إِنَّ اللهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَمَا كَانَ لِي عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ". وأَخْرَجَهُ أَيْضًا: البُخَارِيُّ في (خَلْقِ أَفعالِ العِبادِ: (1/117)، والدارِمِيُّ في سُنَنِهِ: (2/421، رقم: 2804)، ونعيمُ بْنُ حَمَّاد في زوائدِهِ عَلَى الزُّهْدِ: (1/111، رقم: 374).
قولُهُ: {وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي} أَيْ مِنْ حُجَّةٍ وَبَيَانٍ، فقد قالَ لهُمُ الشَيْطانُ: مَا قدَّمْتُ لَكُمْ منْ حُجَّةٍ عَلَى مَا وَعَدْتُكُمْ بهِ ولا برهانٍ سُقْتُ لكم برهانًا يؤكِّدُ حقيَّةَ ما زَيَّنْتُهُ لَكُمْ فِي الدُّنْيَا ِمِنْ معصيَةِ اللهِ تعالى، وكفرانِ نِعَمِهِ، والكفرِ بِهِ وتكذيبِ أَنبيائهِ ـ صلواتُ اللهِ عليهم وسلامُهُ، ومُنَاصَبَةِ دِينِهِ والمَؤْمِنينَ بهِ العِداءَ "إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي"، أَيْ لقد أَغْوَيْتُكُمْ فَاتَّبَعْتُمُونِي بمحضِ إرادتكم ورِضاكمْ. وَما كانَ لي عليكمْ مِن سُّلْطَانِ القُوَّةِ والقهرِ ما أَحْمِلُكمْ بِهِ عَلَى طاعَتي واتَّباعِي، والسُّلْطانُ: اسْمُ مَصْدَرٍ مِنْ تَسَلَّطَ عَلَيْهِ ـ أَو عليهم، فهو سُلْطانٌ، أَيْ غَلَبَهُ وَقَهَرَهُ، فما كانَ لي أَنْ أُجْبِرَكُمْ عَلَى اتِّبَاعِي فِيمَا أَمَرْتُكُمْ. وَقِيلَ: "وَما كانَ لِي عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطانٍ" أَيْ: عَلَى قُلُوبِكُمْ التي هي مَوْضِعُ إِيمانِكُمْ. فَقد أَخْرَجَ ابْنُ جَريرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبي حَاتِمٍ، عَنِ الْحَسَنِ البَصْريِّ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، أَنَّهُ قَالَ: إِذا كَانَ يَوْم الْقِيَامَةِ قَامَ إِبْلِيسُ خَطِيبًا عَلى مِنْبَرٍ مِنْ نَارٍ فَقَالَ: "إِنَّ اللهَ وَعَدَكُم وَعْدَ الْحَقِّ" إِلَى قَوْلِهِ: "وَمَا أَنْتُم بِمُصْرِخِي" قَالَ: بِنَاصِرِي، "إِنِّي كَفَرْتُ بِمَا أَشْرَكْتُمونِ مِنْ قَبْلُ" قَالَ: بِطَاعَتِكمْ إيَّايَ فِي الدُّنْيَا.
وَأَخْرَجَ ابْنُ جَريرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، عَنِ الإمامِ الشَّعْبِيِّ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، فِي هَذِهِ الْآيَةِ قَالَ: خَطِيبانِ يَقومانِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ: إِبْلِيسُ، وَعِيسَى بْنُ مَرْيَمَ ـ عليْهِ السَّلامُ، فأَمَّا إِبْلِيسُ فَيَقومَ فِي حِزْبِهِ فَيَقُولُ هَذَا القَوْلَ، وَأَمَا عِيسَى عَلَيْهِ الصلاةُ والسَّلَامُ، فَيَقُولُ في الآيَة: 117، مِنْ سُورَةِ الْمَائِدَة: {مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلَّا مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدوا اللهَ رَبِّي ورَبَّكم، وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَا دُمْتُ فِيهِمْ، فَلَمَّا تَوَفَّيْتَني كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِم وَأَنْتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ}.
وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبي شَيْبَةَ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، عَنِ عبدِ اللهِ بْنِ مَسْعُودٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، أَنَّهُ قَالَ: إِنَّ مِنَ النَّاسِ مَنْ يُذَلِّلُهُ الشَّيْطَانُ كَمَا يُذَلِّلُ أَحَدُكُمْ قَعُودَهُ مِنَ الإِبِلِ.
وَالِاسْتِثْنَاءُ هنا فِي "إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ" اسْتِثْنَاءٌ مُنْقَطِعٌ لِأَنَّ مَا بَعْدَ حَرْفِ الِاسْتِثْنَاءِ لَيْسَ مِنْ جِنْسِ مَا قَبْلَهُ. فَالْمَعْنَى: لَكِنِّي دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي.
قولُهُ: {فَلَا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ} تَفْريعٌ عَلَى قولِهِ: "وَما كانَ لِي عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطانٍ"، وَالْمَقْصُودُ: لُومُوا أَنْفُسَكُمْ إِذْ قَبِلْتُمْ إِشَارَتِي وَدَعْوَتِي. وفيهِ إِبْطَالٌ لِإِفْرَادِهِم إِيَّاهُ بِاللَّوْمِ، أَوْ لِابْتِدَاءِ تَوْجِيهِ الْمُلَامِ إِلَيْهِ، فِي حِينِ أَنَّهُمْ أَجْدَرُ منهُ بِاللَّوْمِ أَوْ بِابْتِدَاءِ تَوْجِيهِهِ. وَأَمَّا وَقْعُ كَلَامِ الشَّيْطَانِ مِنْ نُفُوسِ الَّذِينَ خَاطَبَهُمْ فَهُوَ مُوقِعُ الْحَسْرَةِ مِنْ نُفُوسِهِمْ زِيَادَةً فِي عَذَابِ النَّفْسِ.
قولُه: {مَا أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ وَمَا أَنْتُمْ بِمُصْرِخِيَّ} بَيَانٌ لِجُمْلَةِ النَّهْيِ عَن لومه لِأَنَّ لَوْمَهُ فِيهِ تَعْرِيضٌ بِأَنَّهُمْ يَتَطَلَّبُونَ مِنْهُ حِيلَةً لِنَجَاتِهِمْ، فَنَفَى ذَلِكَ عَنْ نَفْسِهِ بَعْدَ أَنْ نَهَاهُمْ عَنْ أَنْ يَلُومُوهُ.
وأَصْرَخَهُ، إِذَا أَجَابَ صُرَاخَهُ، كَمَا قَالُوا: أَعْتَبَهُ، إِذَا قَبِلَ اسْتِعْتَابَهُ. وَأَمَّا عَطْفُ وَما أَنْتُمْ بِمُصْرِخِيَّ فَالْمَقْصُودُ مِنْهُ اسْتِقْصَاءُ عَدَمِ غَنَاءِ أَحَدِهِمَا عَنِ الْآخَرِ. والمُصْرِخُ: المُغِيْث يُقال: اسْتَصْرَخْتُه فَأَصْرَخَني، أي: أعانني، وكأنَّ همزتَه للسَّلْب، أي: أزال صُراخي. والصَّارخ هو المستغيثُ. وَالْإِصْرَاخُ: الْإِغَاثَةُ، اشْتُقَّ مِنَ الصُّرَاخِ لِأَنَّ الْمُسْتَغِيثَ يَصْرُخُ بِأَعْلَى صَوْتِهِ.
