وَبَرَزُوا للهِ جَمِيعًا فَقَالَ الضُّعَفَاءُ لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعًا فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنَّا مِنْ عَذَابِ اللهِ مِنْ شَيْءٍ قَالُوا لَوْ هَدَانَا اللهُ لَهَدَيْنَاكُمْ سَوَاءٌ عَلَيْنَا أَجَزِعْنَا أَمْ صَبَرْنَا مَا لَنَا مِنْ مَحِيصٍ
(21)
قولُهُ ـ تَعَالى شَأْنُهُ: {وَبَرَزُوا للهِ جَمِيعًا} أَي: ظَهَرُوا أَمَامَ اللهِ جَمِيعًا، بَعْدَ أَنْ بَعَثَهمُ اللهُ تَعَالى، وَأَنْشَرَهمْ مِنْ قُبُورِهمْ وَجَمَعَهمْ يَوْمَ الحَشْرِ، فَكانُوا أَمَامَ اللهِ تَعَالى، وَقَدْ عَصَوْهُ وكذبوا بلقائهِ، وَقالُوا: {أَئِذَا كُنًا ترَابًا أَئِنّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ} الآيةَ: 5، مِنْ سُورَةِ الرَّعْدِ، وقَدْ أَشْرَكُوا بِهِ، وجَعَلُوا لهُ أَنْدادًا مِمَّا لَا نَفْعَ لهُ ولا ضَرَرَ. وبَرَزَ فِي اللُّغَةِ: مَعْنَاهُ ظَهَرَ بَعْدَ خَفَاءِ. وَمِنْهُ يُقَالُ لِلْمَكَانِ الْوَاسِعِ: الْبَرَازُ لِظُهُورِهِ، وَقِيلَ فِي قَوْلِهِ تعالى مِنْ سُورَةِ الكَهْفِ: {وَتَرَى الْأَرْضَ بارِزَةً} الْآية: 47، أَيْ ظَاهِرَةً لَا يَسْتُرُهَا شَيْءٌ، وَامْرَأَةٌ بَرْزَةٌ إِذَا كَانَتْ تَظْهَرُ لِلنَّاسِ. وَيُقَالُ: بَرَزَ فُلَانٌ عَلَى أَقْرَانِهِ إِذَا فَاقَهُمْ وَسَبَقَهُمْ، وَأَصْلُهُ فِي الْخَيْلِ إِذَا سَبَقَ أَحَدُهَا. قِيلَ: بَرَزَ عَلَيْهَا كَأَنَّهُ خَرَجَ مِنْ غِمَارِهَا فَظَهَرَ. وَالمرادُ من "برزوا" أَنَّهُمْ خَرَجُوا مِنْ قُبُورِهِمْ لِحِسَابِ اللهِ تَعالى لَهُمْ وَحُكْمِهِ عَلَيْهم، يُقَالُ: بَرَزَ لِفُلَانٍ، إِذَا ظَهَرَ لَهُ، وحَضَرَ بَيْنَ يَدَيْهِ، كَمَا يُقَالُ: ظَهَرَ لَهُ. أَوْ أَنَّهُمْ كَانُوا يَسْتَتِرُونَ مِنَ الْعُيُونِ عِنْدَ ارْتِكَابِ الْفَوَاحِشِ وَيَظُنُّونَ أَنَّ ذَلِكَ خَافٍ عَلَى اللهِ تَعَالَى، فَإِذَا كَانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ انْكَشَفُوا للهِ تَعَالَى، وَعَلِمُوا أَنَّ اللهَ لَا يَخْفَى عَلَيْهِ خَافِيَةٌ. وَأَوَّلَ الْحُكَمَاءِ ذلك بأَنَّ النَّفْسَ إِذَا فَارَقَتِ الْجَسَدَ فَكَأَنَّهُ زَالَ الْغِطَاءُ وَالْوِطَاءُ وَبَقِيَتْ مُتَجَرِّدَةً بِذَاتِهَا عَارِيَةً عَنْ كُلِّ مَا سِوَاهَا، وَذَلِكَ هُوَ الْبُرُوزُ للهِ، لأَنَّ البُروزَ بِمَعْنَى الظُهُورِ بَعْدَ خَفَاءٍ مُحَالٌ فِي حَقِّ اللهِ تَعَالَى. وَجاءَ "بَرَزُوا" بِلَفْظِ الْمَاضِي وَإِنْ كَانَ مَعْنَاهُ الِاسْتِقْبَالَ، لِأَنَّ كُلَّ مَا أَخْبَرَ اللهُ تَعَالَى عَنْهُ فَهُوَ صِدْقٌ وَحَقٌّ، فَصَارَ كَأَنَّهُ قَدْ حَصَلَ وَدَخَلَ فِي حيِّزِ الْموْجُوداتِ، وَنَظِيرُ هُذا قَوْلُهُ تعالى مِنْ سُورةِ الْأَعْرَافِ: {وَنادى أَصْحابُ النَّارِ أَصْحابَ الْجَنَّةِ} الآية: 50. و "جميعًا" إشارةٌ إِلى أَنَّهُ قدْ جَمَعَ التَّابِعَ والمَتْبوعَ والأَبْيَضَ والأَسْوَدَ، والعَرَبِيَّ والأَعْجَمِيَّ، وكانوا بَيْنَ يَدِيِ اللهِ تعالى وَحْدَهُ.
