أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَتَ اللهِ كُفْرًا وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دارَ الْبَوارِ
(28)
قولُهُ ـ تَعَالَى شَأْنُهُ: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَتَ اللهِ كُفْرًا} هذا الْخِطَابُ هُنَا لِكلِّ مَنْ يَصِحُّ مِنْهُ النَّظَرُ إِلَى أَحوالِ هَؤُلَاءِ الكافرينَ الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَةَ اللهِ، وَالمُرادُ بالْكُفْرِ كُفْرَانُ النِّعْمَةِ، وَهُوَ ضِدُّ الشُّكْرِ عَلَيْها، وَالْإِشْرَاكُ بِاللهِ مِنْ كُفْرَانِ نِعْمَتِهِ ـ سُبْحانَهُ وتَعَالَى. فبَعْدَ أَنْ مَثَّلَ اللهُ تَعَالَى للفَريقَيْنِ، المُؤْمِنِ والكَافِرِ، بالشَجَرَةِ الطَّيِّبَةِ والشَجَرَةِ الخَبِيثَةِ، أَعْقَبَهُ بِبَيَانِ أَحوالِهِمَا وذِكْرِ عاقِبَةِ كلٍّ منْهُمَا، وَابْتَدأَ بِذِكْرِ أَحْوَالِ الْمُشْرِكِينَ، لِأَنَّهَا أَعْجَبُ وَالْعِبْرَةُ بِهَا أَوْلَى والحَذَرَ مِنْهَا مُقَدَّمٌ عَلَى التَّحَلِّي بِضِدِّهَا. ونِعْمَةُ اللهِ التي بَدَّلوها هي أَنْ بَوَّأَهُمْ حَرَمَهُ، وَأَمَّنَهُمْ فِي حالِ إِقَامَتِهِمْ وحالِ سَفَرِهِمْ في رِحْلَتَيْ الشِتَاءِ والصَّيْفِ، يَتَّجَرونَ بَيْنَ الشَّامِ واليَمَنِ وَسَلَّمَهُمْ مِمَّا أَصَابَ منْ حولَهُمْ منَ القبائلِ العربيةِ مِنَ الْحُرُوبِ وَالْغَارَاتِ وَالْعُدْوَانِ كَمَا قَالَ في سُورَةِ قَرَيْشٍ: {لِإِيلَافِ قُرَيْشٍ (1) إِيلَافِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ (2) فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ (3) الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ (4)}، وَجَعَلَ أَفْئِدَةَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ إِجابةً لدعوةِ أَبيهِمْ إِبْراهِيمَ عَلَيْهِ السَّلامُ، حِينَ قالَ في الآية 37، مِنْ هَذِهِ السُّورةِ المُبَارَكَةِ: {رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلَاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ}. ومِنْ أَعظَمِ نِعَمِهِ تعالى عَلَيْهِمْ أَنْ بَعَثَ فِيهِمْ خاتَمَ أَنْبِيائهُ وأَفضلَ رُسِلِهِ محمَّدًا ـ صَلَّى اللهُ وسلَّمَ عَلَيْهِ وعَلَيْهِم أَجْمَعينَ، فَهَدَاهُمْ إِلَى الْحَقِّ والدينِ القويمِ والصِّرَاطِ المُسْتَقيمِ، وَهَيَّأَ لَهُمْ أَسْبَابَ السِّيَادَةِ وَالنَّجَاةِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَة. ونِعَمُهُ ـ سُبْحانَهُ وتعالى، لا عَدَّ لها ولا حَصْرَ، وقد كَفَروها كُلَّها، بَدَّلَ أَنْ يشُكرُوهُ عَلَيْها، بِأَنْ أَشْرَكُوا بِهِ حِجَارَةً لا تَضُرُّ ولا تَنْفَعُ، وكذَّبوا رَسُولَهِ إِلَيْهِمْ، وحارَبُوا دِينَهُ.