فَقد أَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ الصنعانيُّ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، عَن قَتَادَةَ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، فِي قَوْلِهِ تعالى: "مَا أَنَا بمُصْرِخِكمْ" قَالَ: مَا أَنَا بِمُغيثِكمْ.
وأَخْرَجَ ابْنُ جَريرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبي حَاتِمٍ عَنْ مُجَاهِدٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، مثلَهُ. ومنْهُ قولُ الشَّاعِرِ أُمَيَّةَ بْنِ أَبِي الصَّلْتِ:
وَلَا تَجْزَعُوا إِنِّي لَكُمْ غَيْرُ مُصْرِخٍ ...... وَلَيْسَ لَكُمْ عِنْدِي غَنَاءٌ وَلَا نَصْرُ
ويُقال: صَرَخَ يَصْرُخُ صَرْخاً وصُراخاً وصَرْخَة. كما قَالَ الشاعِرُ سَلَامَةُ بْنُ جَنْدَلٍ:
كُنَّا إِذَا مَا أَتَانَا صَارِخٌ فَزِعٌ ............. وَكَانَ الصُّرَاخُ لَهُ قَرْعُ الظَّنَابِيبِ
يُريدُ: وَكانَ بَدَلَ الإِصْراخِ، فحَذَفَ المُضافَ، وأَقامَ مَصْدَرَ الثلاثيِّ مُقامَ مَصْدَرِ الرُّباعِيِّ، نحوَ قولِهِ تَعَالى في الآية: 17، مِنْ سُورةِ نوحٍ ـ عَلَيْهِ السَّلامُ: {واللهُ أَنبَتَكُمْ مِّنَ الأَرْضِ نَبَاتًا}. والصَّريْخُ أَيضًا: هُمُ القَوْمُ المُسْتَصْرِخُونَ، قالَ الصحابيُّ الجَليلُ الشَّاعِرُ حَمِيدُ بْنُ ثَوْرٍ الهِلالِيُّ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ:
قومٌ إذا سَمِعُوا الصَّريخَ رأيتَهُمْ ............ ما بين مُلْجِمِ مُهْرِهِ أو سافِعِ
والصَّريخُ أَيْضًا: المُغِيثونَ فَهُوَ مِنَ الأَضْدَادِ، وهوَ مُحْتَمِلٌ أَنْ يَكونَ وَصْفًا عَلى وَزْنِ (فَعِيْل) ك (خَليط)، وأَنْ يَكونَ مَصْدَرًا في الأَصْلِ. وَقالَ تعالى في سورةِ (يس): {فَلاَ صَرِيخَ لَهُمْ} الآية: 43، فهَذَا يُحْتَمَلُ أَنْ يَكونَ مَصْدَرًا، ويُحْتَمَلُ أَنْ يَكونَ (فَعيلًا) بِمَعْنَى (مُفْعِل)، أَيْ: فَلا مُصْرِخَ لَهُمْ، أَيْ: نَاصِر، وتَصَرَّخَ: تَكَلَّفَ الصُّراخَ.
وَأَصْلُهُ بِمُصْرِخِيِيَ، بِيَاءَيْنِ، أُولَاهُمَا يَاءُ جَمْعِ الْمُذكر الْمَجْرُور، وثانِيَتُهُما يَاءُ الْمُتَكَلِّمِ، وَحَقُّهَا السُّكُونُ فَلَمَّا الْتَقَتِ الْيَاءَانِ سَاكِنَتَيْنِ وَقَعَ التَّخَلُّصُ مِنَ الْتِقَاءِ السَّاكِنَيْنِ بِالْفَتْحَةِ لِخِفَّةِ الْفَتْحَةِ.
قولُه: {إِنِّي كَفَرْتُ بِمَا أَشْرَكْتُمُونِ مِنْ قَبْلُ} جُمْلَةُ إِنِّي كَفَرْتُ بِما أَشْرَكْتُمُونِ مِنْ قَبْلُ اسْتِئْنَافُ تَنَصُّلٍ آخَرَ مِنْ تَبِعَاتِ عِبَادَتِهِمْ إِيَّاهُ قُصِدَ مِنْهُ دَفْعُ زِيَادَةِ الْعَذَابِ عَنْهُ بِإِظْهَارِ الْخُضُوعِ للهِ تَعَالَى. وَأَرَادَ بِقَوْلِهِ: كَفَرْتُ شدَّةَ التَبَرِّي مِنْ إِشْرَاكِهِمْ إِيَّاهُ فِي الْعِبَادَةِ فَإِنْ أَرَادَ مِنْ مُضِيِّ كَفَرْتُ مُضِيَّ الْأَزْمِنَةِ كُلِّهَا، أَيْ كُنْتُ غَيْرَ رَاضٍ بِإِشْرَاكِكُمْ إِيَّايَ فَهُوَ كَذِبٌ مِنْهُ أَظْهَرَ بِهِ التَّذَلُّلَ وَإِنْ كَانَ مُرَادُهُ مِنَ الْمُضِيِّ إِنْشَاءَ عَدَمِ الرِّضَى بِإِشْرَاكِهِمْ إِيَّاهُ فَهُوَ نَدَامَةٌ بِمَنْزِلَةِ التَّوْبَةِ حَيْثُ لَا يُقْبَلُ مَتَابٌ.
وَالْإِشْرَاكُ الَّذِي كَفَرَ بِهِ إِشْرَاكُهُمْ إِيَّاهُ فِي الْعِبَادَةِ بِأَنْ عَبَدُوهُ مَعَ اللهِ لِأَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ مَنْ يَعْبُدُونَ الشَّيَاطِينَ وَالْجِنَّ، فَهَؤُلَاءِ يَعْبُدُونَ جِنْسَ الشَّيْطَانِ مُبَاشَرَةً، وَمِنْهُمْ مَنْ يَعْبُدُونَ الْأَصْنَامَ فَهُمْ يَعْبُدُونَ الشَّيَاطِينَ بِوَاسِطَةِ عِبَادَةِ آلِهَتِهِ.
وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبي حَاتِمٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنهُما، فِي قَوْلِهِ تعالى: "مَا أَنا بمصرخكم وَمَا أَنْتُم بمصرخيّ" قَالَ: مَا أَنَا بِنَافِعِكمْ وَمَا أَنْتُم بِنَافِعِيَّ "إِنِّي كَفَرْتُ بِمَا أَشْرَكْتُمونِ مِنْ قَبْلُ" قَالَ: شِرْكَ عِبَادَةٍ.
وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنِ حُمَيْدٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ عَن قَتَادَةَ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، فِي قَوْلِهِ: "إِنِّي كَفَرْتُ بِمَا أَشْرَكْتُمونِ مِنْ قَبْلُ" يَقُولُ: عَصَيْتُ اللهُ فِيكُم.