قولُهُ: {فَقَالَ الضُّعَفَاءُ لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعًا} الضُّعَفَاءُ: همْ عَوَامُّ النَّاسِ ومَساكينُهم والبُسَطاءُ وَالْأَتْبَاعُ. وَ "الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا" همُ زعماءُ الناسِ وكُبَراؤُهم والسَّادَةُ، لِأَنَّهُمْ في العادةِ يَتَكَبَّرُونَ عَلَى العَومِّ، وَكَانَ التَّكَبُّرُ دأْبَهم وشِعَارَهم. وَالسِّينُ وَالتَّاءُ في "اسْتَكْبَرُوا" لِلْمُبَالَغَةِ فِي الْكِبْرِ. وَ "تَبَعًا" التَّبَعُ: اسْمُ جَمْعٍ، وهمُ الْخَدَمُ وَالْخَوَلُ، وكلُّ مَنْ تَبِعَ السادةَ والمُتَزَعِّمينَ، وَالْفَاءُ لِتَفْرِيعِ الِاسْتِكْبَارِ عَلَى التَّبَعِيَّةِ لِأَنَّهَا سَبَبٌ يَقْتَضِي أَنْ يَشْفَعوا لَهُمْ، ويَجوزُ أَنْ يَكونَ "تَبَع" جَمْعُ "تابِع" كَ "خادِم" و "خَدَم" و "غائِب" و "غَيَب"، ويَجُوزُ أَنْ يَكونَ مَصْدَرًا، نَحْوَ: قوْمٌ عَدْلٌ، ففِيهِ ثلاثَةُ التَأْويلاتِ المَشْهُورَةِ.
وأَخْرَجَ ابْنُ جَريرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، فِي قَوْله: "فَقَالَ الضُّعَفَاءُ" قَالَ: الأَتْبَاعُ "للَّذينَ اسْتَكْبَرُوا" قَالَ: للقادَةِ.
قولُهُ: {فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنَّا مِنْ عَذَابِ اللهِ مِنْ شَيْءٍ} الْمُسْتَفْهَمَ عَنْهُ بِـ "هَلْ" كَوْنُ الْمُسْتَكْبِرِينَ يُغْنُونَ عَنْهُمْ، لَا أَصْلُ الْغَنَاءِ عَنْهُمْ، لِأَنَّهُمْ لا أَمَلَ لهم بشيءٍ مِنْ ذلك، فقد رَأَوْا آثَارَ الْغَضَبِ الْإِلَهِيِّ عَلَيْهِمْ وَعَلَى سَادَتِهِمْ، يَدُلُّ عَلى ذلك حِكَايَةُ قَوْلِ الْمُسْتَكْبِرِينَ "سَواءٌ عَلَيْنا أَجَزِعْنا أَمْ صَبَرْنا مَا لَنا مِنْ مَحِيصٍ" فَعَلِمُوا أَنَّهُمْ قَدْ غَرُّوهُمْ فِي الدُّنْيَا، فَتَعَيَّنَ أَنَّ الِاسْتِفْهَامَ مُسْتَعْمَلٌ فِي التَوْبيخِ والتَهَكُّمِ والتَبَكِيتِ، أَيْ فَأَظْهِرُوا مَكَانَتَكُمْ عِنْدَ اللهِ الَّتِي كُنْتُمْ تَدَّعُونَهَا وَتَغُرُّونَنَا بِهَا فِي الدُّنْيَا. وَنَظِيرِ هذهِ الآيةِ قولُ مِنْ سُورَةِ غَافِرٍ: {وَإِذْ يَتَحاجُّونَ فِي النَّارِ فَيَقُولُ الضُّعَفاءُ لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعاً فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنَّا نَصِيباً مِنَ النَّارِ * قالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُلٌّ فِيها إِنَّ اللهَ قَدْ حَكَمَ بَيْنَ الْعِبادِ} الآيَتان: (47) و (48). وهذا هوَ مُوجِبُ تَقْدِيمِ الْمُسْنَدِ إِلَيْهِ عَلَى الْمُسْنَدِ فِي "فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنَّا" فَإِيلَاءُ الْمُسْنَدِ إِلَيْهِ حَرْفَ الِاسْتِفْهَامِ قَرِينَةٌ عَلَى أَنَّهُ اسْتِفْهَامٌ غَيْرُ حَقِيقِيٍّ.
قولُهُ: {قَالُوا لَوْ هَدَانَا اللهُ لَهَدَيْنَاكُمْ} أَيْ: لَوْ هَدَانَا اللهُ إِلى الإيمانِ لَهَدَيناكمْ إِلَيْهِ. أَو: لَوْ هَدَانَا اللهُ إِلَى طَريقِ الجَنَّةِ لَهَدَيْناكم إِلَيْها. وقيل: المُرادُ: لَوْ نَجَّانَا اللهُ مِنَ العَذابِ لَنَجَّيْنَاكُمْ مِنْهُ.
قولُهُ: {سَوَاءٌ عَلَيْنَا أَجَزِعْنَا أَمْ صَبَرْنَا مَا لَنَا مِنْ مَحِيصٍ} قِيلَ: إِنَّهُ مِنْ كلامِ المُسْتَكْبِرينَ. وقيلَ: هوَ مِنْ كلامِ المُسْتَكْبِرينَ والضُعفاءِ مَعًا. وجاءَتْ كلٌّ جملةٍ مستقلةً من غيرِ عاطفٍ للدَلالَةِ على أَنَّ كلًّا مِنَ المَعاني مُسْتَقلٌّ بِنَفْسِهِ كافٍ في الإِخبارِ، وَالْجَزَعُ: هو حُزْنٌ مَشُوبٌ بِاضْطِرَابٍ، والجَزَعُ أَيضًا: عدمُ احتمالِ الشِّدَّةِ. ومن ذلك قولُ الشاعِرِ الجاهليِّ امْرُؤُ القَيْسِ:
جَزِعْتُ ولم أَجْزَعْ من البَيْنِ مَجْزِعًا ...... وعَزَّيْتَ قلبًا بالكواعب مُولَعا
وقال الراغبُ الأصفهانيُّ: أَصْلُ الجَزَعِ: قَطْعُ الحَبْلِ مِنْ نِصْفِهِ يُقالُ: جَزَعْتُهُ فانْجَزَعْ، ولتصَوُّرِ الانقطاعِ فيهِ قِيلَ: جَزْعُ الوادي لمُنْقَطَعِهِ، ولانقطاعِ اللونِ بتغيُّره. قيل للخرزِ المتلوِّن: جَزْعٌ، واللحمُ المُجَزَّع ما كان ذا لونين، والبُسْرَة المُجَزَّعَة أن يَبْلغَ الإِرطابُ نصفَها، والجازِع خشبةٌ تُجعل في وسط البيت تلْقى عليها رؤوس الخشب من الجانبين، وكأنه سُمِّي بذلك تَصَوُّراً لجَزَعِهِ لِما حُمِل عليه من العِبْء أو لقطعِه وسطَ البيت. والجَزَعُ أخصُّ من الحزن، فإنَّ الجَزَعَ حُزْنٌ يَصْرِف الإِنسان عمَّا هو بصددِه. وَ "الْمَحِيصُ" مَصْدَرٌ مِيمِيٌّ كَالْمَغِيبِ وَالْمَشِيبِ وَهُوَ النَّجَاةُ. يُقَال: حَاصَ عَنْهُ، أَيْ نَجَا مِنْهُ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ اسْمَ مَكَانٍ مِنْ حَاصَ أَيْضًا، أَيْ مَا لَنَا مَلْجَأٌ وَمَكَانٌ ننجو فِيهِ.
وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبي حَاتِمٍ عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، فِي قَوْلِهِ: "سَوَاءٌ عَلَيْنَا أَجَزِعْنَا أَمْ صَبَرْنَا" قَالَ: جَزِعُوا مِئَةَ سَنَةٍ وصَبَرُوا مِئَةَ سَنَةٍ.
وَأَخْرَجَ ابْنُ جَريرٍ عَنِ ابْنِ زَيْدٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، فِي الْآيَةِ قَالَ: إِنَّ أَهْلِ النَّارِ قَالَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ: تَعَالَوْا نَبْكِ وَنَتَضَرَّعَ إِلَى اللهِ تَعَالَى فَإِنَّمَا أَدْرَكَ أَهْلُ الْجَنَّةِ الْجَنَّةَ بِبُكائهمْ وَتَضَرُّعِهمْ إِلَى اللهِ، فَبَكَوْا فَلَمَّا رَأَوْا ذَلِك لَا يَنْفَعَهُمْ قَالُوا: تَعَالَوْا نَصْبِرْ فَإِنَّمَا أَدْرَكَ أَهْلُ الْجَنَّةِ الْجَنَّةَ بِالصَّبْرِ، فَصَبَروا صَبْرًا لَمْ يُرَ مِثْلُهُ، فَلَمْ يَنْفَعْهُمْ، فَعِنْدَ ذَلِك قَالُوا: "سَوَاءٌ عَلَيْنَا أَجَزِعْنَا أَمْ صَبَرْنَا مَا لَنَا مِنْ مَحِيصٍ".
وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبي حَاتِمٍ، وَالطَّبَرَانِيُّ وَابْنُ مِرْدُوَيْهِ عَنْ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، رَفَعَهُ إِلَى النَّبِيِّ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فِيمَا أَحْسَبُ، فِي قَوْله تعالى: "سَوَاءٌ عَلَيْنَا أَجَزِعْنَا أَمْ صَبَرْنَا مَا لَنَا مِنْ مَحِيصٍ" قَالَ: يَقُولُ أَهْلُ النَّارِ: هَلُمُّوا فَلْنَصْبِرْ، فيَصْبِرونَ خَمْسَمِئَةِ عَامٍ، فَلَمَّا رَأَوْا ذَلِك لَا يَنْفَعُهُمْ، قَالُوا: هَلُمُّوا فَلْنَجْزَعْ، فَيَبْكونَ خَمْسَمِئَةِ عَامٍ، فَلَمَّا رَأَوْا ذَلِكَ لَا يَنْفَعُهُمْ، قَالُوا: "سَوَاءٌ عَلَيْنَا أَجَزِعْنَا أَمْ صَبَرْنَا مَا لَنَا مِنْ مَحِيصٍ". والمَحيصُ: يكون مصدرًا ويكون مكانًا. وأَيضًا يُقالُ: جاض بالضاد المعجمة وجَيْضًا، بها وبالجيم.
وقَالَ مُقَاتِلٌ: يَقُولُونَ فِي النَّارِ تَعَالَوْا نَجْزَعُ فَيَجْزَعُونَ خَمْسَمِئَةِ عَامٍ فَلَا يَنْفَعُهُمُ الْجَزَعُ، ثُمَّ يَقُولُونَ: تَعَالَوْا نَصْبِرُ فيصبرون خمسمئة عام فلا بنفعهم الصبر، فَحِينَئِذٍ يَقُولُونَ سَواءٌ عَلَيْنا أَجَزِعْنا أَمْ صَبَرْنا مَا لَنا مِنْ مَحِيصٍ.
قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ كَعْبٍ الْقُرَظِيُّ: بَلَغَنِي أَنَّ أَهْلَ النَّارِ استغاثوا بالخزنة، كما قال تَعَالَى في سورةِ غافر: {وَقالَ الَّذِينَ فِي النَّارِ لِخَزَنَةِ جَهَنَّمَ ادْعُوا رَبَّكُمْ يُخَفِّفْ عَنَّا يَوْمًا مِنَ الْعَذابِ} الآية: 49، فرَدَّتِ الخَزَنَةُ عليهم: {أَوَلَمْ تَكُ تَأْتِيكُمْ رُسُلُكُمْ بِالْبَيِّناتِ قالُوا بَلى} الآية: 50، من ذات السورة. فردت الخزنة عليهم: {قَالُوا: فَادْعُوا وَما دُعاءُ الْكافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلالٍ} الآية: 50، من ذات السورة، فَلَمَّا يَئِسُوا مِمَّا عِنْدَ الْخَزَنَةِ نَادَوْا: {يَا مالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنا رَبُّكَ} الآية: 77، مِن سورةِ الزُّخْرُفِ، سَأَلُوا الْمَوْتَ فَلَا يُجِيبُهُمْ ثمانين سَنَةً والسنَةُ ثلاثمِئةٍ وستون يَوْمًا وَالْيَوْمُ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ، ثُمَّ لَحَظَ إِلَيْهِمْ بَعْدَ الثمانين {إِنَّكُمْ ماكِثُونَ} سورة الزخرف، الآية: 77، فلما أَيِسوا مِمَّا قَبْلَهُ قَالَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ إِنَّهُ قَدْ نَزَلَ بِكُمْ مِنَ الْبَلَاءِ مَا تَرَوْنَ فَهَلُمُّوا فَلْنَصْبِرْ فَلَعَلَّ الصَّبْرَ يَنْفَعُنَا كَمَا صَبَرَ أَهْلُ الدُّنْيَا عَلَى طَاعَةِ اللهِ فَنَفَعَهُمْ، فَأَجْمَعُوا عَلَى الصَّبْرِ فَطَالَ صَبْرُهم، ثم جَزِعُوا، فطال جزعهم، فَنَادَوْا "سَواءٌ عَلَيْنا أَجَزِعْنا أَمْ صَبَرْنا مَا لَنا مِنْ مَحِيصٍ"، أيْ: مِنْ مَنْجاة.
قولُهُ تعالى: {وَبَرَزُوا للهِ جَمِيعًا} الواو: للاسْتِئْنافِ، و "بَرَزُوا" فعلٌ ماضٍ مبنيٌّ على الضمِّ لاتِّصالِهِ بواوِ الجماعةِ، وواوُ الجماعةِ ضميرٌ متَّصلٌ مبنيٌّ على السُّكونِ في محلِّ الرفعِ فاعلٌ، والألفُ فارقٌ، والجُملةُ مُسْتَأْنَفَةٌ لا مَحَلَّ لها مِنَ الإعرابِ. و "للهِ" اللامُ: حرفُ جرٍّ مُتَعَلِّقٌ بِـ "بَرَزُوا". واسْمُ الجلالةِ "اللهُ" في محلِّ الجرِّ بحرفِ الجرِّ، و "جَمِيعًا" منصوبٌ على الحالِ مِنْ فاعِلِ "بَرَزُوا".
قولُهُ: {فَقَالَ الضُّعَفَاءُ لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا} الفَاءُ: حَرْفُ عَطْفٍ وتَرْتيبٍ، و "قالَ" فعلٌ ماضٍ مبنيٌّ على الفتحِ، و "الضُعَفاءُ" فاعِلُهُ مَرفوعٌ بِهِ، و "لِلَّذِينَ" حرفُ جرٍّ مُتَعَلِّقٌ بِـ "قَالَ"، و "الذينَ" اسْمٌ موصولٌ مبنيٌّ على الفتحِ في محلِّ الجرِّ بحرفِ الجرِّ. والجُمْلَةُ مَعْطوفةٌ عَلَى جُمْلَةِ "بَرَزُوا". و "اسْتَكْبَرُوا" فِعْلٌ ماضٍ مبنيٌّ على الضمِّ لاتِّصالِهِ بواوِ الجماعةِ، وواوُ الجماعةِ ضميرٌ متَّصلٌ مبنيٌّ على السُّكونِ في محلِّ الرفعِ فاعلٌ، والأَلِفُ للتفريقِ، وهذه الجُملةُ الفعليَّةُ صِلَةُ الاسْمِ الموصولِ "الذين" لا محلَّ لها مِنَ الإعرابِ.