والفَريقُ الَّذِي بَدَّلَ النِّعْمَةَ مَعْرُوفٌ، وَهُوَ الَّذي تَلَقَّى الْكَلِمَةَ الْخَبِيثَةَ مِنَ الشَّيْطَانِ، أَعْني كَلِمَةَ الشِّرْكِ، بِقَرِينَةِ قَوْلِهِ تعالى: "أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ"، فاسْتَعْمَلَ الاسْمَ المَوْصُولَ "الذينَ" للإشارةِ إليهِمْ، وَهُمْ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا، وهُمْ مُشْرِكو أَهْلِ مَكَّةَ، فَكَابَرُوا وعانَدُوا وحارَبُوا دَعْوَةَ النَّبِيَّ مُحَمَّدٍ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ورسالتَهُ، وَشَرَّدُوا مَنِ اسْتَطَاعُوا مِنْ أَتْبَاعِهِ وَقَتَلُوا مِنْهم وعَذَّبوا، وحَاصَرُوهم في الشعْبِ وقاطَعُوهم. فَتَسَبَّبُوا بِذَلِكَ فِي إِحْلَالِ قَوْمِهِمْ دَارَ الْبَوَارِ. فقد أَخْرَجَ الأئمَّةُ: عَبْدُ الرَّزَّاقِ، وَسَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ، وَالْبُخَارِيُّ، وَالنَّسَائِيُّ، وَابْنُ جَريرٍ، وَابْنُ أَبي حَاتِمٍ، وَابْنُ مِرْدُوَيْهِ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي دَلَائِلِ النُّبوَّةِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا، فِي قَوْلِهِ تعالى: "أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذينَ بَدَّلُوا نِعْمَةَ اللهَ كُفْرًا" قَالَ: هُمْ كُفَّارُ أَهْلِ مَكَّةَ.
وَأَخْرَجَ البُخَارِيُّ فِي تَارِيخِهِ، وَابْنُ جَريرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ مِرْدُوَيْهِ، عَنْ أَميرِ المؤمنينَ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، فِي قَوْلِهِ: "أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذينَ بَدَّلُوا نِعْمَةَ اللهَ كُفْرًا" قَالَ: هُمَا الأَفْجَرانِ مِنْ قُرَيْشٍ: بَنُو الْمُغِيرَةِ، وَبَنُو أُمَيَّةَ، فَأَمَّا بَنُو الْمُغيرَةِ فَكُفِيتُموهُمْ يَوْمَ بَدْرٍ، وَأَمَّا بَنُو أُمَيَّةَ فَمُتِّعُوا إِلَى حِينٍ. وَأَخْرَجَ ابْنُ مِرْدُوَيْهِ أيضًا عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا، أَنَّهُ قَالَ لِعُمَرَ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ هَذِهِ الْآيَةُ: "الَّذينَ بَدَّلُوا نِعْمَةَ اللهِ كُفْرًا" قَالَ: هُمْ الأَفْجرانِ مِنْ قُرَيْشٍ: أَخْوالي وَأَعْمامُكُ، فَأَمَّا أَخْوالي فَاسْتَأْصَلَهُمُ اللهُ يَوْمَ بَدْرٍ، وَأَمَّا أَعْمامُكَ فَأَمْلَى اللهُ لَهُم إِلَى حِينٍ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا، فِي قَوْلِهِ: "أَلَم ْتَرَ إِلَى الَّذين بَدَّلُوا نِعْمَةَ اللهِ كُفْرًا" قَالَ: هُوَ جَبَلَةُ بْنُ الْأَيْهَم وَالَّذين اتَّبعُوهُ من الْعَرَب فَلَحقُوا بالرُّومِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَريرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبي حَاتِمٍ، وَالطَّبَرَانِيُّ، فِي مُعجَمِهِ الْأَوْسَطِ، وَابْنُ مِرْدُوَيْهِ، وَالْحَاكِمُ في مُسْتَدْرَكِهِ وَصَحَّحَهُ مِنْ طُرِقٍ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبي طَالِبٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، فِي قَوْلِهِ: "أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذينَ بَدَّلُوا نِعْمَةَ اللهَ كُفْرًا" قَالَ: هُمَا الأَفْجَرانِ مِنْ قُرَيْشٍ، بَنُو أُمَيَّةَ وَبَنُو الْمُغِيرَةَ، فَأَمَّا بَنُو الْمُغِيرَةِ بنِ مَخْزومٍ، فَقَطَعَ اللهُ دَابِرَهمْ يَوْمَ بَدْرٍ، وَأَمَّا بَنُو أُمَيَّةَ فَمُتِّعُوا إِلَى حِينٍ. قلتُ، قال: (وَأَمَّا بَنُو أُمَيَّةَ فَمُتِّعُوا إِلَى حِينٍ) لأَنَّ بَنُي أُمَيَّةَ مُتِّعُوا بِكُفْرِهم حَتَّى أَسْلَمَ أَبُو سُفْيانَ وابْنُهُ مُعاويَةُ، وعَمْرُو بْنُ العاصِ وأَخُوهُ سَعيدٌ وهمْ منْ كبارِ الصحابةِ وقادةِ المُسْلمينَ الذين كانَ لهم فضلٌ عظيمٌ في نُصرةِ الدينِ الحنيفِ ونشرِهِ في أَصْقاعِ الأَرْضِ، وغَيْرُهُمْ ممنْ حَسُنَ إسلامُهُ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ. وأمَّا بنو المغيرة بنِ مخزومٍ فإنَّ مِنْهم خالد بْنُ الوليدِ ـ رضيَ اللهُ عنه، وحينَئِذٍ فإنَّ مُرادَ سيِّدِنا عمرَ وعليٍّ ـ رضيَ اللهُ عنهما، مَنْ حاربَ الإسلامَ وناصَبَهُ العداءَ منهمْ كأبي جهلٍ (عمرو بْنِ هشامٍ المخزوميِّ) وغيرِهِ الذينَ قُتلوا يومَ بدرٍ. وقالَ ابنُ عاشور التونُسِيُّ في تَفْسيرِهِ المُسَمَّى (التحريرُ والتَنْويرُ: (13/229): لَا أَحْسَبُهُ إِلَّا مِنْ وَضْعِ بَعْضِ الْمُغْرِضِينَ الْمُضَادِّينَ لِبَنِي أُمَيَّةَ. وَفِي رِوَايَاتٍ عَنْ عَلِيٍّ ـ كَرَّمَ اللهُ وَجْهَهُ، أَنَّهُ قَالَ: هُمْ كُفَّارُ قُرَيْشٍ، وَلَا يُرِيدُ عُمَرُ وَلَا عَلِيٌّ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا، مَنْ أَسْلَمُوا مِنْ بَنِي أُمَيَّةَ فَإِنَّ ذَلِكَ لَا يَقُولُهُ مُسْلِمٌ فاحْذَرُوا الأَفْهامَ الخاطِئَةَ. وَكَذَا مَا رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ـ رضيَ اللهُ عنهُما: أَنَّهُمْ جَبَلَةُ بْنُ الْأَيْهَمِ وَمَنِ اتَّبَعَهُ مِنَ الْعَرَبِ الَّذِينَ تَنَصَّرُوا فِي زَمَنِ عُمَرَ وَحَلُّوا بِبِلَادِ الرُّومِ، فَإِذَا صَحَّ عَنْهُ فَكَلَامُهُ عَلَى مَعْنَى التَّنْظِيرِ وَالتَّمْثِيلِ وَإِلَّا فَكَيْفَ يَكُونُ هُوَ الْمُرَادُ مِنَ الْآيَةِ وَإِنَّمَا حَدَثَ ذَلِكَ فِي خِلَافَةِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ. انتهى. وَأَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ، وَالْفِرْيَابِيُّ، وَالنَّسَائِيُّ، وَابْنُ جَريرٍ، وَابْنُ أَبي حَاتِمٍ، وَابْنُ الْأَنْبَارِيِّ، فِي الْمَصَاحِفِ، وَابْنُ مِرْدُوَيْهِ، وَالْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي الدَّلَائِلِ، عَنْ أَبي الطُّفَيْلِ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، أَنَّ ابْنَ الْكواءِ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، سَأَلَ عَلِيًا ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، مَنِ "الَّذينَ بَدَّلُوا نِعْمَةَ اللهَ كُفْرًا وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دارَ الْبَوارِ" قَالَ: هُمْ الْفُجَّارُ مِنْ قُرَيْشٍ كُفِيَتْهُمْ يَوْمَ بَدْرٍ؟ قَالَ: فَمَنِ {الَّذينَ ضَلَّ سَعْيُهمْ فِي الْحَيَاة الدُّنْيَا} الآية: 104، منْ سورةِ الْكَهْف؟. قَالَ: مِنْهُم أَهْلُ حَرُوراءَ (أَيْ: الخَوَارِج).