وَأَخْرَجَ ابْنُ جَريرٍ عَن مُحَمَّدِ بْنِ كَعْبٍ الْقُرَظِيِّ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: "وَقَالَ الشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ الْأَمْرُ" قَالَ إِبْلِيس يَخْطُبُهمْ فَقَالَ: "إِنَّ اللهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدْتُكمْ فَأَخْلَفْتُكمْ" إِلَى قَوْلِهِ: "مَا أَنا بِمُصْرِخِكُمْ" يَقُولُ: بِمُغْنٍ عَنْهُم شَيْئًا، "وَمَا أَنْتُم بِمُصْرِخِيَّ إِنِّي كَفَرْتُ بِمَا أَشْرَكْتُمُونِ مِنْ قَبْلُ" قَالَ: فَلَمَّا سَمِعُوا مَقَالَتَهُ مَقَتُوا أَنْفُسَهم فَنُودُوا {لَمَقْتُ اللهِ أَكْبَرُ مِنْ مَقْتِكم أَنْفُسَكُم} الْآيَة: 10، منْ سُورَةِ غَافِر.
قولُهُ: {إِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} مِنَ الْكَلَامِ الْمَحْكِيِّ عَنِ الشَّيْطَانِ. وَهِيَ فِي مَوْقِعِ التَّعْلِيلِ لِمَا تَقَدَّمَ مِنْ قَوْلِهِ: مَا أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ، أَيْ لِأَنَّهُ لَا يدْفع عَنْكُم الْعَذَابَ دَافَعٌ فَهُوَ وَاقع بكم.
قولُهُ تَعَالَى: {وَقَالَ الشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ الْأَمْرُ} الواوُ: للاسْتِئنافِ، و "قالَ" فِعْلٌ ماضٍ مبنيٌّ على الفتحِ، و "الشيطانُ" فاعِلُهُ مرفوعٌ بِهِ، والجُمْلَةُ مُسْتَأْنَفَةٌ لا محلَّ لها مِنَ الإعرابِ. و "لَمَّا" ظرفيَّةٌ بِمَعْنَى (حين) في مَحَلِّ النَّصْبِ عَلَى الظَرْفِيَّةِ الزمانيَّةِ، مُتَعَلِّقَةٌ بِمَضْمُونِ الجَوابِ. و "قُضِيَ" فعلٌ ماضٍ مبنيٌّ للمجهولِ مبنيٌّ على الفتحِ، و "الْأَمْرُ" نائبٌ عنْ فاعِلِهِ، والجُمْلَةُ في مَحَلِّ الجَرِّ مُضافٌ إِلَيْهِ.
قولُهُ: {إِنَّ اللهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ} إِنَّ: حرفٌ نَاصِبٌ ناسِخٌ مُشَبَّهٌ بالفعلِ للتوكيدِ، ولفظُ الجلالةِ "اللهَ" اسْمُهُ منصوبٌ بِهِ. و "وَعَدَكُمْ" فِعْلٌ ماضٍ مبنيٌّ على الفتْحِ وكافُ الخِطابِ ضميرٌ مُتَّصِلٌ بِهِ مبنيٌّ عَلَى الضَّمِّ في مَحَلِّ النَّصْبِ مَفْعُولٌ بِهِ أَوَّل، وفاعِلُهُ ضَميرٌ مُسْتَتِرٌ فيهِ جوازًا تَقْديرُهُ (هو) يَعُودُ عَلَى "اللهَ" تَعَالى. و "وَعْدَ" مَفْعُولٌ بِهِ مَنْصُوبٌ ثانٍ، وهو مُضافٌ و "الْحَقِّ" مجرورٌ بالإضافةِ إليهِ، وَيَجوزُ أَنْ يَكونَ "وَعْدَ الحَقِّ" مِنْ إِضافَةِ المَوْصُوفِ لِصِفَتِهِ، أَيْ: الوَعْدَ الحَقَّ، وأَنْ يُرادَ بالحَقِّ صِفَةُ البَارِي تَعَالى، أَيْ: وَعَدَكمُ اللهُ وَعْدَهُ، وأَنْ يُرادَ بالحَقِّ البَعْثُ والجَزَاءُ عَلَى الإِجْمالِ، فَتَكونُ إِضَافَةً صَريحَةً، والجُمْلَةُ الفِعْلِيَّةُ في مَحَلِّ الرَّفْعِ خَبَرُ "إِنَّ"، وجُمْلَةُ "إِنَّ" مِنِ اسْمِها وخَبَرِها في مَحَلِّ النَّصْبَ مَقولُ القَوْلِ لِـ "قالَ".
قولُهُ: {وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ} الوَاوُ: للعَطْفِ، و "وَعَدْتُكُمْ" فِعْلٌ مُضارعٌ مَبنِيٌّ على السُّكونِ لاتِّصالِهِ بضميرِ رفعٍ مُتَحَرِّكٍ هوَ تاءُ الفاعِلِ، وتاءُ الفاعِلِ ضميرٌ مُتَّصلٌ بِهِ مبنيٌّ على الضَمِّ في مَحلِّ الرفْعِ فاعِلٌ، وكافُ الخِطابِ ضميرٌ متَّصلٌ بِهِ مبنيٌّ على الضَمِّ في مَحَلِّ النَّصْبِ مَفْعولٌ بِهِ، والميمُ علامةُ جمعِ المُذكَّرِ، والجُمْلَةُ في مَحَلِّ النَّصْبِ عَطْفًا عَلَى جُمْلةِ "إِنَّ" عَلَى كَوْنِها مَقولَ القولِ لـ "قالَ". و "فَأَخْلَفْتُكُمْ" الفاءُ: للعَطْفِ. و "أَخْلَفْتُكُمْ" مِثْلُ "وَعَدْتُكم"، مَعْطوفَةٌ عَلَيها.
قولُهُ: {وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ} الواوُ: عاطِفَةٌ. و "ما" نَافِيَةٌ. و "كَانَ" فِعْلٌ ماضٍ ناقِصٌ مَبْنِيٌّ عَلَى الفَتْحِ. و "لِي" اللامُ: حَرْفُ جَرٍّ مُتَعَلِّقٌ بِخَبَرِ "كَانَ" المُقَدَّمِ، وياءُ المُتَكَلِّمِ ضَميرٌ مُتَّصلٌ بِهِ مبنيٌّ على السكونِ في محلِّ الجرِّ بحرفِ الجرِّ. و "عَلَيْكُمْ" عَلَى: حَرْفُ جَرٍّ مُتَعَلِّقٌ بِـ "سُلْطَانٍ"؛ لأَنَّهُ بِمَعْنَى (تَسَلَّطَ)، وكافُ الخِطابِ ضميرٌ متَّصلٌ بِهِ مبنيٌّ على الضَمِّ في محلِّ الجرِّ بحرفِ الجَرِّ، والميمُ علامةُ جَمْعِ المُذكَّرِ. و "مِنْ" حرفُ جَرٍّ زائدٍ، و "سُلْطَانٍ" مجرورٌ بحرفِ الجرِّ الزائدِ لَفْظًا، مرفوعٌ محلًا اسْمُ "كَانَ" مُؤَخَّرٌ، والتَقْديرُ: ومَا كانَ سُلْطانٌ عَلَيْكُمْ كائنًا لِي، والجُمْلَةُ في مَحَلِّ النَّصْبِ بِـ "قالَ عَطْفًا عَلَى جُمْلَةِ "أَخْلَفْتُكم".