قولُهُ: {إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعًا} إِنَّا: "إنَّ" حرفٌ ناصِبٌ ناسِخٌ مُشَبَّهٌ بالفعلِ يفيدُ التوكيدَ، و "نا" ضميرٌ متَّصلٌ بهِ مبنيٌّ على السكونِ في محلِّ النَّصْبِ اسُمُهُ. و "كُنَّا" فِعْلٌ ماضٍ ناقصٌ مبنيٌّ على السكونِ لاتِّصالِهِ بضميرِ رفعٍ متحرِّكٍ هو "نا" الجماعةِ، و "نا" ضميرٌ متَّصلٌ بهِ مبنيٌّ على السكونِ في محلِّ الرفعِ اسْمُ "كانَ". و "لَكُمْ" حرفُ جَرٍّ مُتَعَلِّقٌ بِما بَعْدَهُ، وكافُ الخطابِ ضميرٌ متَّصلٌ بهِ في محلّ الجرِّ بحرف الجرِّ، والميمُ للجمعِ المُذكَّرِ. و "تَبَعًا" خَبَرُ "كان"، وجُمْلَةُ كانَ فِي مَحَلِّ الرَّفْعِ خَبَرُ "إنَّ"، وجُمْلَةُ "إنَّ" في مَحَلِّ النَّصْبِ مَقولُ "قال".
قولُهُ: {فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنَّا مِنْ عَذَابِ اللهِ مِنْ شَيْءٍ} الفاءُ طططططططىىىىطىىىطىطىط: حَرْفُ عَطْفٍ وتَفْريعٍ للدَّلالةِ عَلى سَبَبِيَّةِ الإتِّباعِ للاعْتِناءِ. و "هلْ" للاسْتِفْهامِ التَوبْيخيِّ. و "أَنْتُمْ" ضميرٌ منفصِلٌّ مبنيٌّ على السكونِ في محلِّ الرفعِ بالابتداءِ، و "مُغْنُونَ" خَبَرُهُ مرفوعٌ، وعلامةُ رفعِهِ الواوُ لأنَّهُ جمع المذكَّرِ، والنونُ عِوَضٌ عنِ التنوينِ في الاسْمِ المُفردِ، والجُملَةُ الاسْمِيَّةُ في مَحَلِّ النَّصْبِ عطْفًا عَلى الجُمْلةِ التي قَبْلَها عَلى كَوْنِها مَنصوبةً بالقولِ. و "عَنَّا" و "عَنْ" حرفُ جَرٍّ مُتَعَلِّقٌ بِالخَبَرِ "مُغْنُونَ"، و "نا" ضميرٌ متِّصلٌ بِهِ مبنيٌّ على السكونِ في محلِّ الجرِّ بحرفِ الجرِّ. و "مِنْ" حرفُ جرٍّ مُتَعَلِّقٌ بِمَحذوفِ حالٍ مِنْ "شَيْءٍ" لأَنِّهُ صِفَةُ نَكِرَةٍ قُدِّمَتْ عَلَيْها. وقيلَ هيَ بَدَلِيَّةٌ هُنَا، أَيْ غَنَاءً بَدَلًا عَنْ عَذَابِ اللهِ. و "عَذَابِ" مجرورٌ بحرفِ الجرِّ مُضافٌ، واسمُ الجلالةِ "اللهِ" مَجرورٌ بالإضافَةِ إِلَيْهِ و "مِنْ" حرفُ جرٍّ زائدٍ. و "شَيْءٍ" مجرورٌ لفظًا بحرفِ الجرِّ الزائدِ، منصوبٌ محلًّا على أنَّهُ مفعولُ "مُغْنُونَ" لأنَّهُ اسْمُ فاعِلٍ يَعْمَلُ عَمَلَ الفَصيحِ الصَّحيحِ.