قولُهُ: {وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دارَ الْبَوارِ} أَحَلوا: أَنْزَلُوا، وَالْمُرَادُ التَّسَبُّبُ فِيهِ. وَ "البَوار" الْخُسْرَانُ والْهَلَاكُ، وَدَارُهُ: مَحَلُّهُ الَّذِي وَقَعَ فِيهِ، وإِسْنَادُ فِعْلِ "أَحَلُّوا" إِلَيْهِمْ عَلَى طَرِيقَةِ الْمَجَازِ الْعَقْلِيِّ. أَيْ إنَّهم كَانُوا سَبَبًا لِحُلُولِ قَوْمِهِمْ بِدَارِ الْبَوَارِ، وَهِيَ مَوَاقِعُ الْقَتْلِ وَالْخِزْيِ فِي الدُّنْيَا، كَمَوْقِعِ بَدْرٍ وغيرِه من المَواقِعِ التي هُزِمَ فيها المشركونَ، وفِي الْآخِرَةِ جَهَنَّمُ، وَبِهِ قالَ عَلِيٌّ وَابْنُ عَبَّاسٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهمْ، وَكَثِيرٌ مِنَ الْعُلَمَاءِ. وَاسْتِعْمَالُ صِيغَةِ الْمُضِيِّ "أَحَلُّوا" للتَّحْقِيقِ لِأَنَّ الْإِحْلَالَ مُتَأَخِّرٌ زَمَنُهُ فَإِنَّ السُّورَةَ مَكِّيَّةٌ.
قولُهُ تَعَالَى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَتَ اللهِ كُفْرًا} أَلَمْ: الهمزةُ للاسْتِفهامِ التَعَجُّبِيِّ. و "لم" حَرْفُ نَفْيٍ وقَلْبٍ وجَزْمٍ. و "تَرَ" فِعْلٌ مُضَارِعٌ مَجْزومٌ بِـ "لم"، والرُؤْيَةُ هنا بَصَرِيَّةٌ وقد تَعَدى بِـ "إِلَى" تَضْمينًا لَهُ مَعْنَى النَّظَرِ، وفاعِلُهُ ضَميرٌ مُسْتَتِرٌ فيهِ وجوبًا تقديرُهُ (أنتَ) يَعُودُ عَلى سيِّدِنا محمدٍ ـ صلَّ اللهُ عليهِ وسلَّمَ، أوْ على كلِّ مَنْ يَصِحُّ مِنْهُ النَّظَرُ. و "إِلَى" حرفُ جَرٍّ مُتَعَلِّقٌ بِـ "تَرَ" ، و "الَّذِينَ" اسْمٌ مَوْصولٌ مبنيٌّ على الفتحِ في محلِّ الجَرِّ بحرفِ الجرِّ، وهوَ في مَحَلِّ المَفْعولِ؛ أَيْ: هَلْ رَأَيْتَ عَجَبًا مِثْلَ هَؤُلاءِ الذينَ بَدَّلوا نِعْمَةَ اللهِ كُفْرًا. والأَصْلُ: بَدَّلوا شُكْرَ نِعْمَةِ اللهِ كُفْرًا، كقولِهِ تعالى في الآيةِ: 82، من سورةِ الواقعةِ: {وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ} أَيْ: شُكر رِزْقِكِمْ، لأنَّهُ وَجَبَ الشُّكْرُ عليهمْ فوَضَعُوا مَوْضِعَهُ الكُفْرَ. أَوْ أَنَّهُمْ بَدَّلُوا نَفْسَ النِّعْمَةِ كُفْرًا، عَلى أَنَّهم لَمَّا كَفَرُوها سُلِبُوها، فبَقُوا مَسْلُوبِيِ النِّعْمَةِ (نِعمة