قولُهُ: {إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي} إِلَّا: أَدَاةُ اسْتِثْناءٍ مُنْقَطِعٍ. و "أَنْ" حَرْفُ نَصْبٍ مَصْدَرِيٌّ. و "دَعَوْتُكُمْ" فِعْلٌ ماضٍ مبنيٌّ على السكونِ لاتِّصالِهِ بضميرِ رفعٍ متحرِّكٌ في مَحَلِّ النَّصْبِ بِـ "أَنْ" المَصْدَرِيَّةِ، وتاءُ الفاعِلِ ضميرٌ متَّصلٌ بِهِ مبنيٌّ على الضمِّ في محلِّ رفعِ فاعِلِهِ، وكافُ الخطابِ ضميرٌ متَّصلٌ بِهِ مبنيٌّ على الضمِّ في محلِّ النَّصْبِ مفعولٌ بِهِ، والميمُ علامةُ جمعِ المُذكَّرِ. والجُمْلَةُ الفِعْلِيَّةُ في تَأْويلِ مَصْدَرٍ مَنْصوبٍ عَلَى الاسْتِثْناءِ، والتقديرُ: وما كانَ لي عَلَيْكمْ مِنْ سُلْطانٍ إِلَّا دَعْوَتي إِيَّاكم، فالاسْتِثْناءُ مُنْقَطِعٌ كما تقدَّمَ؛ لأَنَّ دَعْوَتَهُ إِيَّاهُمْ لَيْسَتْ مِنْ جِنْسِ السُّلْطانِ حَتَّى تُسْتَثْنَى مِنْهُ؛ أَيْ: لَكنْ دَعَوْتُكم فاسْتَجَبْتم لِي. ويَجوزُ: أَنْ يكونَ مُتَّصِلًا، لأَنَّ القُدْرَةَ عَلى حَمْلِ الإنسانِ عَلَى الشَّرِّ تَارَةً تَكونُ بالقَهْرِ، وتارَةً تَكُونُ بِقُوَّةِ الداعِيَةِ في قَلْبِهِ، وَذَلِكَ بالوَسْوَسَةِ إِلَيْهِ فهُوَ نَوْعٌ مِنَ التَسَلُّطِ. و "فَاسْتَجَبْتُمْ" الفاءُ: عاطِفَةٌ. و "اسْتَجَبْتُمْ" فِعْلٌ ماضٍ مَبْنِيٌّ عَلَى السُّكونِ لاتِّصالِهِ بِضَميرِ رَفْعٍ مُتَحَرِّكٌ هوَ تاءُ الفاعِلِ، وتاءُ الفَاعِلِ ضَميرٌ مُتَّصِلٌ بِهِ مَبْنِيٌّ عَلَى الضَّمِّ فِي مَحَلِّ رَفْعِ فاعِلِهِ، والميمُ علامةُ جمعِ المُذكَّرِ، و جملةُ "اسْتَجَبْتُمْ" مَعْطوفةٌ عَلَى جملةِ "دَعَوْتُكُمْ" على كونِها في منْصوبَةً على الاستِثْناءِ. و "لِي" اللامُ: حَرْفُ جَرٍّ مُتَعَلِّقٌ بِـ "اسْتَجَبْتُمْ"، وياءُ المُتَكَلِّمِ ضَميرٌ مُتَّصلٌ بِهِ مَبْنِيٌّ عَلى السُّكونِ في مَحَلِّ الجَرِّ بِحَرْفِ الجَرِّ.
قولُهُ: {فَلَا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ} الفاءُ: حَرْفُ عَطْفٍ وتَفْريعٍ. و "لا" ناهِيَةٌ جَازِمَةٌ. و "تَلُومُونِي" فِعْلٌ مُضارِعٌ مجزومٌ بِـ "لا" النَّاهِيَةِ وعلامةُ جَزْمِهِ حذفُ النونِ مِنْ آخِرِهِ لأنَّهُ منَ الأفعالِ الخمسةِ، وواوُ الجَماعةِ ضميرٌ متَّصلٌ بِهِ مبنيٌّ على السُّكونِ في محلِّ الرفعِ فاعِلٌ. والنونُ للوِقايَةِ، وياءُ المتكلِّمِ ضميرٌ متَّصِلٌ بِهِ مبنيٌّ على السكونِ في محلِّ النَّصْبِ مفعولٌ بِهِ، والجُمْلَةُ في مَحَلِّ النَّصْبِ عَطْفًا عَلَى جُمْلَةِ "وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ"، على كونِها مَعَطوفةً عَلَى جُمْلَةِ "أَخْلَفْتُكم" المنصوبةِ بالقولِ.
قولُهُ: {مَا أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ وَمَا أَنْتُمْ بِمُصْرِخِيَّ} مَا: نافِيَةٌ تَمِيمِيَّةٌ، أَوْ حِجَازِيَّةٌ. و "أَنَا" ضميرٌ منفصِلٌ مبنيٌّ على السكونِ في محلِّ الرفعِ بالابْتِداءِ، أَوْ هوَ في محلِّ رفعِ اسْمِ "مَا" الحجازيَّةِ. و "بِمُصْرِخِكُمْ" الباءُ: حرفُ جرٍّ زائدٌ، و "مُصْرِخِكُمْ" مجرورٌ لفظًا بحرفِ الجرِّ الزائدِ، مرفوعٌ محلًا خبرًا للمُبْتَدَأِ، أَوْ مَنْصوبٌ مَحَلًّا خَبَرًا لـ "مَا" الحجازيَّةِ، وهو مُضافٌ، وكافُ الخطابِ ضميرٌ متَّصلٌ بِهِ مبنيٌّ على الضمِّ في مَحَلِّ الجرِّ بالإضافةِ إِلَيْهِ، والميمُ للجمعِ المُذكَّرِ، والجُمْلَةُ في مَحَلِّ النَّصْبِ بِـ "قال". و "وَمَا" الواوُ: عاطِفَةٌ. و "ما" كسابِقتِها. و "أَنْتُمْ" مثلُ "أَنا"، و "بِمُصْرِخِيَّ" الباءُ: كسابقتها. و "مُصْرِخِي" كسابِقِهِ، مجرورٌ لفظًا أيضًا بحرفِ الجرِّ وعلامةُ جرِّهِ الياءُ لأنَّهُ جمعُ المُذكَّرِ السالمُ وإِذا أُعربَ خَبَرًا لِـ "مَا" الحِجازِيَّةِ فهو مَنْصُوبٌ محلًا وعَلامَةُ نَصْبِهِ الياءُ أيضًا لأنَّهُ جمعُ المذكَّرِ السالمُ، وإذا أعربَ خبرًا للمبتدأِ "أَنْتُمْ" كانتْ علامةُ رفعِهِ مقدَّرةً على ما قبلِ ياءِ المتكلِّمِ مَنَعَ مِنْ ظهورِها اشْتِغَالُ المَحَلِّ بالياءِ المَجْلُوبَةِ لِحَرْفِ الجَرِّ الزائدِ، وياءُ المُتَكَلِّمِ ضميرٌ متَّصلٌ مبنيٌّ على السكون في مَحَلِّ الجَرِّ مُضافٌ إِلَيْهِ، لأَنَّ أَصْلَهُ: مَا أَنْتُمْ بِمُصْرِخِينَ لِي، جَمْعُ مُصْرِخٍ، كَ "مُسْلِمينَ" جَمْعُ مُسْلِمٍ، فَياءُ الجَمْعِ ساكِنَةٌ، وياءُ الإِضافَةِ ساكنةٌ كَذَلِكَ، فَحُذِفَتْ لامُ "لي" للتَّخْفيفِ، ونونُ الجمعِ المذكَّر السالمِ للإضافة، فالْتَقَى ساكِنَانِ هُمَا الياءانِ، فأُدْغِمَتْ ياءُ الجَمْعِ في ياءِ الإِضَافَةِ، ثمَّ حُرِّكَتْ ياءُ الإِضافَةِ بالفَتْحِ عَلَى القِراءَةِ المَشْهُورَةِ طَلَبًا للخِفَّةِ، وتَخَلُّصًا مِنْ تَوالي ثلاثِ كَسْرَاتٍ، وكُسِرَتْ عَلَى القراءةِ غَيْرِ المَشْهورَةِ عَلى أَصْلِ التَّخَلُّصِ مِنِ الْتِقاءِ السَّاكِنَيْنِ، أَوْ اتْباعًا لِكَسْرَةِ الخاءِ. والجُمْلَةُ في مَحَلِّ النَّصْبِ عَطْفًا عَلى الجُمْلَةِ التي قَبْلَها.