وقالَ أبو القاسِمِ الزَّمَخْشَرِيُّ: في "مِنْ" مِنْ قوْلِهِ: "مِنْ عَذَابِ اللهِ مِنْ شَيْءٍ" أَوجهٌ:
أَحَدُها: أَنَّ: "مِنْ" الأُولى للتَّبْيينِ، والثانِيَةَ للتَّبْعيضِ، تَقْديرُهُ: مُغْنُون عَنَّا بَعْضَ الشَّيْءِ الذي هوَ عَذابُ اللهِ. قالَ الشَّيْخُ أَبو حيَّانَ الأندلُسِيُّ: هذَا يَقْتَضي التَّقديمَ في قوْلِهِ: "مِن شَيْءٍ" عَلى قولِهِ: "مِنْ عَذَابِ الله" لأّنَّهُ جَعَلَ "مِن شَيْءٍ" هوَ المُبَيِّنَ بِقَوْلِهِ "مِنْ عَذابِ"، و "مِنْ" التَبْيِينِيَّةُ مُقدَّمٌ عَلَيْها مَا تُبَيِّنُهُ ولا يَتَأَخَّرُ. قالَ السمينُ: كلامُ الزَمَخْشَرِيِّ صَحيحٌ مِنْ حَيْثُ المَعْنَى، فإنَّ "مِنْ عَذَابِ اللهِ" لَوْ تَأَخَّرَ عَنْ "شيء" كانَ صِفَةً لَهُ ومُبَيِّنًا، فَلَمَّا تَقَدَّمَ انْقَلَبَ إِعْرابُهُ مِنَ الصِّفَةِ إِلى الحالِ، وأَمَّا مَعْنَاهُ، وهوَ البَيانُ، فَبَاقٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ.
ثانيها: قالَ الزَّمَخْشَرِيُّ أَيضًا: أَنْ تَكُونَا معًا للتَبْعيضِ، بِمَعْنَى: هَلْ أَنْتُمْ مُغْنُوْنَ عَنَّا بَعْضَ شَيْءٍ هوَ بَعْضُ عَذابِ اللهِ؟ أَيْ: بَعْضَ عَذابِ اللهِ، فردَّ الشيْخُ أبو حيَّانَ: وهذا يَقتضي أَنْ يَكونَ بَدَلًا، فيكونَ بدلَ عامٍّ مِنْ خاص، وهذا لا يُقال؛ فإنَّ بَعْضِيَّةِ الشَّيْءِ مُطْلَقَةٌ، فَلا يَكونُ لَهَا بَعْضٌ. قالَ السمينُ الحلبيُّ: لا نِزَاعَ أَنَّهُ يُقالُ: بَعْضُ البَعْضِ، وَهِيَ عِبَارَةٌ مُتَدَاوَلَةٌ، وذَلِكَ البَعْضُ المُتَبَعِّضُ هوَ كُلٌّ لأَبْعاضِهِ، بَعْضٌ لِكُلِّهِ، وهَذا كالجِنْسِ المُتَوَسِّطِ هوَ نَوْعٌ لِمَا فوْقَهُ، جِنْسٌ لِما تَحْتَهُ.
الثالثُ: أَنَّ "مِنْ" في قولِهِ: "مِن شَيْءٍ" مَزيدَةٌ، و "مِنْ" في قولِهِ: "مِنْ عَذَابِ" فيها وَجْهَانِ كما تقدَّمَ أَعْلاهُ، الأَوَلُ: أَنْ تَتَعَلَّقَ بِمَحْذوفٍ، لأَنَّها في الأَصْلِ صِفَةٌ لِشَيْءٍ، فَلَمَّا تَقَدَّمَتْ نُصِبَتْ عَلَى الحالِ. والثاني: أَنْ تتعلَّقَ بِنَفْسِ "مُغْنُوْنَ" عَلَى أَنْ يَكونَ "مِنْ شَيْءٍ" واقعًا مَوْقِعَ المَصْدَرِ، أَيْ: غِنَى. وَهَذَا يُوضِحُ مَا قالَهُ العُكْبُريُّ أَبو البَقاءِ، قال: و "مِنْ" زائدَةٌ، أَيْ: شَيْئًا كائنًا مِنْ عَذابِ اللهِ، ويَكونُ مَحْمُولًا