الإيمانِ) مَوْصُوفِينَ بالكُفْرِ حاصِلًا لهم. وعَلى هَذا فلا يُحْتَاجُ إِلى حَذْفِ مُضافٍ، وقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ "بَدَّلَ" يَتَعَدَّى لاثْنَيْنِ، أَوَّلُهُما مِنْ غَيْرِ حَرْفٍ، والثاني بالباءِ، وأَنَّ المَجْرورَ هوَ المَتْروكُ، والمَنْصُوبَ هوَ الحاصِلُ، ويَجُوزُ حَذْفُ الحَرْفِ، فَيَكونُ المَجْرورُ بالباءِ هُنَا هوَ "نعمة" لأَنَّها المَتْروكَةُ. و "بَدَّلُوا" فعلٌ ماضٍ مبنيٌّ على الضمِّ لاتِّصالِهِ بواوِ الجماعةِ، وواوُ الجماعةِ ضميرٌ متَّصِلٌ بِهِ مبنيٌّ على السكونِ في محلِّ الرفعِ بالفاعليَّةِ، والألفُ للتفريقِ، و "نِعْمَةَ" مَفْعُولٌ بِهِ أَوَّلُ مَنْصوبٌ وهو مُضافٌ، ولفظُ الجلالةِ "اللهِ" اسمٌ مجرورٌ بالإضافةِ إليهِ. و "كُفْرًا" مَفعُولُهُ الثاني منصوبٌ، هذا ما قالهُ الحوفيُّ والعُكْبُريُّ، والأَحسَنُ أَنْ يقالَ إِنَّ "كُفرًا" هوَ المَفْعُولُ الأَوَّلُ، لأَنّهُ هوَ الذي يَصِلُ إِلَيْهِ الفِعْلُ بِنَفْسِهِ لا بِحَرْفِ الجَرِّ، ومَا كانَ كَذَا فَهُوَ المَفْعُولُ الأَوَّلُ، لِمَا تَقَدَّمَ آنِفًا مِنْ أَنَّ الفعلَ "بَدَّلَ" يَتَعَدَّى لاثْنَيْنِ، أَوَّلُهُما مِنْ غَيْرِ حَرْفٍ، والثاني بالباءِ، وأَنَّ المَجْرُورَ هُوَ المَتْرُوكُ، والمَنْصُوبَ هوَ الحاصِلُ، ويَجُوزُ حَذْفُ الحَرْفِ، فَيَكونُ المَجْرورُ بالباءِ هُنَا هوَ "نِعْمَةَ" لأَنَّها المَتْروكَةُ. وجملةُ "بدَّلوا" صِلَةُ الاسْمِ المَوْصُولِ "الّذين" فلا مَحَلَّ لَهَا مِنَ الإعرابِ.
قولُهُ: {وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دارَ الْبَوارِ} الوَاوُ: عاطِفةٌ، و "أَحَلُّوا" فعلٌ وفاعِلُهُ مِثْلُ "بَدَّلوا". و "قَوْمَهُمْ" قَوْمَ: مَفْعولٌ بِهِ منصوبٌ أوَّلُ وهوَ مُضافٌ، والهاءُ: ضميرٌ متَّصلٌ بِهِ في محلِّ الجرِّ بالإضافةِ إليهِ، والميمُ للجمعِ المُذكَّرِ، و "دَارَ" منصوبٌ على الظَرْفيَّةِ المكانيَّةِ مُتَعَلِّقٌ بِـ "أَحَلُّوا"، وهوَ مضافٌ و " الْبَوَارِ" مجرورٌ بالإضافَةِ إِلَيْهِ، والجُملةُ مَعْطوفَةٌ عَلَى جُمْلَةِ "بَدَّلُوا" على كونِها صِلَةَ المَوْصُولِ لا مَحَلَّ لَهَا مِنَ الإعرابِ.