قولُه: {إِنِّي كَفَرْتُ بِمَا أَشْرَكْتُمُونِ مِنْ قَبْلُ} إِنِّي" إنَّ: حرفٌ ناصِبٌ ناسِخٌ مُشَبَّهٌ بالفعلِ لإفادةِ التوكيدِ، و ياءُ المتكلِّمِ ضميرٌ متَّصلٌ بِهِ مبنيٌّ على السكونِ في محلِّ النَّصْبِ اسْمًا لِـ "إنَّ". و "كَفَرْتُ" فعْلٌ ماضٍ مبنيٌّ على السكونِ لاتِّصالِهِ بضميرِ رفعٍ متحرِّكٍ هو تاءُ الفاعِلِ، وتاءُ الفاعِلِ ضميرٌ متَّصلٌ بِهِ مبنيٌّ على الضمِّ في محلِّ رفعِ فاعِلِهِ، والجُمْلَةُ الفِعْلِيَّةُ هذهِ في مَحَلِّ الرَّفْعِ خَبَرًا لـ "إنَّ"، وَجُمْلَةُ "إنَّ" في مَحَلِّ النَّصْبِ بالقولِ لِـ "قَالَ". و "بِمَا" الباءُ: حَرْفُ جَرٍّ، و "ما" يجوزُ أَنْ تَكونَ اسمًا موصولًا بِمَعْنَى (الذي). والمُرادُ بِهَذا المَوْصولِ إمَّا الأَصْنامُ، والتَقْديرُ: بالصَّنَمِ الذي أَطَعْتُموني كَمَا أَطَعْتُمُوهُ، والعائدُ محذوفٌ، تَقْديرُهُ: بِمَا أَشْرَكْتُموني بِهِ، ثمَّ حُذِفَ بَعْدَ حَذْفِ الجَارِّ وَوُصُولِ الفِعْلِ إِلَيْهِ، وَلا حَاجَةَ إِلى تَقْديرِهِ مَجْرورًا بالباءِ؛ لأَنَّ هَذَا الفِعْلَ مُتَعَدٍّ لِواحدٍ نَحْوَ: شَرَكْتُ زَيْدًا، فلَمَّا دَخَلَتْ همزةُ النَّقْلِ أَكْسَبَتْهُ مفعولًا ثانِيًا هوَ العائدُ، فتَقُولُ: أَشْرَكْتُ زَيْدًا عَمْرًا، إذا جعلتَهُ شَريكًا لَهُ. وإِمَّا أَنَّ المُرادَ بِهَذا المَوْصولِ هو الباري تَعَالى، أَيْ: بِمَا أَشْرَكْتُموني بِاللهِ تَعَالى، والكلامُ في العائدِ كَمَا تَقَدَّمَ في الوجْهِ الأوَّل، إِلَّا أنَّ فيهِ إِيقاعَ "ما" عَلَى مَنْ يَعْلَمُ، والمَشْهورُ فِيها أَنَّها لِغَيْرِ العاقِلِ، ونَحْوه قولُهم: (سبحانَ مَا سَخَّرَكُنَّ)، ومَعْنَى إِشْراكِهِمُ الشَيْطانَ باللهِ تَعَالى طاعَتُهم لَهُ فِيما كانَ يُزَيِّنُهُ لَهم مِنْ عِبَادَةِ الأَوْثانِ. ومَنْ مَنَعَ ذَلِكَ جَعَلَ "سُبْحَانَ" عَلَمًا للتَّسْبيحِ كَمَا جَعَلَ "بَرَّةَ" عَلَمًا للمَبَرَّةِ، و "ما" مَصْدَرِيَّةٌ ظَرْفِيَّةٌ، أَيْ: فَيَكونُ عَلَى حَذْفِ مُضافٍ، أَيْ: سُبْحانَ صَاحِبِ تَسْخِيرِكُنَّ؛ لأَنَّ التَسْبيحَ لا يَلِيقُ إِلاَّ باللهِ تعالى. وَيَجُوزُ أنْ تكونَ "ما" مَصْدَرِيَّةً، أَيْ: إنِّي كَفَرْتُ بِإشْراكِكُمْ إِيَّايَ. و "مِنْ" حرفُ جرٍّ مُتَعَلِّقٌ بِـ "كَفَرْتُ" على القَوْلِ الأَوَّلِ، أَيْ: كَفَرْتُ مِنْ قَبْلُ، حِينَ أَبَيْتُ السُّجُودَ لآدَمَ بِالذِي أَشْرَكْتُمُونِيهُ، وهوَ اللهُ تَعَالَى، وهو متعلِّقٌ بِـ "أَشْرَكْتُ" علَى القولِ الثاني، أَيْ: كَفَرْتُ اليَوْمَ بَإشْراكِكُمْ إِيَّايَ مِنْ قَبْلِ هَذا اليَوْمِ، أَيْ في الدُنْيَا، كَما في قَوْلِهِ تعالى مِنْ سورةِ فاطر: {وَيَوْمَ القيامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ} الآية: 14. وجَوَّزَ أبو البقاءِ العُكْبُريُّ تَعَلُّقَهُ بِـ "كفرْتُ" وبِـ "أشركتموني"، مِنْ غَيْرِ تَرْتيبٍ عَلى كَوْنِ "ما" مَصْدَرِيَّةً أَوْ مَوْصُولَةً فَقالَ: ومِنْ قَبْلُ: مُتَعَلِّقٌ بِـ "أَشْركْتُموني"، أَيْ: كَفَرْتُ الآنَ أَشْرَكْتُموني مِنْ قَبْلُ. وقِيلَ: وهيَ مُتَعَلِّقةٌ بـ "كفرتُ" أَيْ: كَفَرْتُ مِنْ قبلِ إِشراكِكم فلا أَنْفَعُكم شيئًا. و "أَشْرَكْتُمُونِ" أشركتُ: مثلُ "كَفَرْتُ" والميمُ: علامةُ الجمع المُذكَّرِ، والواوُ: حَرْفٌ زائدٌ لإشْبَاعِ حَرَكَةِ المِيمِ، والنُّونُ: للوِقايَةِ، وياءُ المُتَكَلِّمِ المَحْذوفَةِ اجْتِزاءً عَنْهَا بِكَسْرَةِ نُونِ الوِقايَةِ ضميرٌ متَّصلٌ مَبْنِيٌّ على السكونِ في مَحَل النَّصْبِ مَفْعُولٌ بِهِ. و "مِنْ" حرفُ جَرٍّ مُتَعَلِّقٌ بِـ "أَشْرَكْتُمُونِ"، و "قَبْلُ" اسْمٌ مَبْنِيٌّ على الضَمِّ في مَحَلِّ جرّ مُجْرورٌ بحرفِ الجرِّ، والجملةُ الفِعْلِيَّةُ صِلَةُ "ما" المَصْدَرِيَّةِ، و "ما" مَعَ صِلَتِها: في تَأْويلِ مَصْدَرٍ مَجرورٍ بالباءِ، الجارُّ والمجرورُ مُتَعَلِّقانِ بِـ "كَفَرْتُ"، والتقديرُ: إِني كَفرْتُ بإشراكِكُم إِيَّايَ بِاللهِ مِنْ قبلُ.
قولُهُ: {إِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} إِنَّ: حرفٌ ناصبٌ ناسِخٌ مُشبَّهٌ بالفعلِ، للتوكيدِ، و "الظَّالِمِينَ" اسْمُهُ منصوبٌ بِهِ، وعلامةُ نَصْبِهِ الياءُ لأنَّهُ جمعُ المُذكَّرِ السالمُ، والنونُ عِوَضٌ عنِ التنوينِ في الاسْمِ المفردِ. و "لَهُمْ" اللامُ: حرفُ جرٍّ متعلِّقٌ بِخَبَرٍ مُقَدَّمٍ، والهاء: ضميرٌ متَّصِلٌ بِهِ مبنيٌّ على الضمِّ في محلِّ الجرِّ بحرفِ الجرِّ، والميمُ للجمعِ المذكَّرِ. و "عَذَابٌ" مرفوعٌ بالابْتِداءِ مُؤَخَّرٌ. و "أَلِيمٌ" صِفَتُهُ مرفوعةٌ مثله، وجُملةُ الابْتِداءِ في مَحَلِّ الرَّفْعِ خَبَرُ "إِنَّ"، وجُملةُ "إنَّ" في مَحَلِّ النَّصْبِ بالقولِ لـ "قالَ" إِنْ قُلْنا: إِنَّهُ مِنْ تَمَامِ كَلامِ إِبْلِيسَ اللَّعينِ، أَوْ مُسْتَأْنَفَةٌ لا محلَّ لها مِنَ الإعرابِ إِنْ قُلْنَا: إِنَّهُ مِنْ كَلامِ اللهِ تعالى.
قَرَأَ العامَّةُ: {بِمُصْرِخِيَّ} عَلَى فَتْحِ الياءِ؛ لأَنَّ الياءَ المُدْغَمَ فِيها تُفْتَحُ أَبَدًا لا سِيَّما وَقَبْلَها كَسْرٌ ثانٍ. وَقَرَأَ حَمْزَةُ "بِمُصْرِخِيِّ" بِكَسْرِها، وهيَ لُغَةُ بَنِي يَرْبوع. وقدِ اضطَّرَبَتْ أَقوالُ النَّاسِ في هَذِهِ القِراءَةِ اضطِّرابًا شَديدًا: فَمِنْ مُجْتَرِئٍ عَلَيْها مُلَحِّنٍ لِقَارِئِها، ومِنْ مُجَوِّزٍ لَهَا مِنْ غَيْر ِ تَضْعيفٍ، ومِنْ مُجَوِّزٍ لَهَا بِضَعْفٍ. فقال أَبُو عَمْرٍو ابنُ العلاءِ: هِيَ جائزَةٌ، وِإنَّمَا أَرادَ تَحْريكَ الياءِ، فَلَسْتَ تُبالي إِذا حَرَّكْتَها إِلَى أَسْفَلَ أَمْ إلى فَوْق. وقالَ الحُسَيْنُ بنُ عَلِيِّ بْنِ الوَلِيْدِ الجُعْفِيُّ: قَدِمَ عَلَيْنا أَبُو عَمْرٍو بْنُ العَلاءِ فسَأَلْتُهُ عَنِ القُرْآنِ فَوَجَدْتُهُ بِهِ عالِمًا، فَسَأَلْتُهُ عَنْ شَيْءٍ مِنْ قِراءَةِ الأَعْمَشِ واسْتَشْعَرْتُهُ: "وَمَا أَنتُمْ بِمُصْرِخِيِّ" بالجَرِّ فقالَ: هيَ جائزَةٌ، فلَمَّا أَجازَها وقَرَأَ بِهَا الأَعْمَشُ أَخَذْتُ بِهَا. وقدْ أَنْكَرَ أَبُو حَاتِمٍ السِّجِسْتَانِيُّ سَهْلُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عُثْمَانَ عَلَى أَبي عَمْرٍو تَحْسِينَهُ لِهَذِهِ القِراءَةِ، ولا يُلْتَفَتُ إلى إنكارِهِ هَذا لأَنَّ أَبا عمرٍو عَلَمٌ مِن ْأَعلامِ القُرْآنِ واللُّغَةِ والنَّحْوِ، وقَدِ اطَّلَعَ عَلى مَا لَمْ يَطَّلِعْ عَلَيْهِ مَنْ فَوْقَ السَجَسْتَانِيِّ، وقد صدقَ الشاعرُ الأمويُّ جريرُ بْنُ عطيَّةَ حينَ قالَ:
وَابْنُ اللَّبُونِ إِذَا مَا لُزَّ فِي قَرَنٍ ........ لَمْ يَسْتَطِعْ صَوْلَةَ الْبُزْلِ الْقَنَاعِيسِ
ثمَّ ذَكَرَ العُلَمَاءُ في ذَلِكَ تَوْجيهاتٍ: مِنْها أَنَّ الكَسْرَ عَلَى أَصْلِ الْتِقاءِ السَّاكِنَيْنِ، وَذَلِكَ أَنَّ ياءَ الإِعْرابِ سَاكِنَةٌ، وَيَاءَ المُتَكَلِّمِ أَصْلُها السُّكونُ، فلَمَّا الْتَقَيَا كُسِرَتْ لالْتِقاءِ السَّاكِنَيْنِ. الثاني: أَنَّها تُشْبِهُ هاءَ الضميرِ في أَنَّ كلًّا مِنْهُما ضَميرٌ عَلَى حَرْفٍ واحِدٍ، وهاءُ الضَميرِ تُوْصَلُ بِواوٍ إِذا كانَتْ مَضْمَومَةً، وبِيَاءٍ إِذا كانَتْ مَكْسُورَةً، وتُكْسَرُ بَعْدَ الكَسْرَةِ والياءِ السَّاكِنَةِ، فَتُكْسَرُ كَمَا تُكْسَرُ الهاءُ في (عَليْهِ)، وبَنُو يُرْبوعٍ يَصِلونَهَا بِيَاءٍ، كَمَا يَصِلُ ابْنُ كَثيرٍ بِيَاءٍ نَحْوَ: (عَلَيْهِ) فيقرأُ (عَلَيْهِي)، فحَمْزَةُ كَسَرَ هَذِهِ الياءَ مِنْ غَيْرِ صِلَةٍ، إِذْ أَصْلُهُ يَقْتَضِي عَدَمَها. وَزَعَمَ قُطْرُبٌ أَيْضًا أَنَّها لُغَةُ بَني يُرْبوعَ، فقالَ: يَزيدونَ عَلى ياءِ الإِضافَةِ ياءً، وأَنْشَدَ لِلشاعِرِ الراجزِ الأَغْلَبِ العِجْلِيِّ:
ماضٍ إذا ما هَمَّ بالمُضِيِّ ................... قالَ لَهَا: هَلْ لَكِ ياتَا فِيَّ
وأَنْشَدَهُ الفَرَّاءُ وَقالَ: فإِنْ يَكُ ذَلِكَ صَحيحًا فهوَ مِمَّا يَلْتَقي مِنَ السَّاكِنَيْنِ. وقالَ الفَرَّاءُ في كِتابِ التَصْريفِ له: زَعَمَ القاسِمُ بْنُ مَعْنٍ أَنَّهُ صَوَابٌ، وَكَانَ ثِقَةً بَصِيرًا.
ومِمَّنْ طَعَنَ عَلَ هذِهِ القراءةِ أَبُو إِسْحاقٍ الزَّجاجُ إِبْراهِيمُ بْنُ السَّرِيِّ بْنِ سَهْلٍ، قالَ: هذه القراءَةُ عِنْدَ جَميعِ النَّحْوِيّينَ رَديئَةٌ مَرْذُوْلَةٌ وَلا وَجْهَ لَهَا إِلَّا وَجْهٌ ضَعيفٌ. وقالَ أَبو جَعْفَرٍ النحَّاسُ: صارَ هَذَا إِدْغامًا، ولا يَجُوزُ أَنْ يُحْمَلَ كِتَابُ اللهِ تَعَالَى عَلَى الشُّذوذِ. وقالَ الزَمَخْشَرِيُّ: هيَ ضَعيفةٌ، واسْتَشْهَدوا لِهَا بِبَيْتٍ مجهولٍ، وكأَنَّهُ قدَّرَ ياءَ الإِضافَةِ سَاكِنَةً، وَقَبْلَها ياءٌ سَاكِنَةٌ، فَحَرَّكَها بالكَسْرِ لِمَا عَلَيْهِ أَصْلُ الْتِقاءِ السَّاكِنَيْنِ، ولَكِنَّهُ غَيْرُ صَحيحٍ؛ لأَنَّ ياءَ الإِضافَةِ لا تَكونُ إِلَّا مَفْتُوحَةً حَيْثُ قَبْلَهَا أَلِفٌ، نحَوَ: (عَصَايَ) فَمَا بالُها وقَبْلَها ياءٌ؟ فإنْ قُلْتَ: جَرَتِ الياءُ الأُولى مَجْرَى الحَرْفِ الصَّحِيحِ لأَجْلِ الإِدْغامِ فَكَأَنَّها ياءٌ وَقَعَتْ ساكِنَةً بَعْدَ حَرْفٍ صَحِيحٍ سَاكِنٍ فَحُرِّكَتْ بالكَسْرِ عَلَى الأَصْلِ. وهذَا قِياسٌ حَسَنٌ، ولكنَّ الاسْتِعْمَالَ المُسْتَفِيضَ الذي هوَ بِمَنْزِلَةِ الخَبَرِ المُتَواتِرِ تَتَضاءَلُ إِلَيْهِ القِياساتُ. وقال الفرَّاءُ في كتابِ (المعاني) له: وقد خَفَضَ الياءَ مِنْ "بمُصْرِخِيّ" الأَعْمَشُ ويَحيى بْنُ وثابٍ جَميعًا، حَدَّثني بِذلكَ القاسِمُ بْنُ مَعْنٍ عَنِ الأَعْمَشِ، ولَعَلَّها مِنْ وَهْمِ القُرَّاءِ، فإنَّهُ قَلَّ مَنْ سَلِمَ مِنْهم مِنَ الوَهْمِ، ولَعَلَّهُ ظَنَّ أَنَّ الباءَ في "بمُصْرِخِيَّ" خافضَةٌ للفْظِ كُلِّهِ، والياءُ للمُتَكَلِّمِ خارجةٌ مِنْ ذَلِكَ. قالَ: ومما نَرى أَنَّهم وَهِمُوا فيهِ قولُهُ تعالى: {نُوَلِّهْ مَا تولى وَنُصْلِهْ جَهَنَّمَ} سُورةِ النِّساءِ الآية: 115، بالجَزمِ في الهاءِ.
وقالَ أبو عُبيدٍ: أَمَّا الخَفْضُ فإنَّا نَراهُ غَلَطًا، لأَنَّهم ظَنُّوا أَنَّ الياءَ تُكْسِرُ كلَّ ما بَعْدَها، وقد كان في القرَّاءِ مَنْ يَجْعَلُهُ لَحْنًا، ولا أُحِبُّ أَنْ أَبْلُغَ بِهِ هَذا كُلِّهُ، ولكنَّ وَجْهَ القراءةِ عندنا غَيْرُها. وقالَ الأَخْفَشُ: ما سَمِعْتُ بِهَذا مِنْ أَحَدٍ مِنَ العَرَبِ وَلا مِنْ أَحَدٍ مِنَ النَّحْوِيين.
وقد تقدَّم ما حَكَاهُ العُلَماءُ مِنْ أَنَّها لُغَةٌ ثانيةٌ لِبَعْضِ العَرَبِ. وقالَ أبو عليٍّ الفارسيُّ، في (حُجَّتِهِ) نُصْرَةً لهَذِهِ القِراءَةِ: وَجْهُ ذَلِكَ أَنَّ الياءَ لَيْسَتْ تَخْلُو مِنْ أَنْ تَكونَ في مَوْضِعِ نَصْبٍ أَوْ جَرٍّ، فالياءُ في النَّصْبِ والجرِّ كالهاءِ فِيهِما، وكالكافِ في (أَكْرَمْتُكَ) و (هَذَا لَكَ)، فَكَما أَنَّ الهاءَ قَدْ لَحِقَتْها الزِّيادَةُ في هَذا: (لَهُوْ)، و (ضَرَبَهُوْ)، ولَحِقَ الكافَ أَيْضًا الزِّيادَةُ في قولِ مَنْ قالَ: (أَعْطَيْتُكاه) و (أَعْطَيْتُكِيْه) فيما حَكاهُ سِيبَوَيْهِ، وهُما أُخْتا الياءِ، ولَحِقَتِ التاءَ الزِّيادَةُ في قوِلِ الشَّاعِرِ مِنَ الهَزَجِ:
رَمَيْتِيْهِ فَأَصْمَيْتِ ............................... وما أَخْطَأْتِ في الرَّمْيَهْ
بِسَهْمَيْنِ مَلِيحَيْنِ .................................. أَعَارَتِكِيهما الظِّبْيَهْ
كذَلكَ أَلْحَقوا الياءَ الزِّيادَةَ مِنَ المَدِّ فقالوا: (فِيَّ)، ثمَّ حُذِفَتِ الياءُ الزائدةُ عَلى الياءِ كَمَا حُذِفَتِ الزِّيادةُ مِنَ الهاءِ في قولِ يَعْلى الأَحْوَلِ الأَزْدِيِّ يَصِفُ بَرْقًا:
أَرِقْتُ لِبَرْقٍ دُونَه شَرَوانِ ................... يَمانٍ وأَهْوَى البَرْقَ كُلَّ يَمانِ
فَبِتُّ لَدَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ أخِيلُهُ .............. وَمِطْوايَ مُشْتَاقَانِ لَهْ أرقَان
قالَ ابْنُ جِنِّي جَمَعَ بَيْنَ اللُّغَتَيْنِ، يَعْني إِثْباتَ الواوِ في أُخِيلُهو وإِسْكانَ الهاءِ في (لَهْ) وليسَ إِسْكانُ الهاءِ في (لَهْ) عَنْ حَذْفٍ لَحِقَ الكَلِمَةَ بالصَّنْعَةِ وهَذا في لُغَةِ أَزْدِ السَّراةِ كَثيرٌ. ومُرادُ أَبي عَلِيٍّ بِالتَنْظيرِ بالبَيْتِ في قولِهِ: (لَهْ أَرِقانِ) حَذْفُ الصِلَةِ، واتَّفَقَ أَنَّ في البَيْتِ أَيْضًا حَذْفُ الحَرَكَةِ، ولَوْ مَثَّلَ بِنَحْوَ (عَلَيْهِ) و (فِيهِ) لَكانَ أَوْلى.
ثمَّ قالَ الفَارِسِيُّ: كَمَا حُذِفَتْ الزِّيادَةُ مِنَ الكافِ فَقِيلَ: أَعْطَيْتَكَهُ وأَعْطَيْتُكِهِ، كَذَلِكَ حُذِفَتِ الياءُ اللاحِقةُ للياءِ كَمَا حُذِفَتْ مِنْ أُخْتَيْها، وأُقِرَّتِ الكَسْرَةُ التي كانَتْ تَلي الياءَ المَحْذوفَةَ فَبَقِيَتِ الياءُ عَلَى مَا كانَتْ عَلَيْهِ مِنَ الكَسْرِ. قالَ: فإِذا كانَتِ الكَسْرَةُ في الياءِ عَلى هَذِهِ اللُّغَةِ ـ وإِنْ كانَ غَيْرُها أَفْشَى مِنْها، وعَضَدَهُ مِنَ القِياسِ مَا ذَكَرْنَاهُ لَمْ يَجُزْ لِقائلٍ أَنْ يَقولَ: إِنَّ القِراءَةَ بِذَلِكَ لَحْنٌ لاسْتِقامَةِ ذَلِكَ في السَّمَاعِ والقِياسِ، وَمَا كانَ كَذَلِكَ لا يَكونُ لَحْنًا. وهذا التَوْجِيهُ هوَ تَوْضيحٌ للتَوْجيهِ الثاني الذي تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ. وأَمَّا التَوْجيهُ الأَوَّلُ فَأَوْضَحَهُ الفَرَّاءُ أَيْضًا، وأَجَازَهُ عَلى وَجْهٍ ضَعيفٍ لأَنَّ أَصْلَ الْتِقاءِ السَّاكِنَيْنِ الكَسْرُ. قالَ: أَلَا تَرَى أَنَّهم يَقولونَ: مُذُ اليَوْمِ، ومُذِ اليَوْمِ، والرَّفْعُ في الذَّالِ هوَ الوَجْهُ، لأَنَّهُ أَصْلُ حَرَكَةِ (مُنْذُ)، والخَفْضُ جائزٌ، فَكَذَلِكَ الياءُ مِنْ (مُصْرِخيَّ) خُفِضَتْ وَلَها أَصْلٌ في النَّصْبِ. وتَشبيهُ الفَرِّاءِ المَسْأَلَةَ بـ (مُذُ اليَوْمِ) فِيهِ نَظَرٌ؛ لأَنَّ الحَرْفَ الأَوَّلَ صَحيحٌ، وَلَمْ يَتَوالَ قَبْلَهُ كَسْرٌ، بِخِلافِ مَا نَحْنُ فِيهِ، وَهَذا هوَ الذي عَنَاهُ الزَمَخْشَرِيُّ بِقَوْلِهِ: فَكَأَنَّها وَقَعَتْ بَعْدَ حَرْفٍ صَحِيحٍ.
وقيلَ إنَّ الكسْرَ للإِتْباعِ لِمَا بَعْدَهَا، وهوَ كَسْرُ الهَمْزِ مِنْ "إنِّي" كقراءَةِ {الحَمْدِ للهِ}، وكَقولِهم: بِعِير، وشِعِير، وشِهيد، بِكَسْرِ أَوائِلها إِتْباعًا لِمَا بَعْدَهَا، وهوَ ضَعيفٌ جِدًّا.
وقيلَ: إنَّ المُسَوِّغَ لِهَذا الكَسْرِ في الياءِ ـ وإِنْ كانَ مُسْتَثْقَلًا، أَنَّها لَمَّا أُدْغِمَتْ فِيها التي قَبْلَها قَوِيَتْ بالإِدْغَامِ، فَأَشْبَهَتِ الحُروفَ الصِّحاحَ فاحْتَمَلَتِ الكَسْرَ؛ لأَنَّهُ إِنَّما يُسْتَثْقَلُ فيها إِذا خَفَّتْ وانْكَسَرَ مَا قَبْلَها، أَلَا تَرَى أَنَّ حَرَكاتِ الإِعْرابِ تَجْري عَلى المُشَدِّدِ، وَما ذَاكَ إلَّا لإِلْحاقِهِ بالحُرُوفِ الصِّحاحِ.
قرأَ الجمهورُ: {أَشْرَكْتُمونِ} بحذْفِ ياءِ المتكلِّمِ وصلًا ووقْفًا، وَقَرَأَ أَبو عَمْرٍو بْنُ العلاءِ "أَشْرَكْتُموني" بإثباتِ الياءِ وَصْلًا وحَذْفِها وَقْفًا.
وقُرِئَ "فلا يَلُوْموني" بالياءِ مِنْ تَحْتُ عَلَى الالْتِفاتِ، كَقَوْلِهِ تعالى مِنْ سورةِ يونُسَ: {حَتَّى إِذَا كُنتُمْ فِي الفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِم} الآية: 22.