عَلَى المَعْنَى والتَقديرُ: هَلْ تَمْنَعونَ عَنَّا شَيْئًا؟. ويَجوزُ أَنْ يَكونَ "شَيْءٌ" واقعًا مَوْقِعَ المَصْدَرِ، أَيْ: غِنَى، فَيَكُونُ "مِنْ عَذَابِ اللهِ" مُتَعَلِّقًا بـ "مُغْنُوْن". وَقَالَ الحُوفِيُّ أَيْضًا و "مِنْ عَذَابِ اللهِ" مُعْتَلٌّ بـ "مُغْنُون"، وَ "مِنْ" في "مِنْ شَيْءٍ" لاسْتِغْراقِ الجِنْسِ زَائدةٌ للتَوْكِيدِ. وَ "مِنْ" فِي قَوْلِهِ: مِنْ شَيْءٍ مَزِيدَةٌ لِوُقُوعِ مَدْخُولِهَا فِي سِيَاقِ الِاسْتِفْهَامِ بِحَرْفِ هَلْ. وشَيْءٍ فِي مَعْنَى الْمَصْدَرِ، وَحَقُّهُ النَّصْبُ عَلَى أَنَّهُ مَفْعُولٌ مُطْلَقٌ فَوَقَعَ جَرُّهُ بِحَرْفِ الْجَرِّ الزَّائِدِ. وَالْمَعْنَى: هَلْ تُغْنُونَ عَنَّا شَيْئًا.
قولُهُ: {قَالُوا لَوْ هَدَانَا اللهُ لَهَدَيْنَاكُمْ} قَالُوا: فِعْلٌ ماضٍ مبنيٌّ على الضمِّ لاتِّصالِهِ بواوِ الجماعةِ، وواوُ الجماعةِ ضميرٌ متَّصلٌ بِهِ مبنيٌّ على السكونِ في محلِّ رفعِ فاعِلِهِ، والأَلِفُ للتَفْريقِ، والجُمْلَةُ مُسْتَأْنَفَةٌ لا مَحَلَّ لها مِنَ الإعرابِ. و "لَوْ" حَرْفُ شَرْطٍ غَيْرُ جازِمٍ. و "هَدَانَا" فِعْلٌ ماضٍ مبنيٌّ عَلَى الفَتْحِ المُقَدَّرِ عَلَى آخِرِهِ لِتَعَذُّرِ ظهورِهِ على الأَلِفِ، و "نا" ضميرٌ متَّصلٌ بِهِ مبنيٌّ على السكونِ في محلِّ النَّصْبِ مفعولٌ بِهِ، واسْمُ الجلالةِ "اللهُ" فاعِلُهُ مَرْفوعٌ بِهِ، والجُمْلَةُ فِعْلُ شَرْطِ "لَوْ" فلا محلَّ لَهَا مِنَ الإعراب. و "لَهَدَيْنَاكُمْ" اللامُ: رابِطَةٌ لِجَوابِ "لَوْ". و "هَدَيْنَاكُمْ" فِعْلٌ ماضٍ مبنيٌّ على السكونِ لاتَّصالِهِ بضميرِ رفعٍ متحرِّكٍ هو "نا" و "نا" ضميرٌ متَّصلٌ بِهِ مبنيٌّ على السكونِ في محلِّ رفعِ فاعِلِهِ، وكافُ الخطابِ ضميرٌ متَّصلٌ بِهِ في محلِّ نَصْبِ مَفْعولِهِ، والميمُ علامةُ جمعِ المُذكَّرِ، والجُمْلَةُ الفِعْلِيَّةُ هذه جَوابُ شرطٍ لـ "لَوْ" فَلا مَحَلَّ لَهَا مِنَ الإعْرابِ، وجُمْلَةُ "لَوْ" الشَّرْطِيَّةِ منْ فعلِ شَرْطِها وجوابِها، في مَحَلِّ النَّصْبِ مَقولُ قولٍ لـ "قَالُوا".
قولُهُ: {سَوَاءٌ عَلَيْنَا أَجَزِعْنَا أَمْ صَبَرْنَا} سَوَاءٌ: خَبَرٌ مُقَدَّمٌ لِمُبْتَدَأٍ مُتَصَيَّدٍ مِنَ الجُمْلَةِ التي بَعْدَها. و "عَلَيْنَا" على: حَرْفُ جَرٍّ مُتَعَلِّقٌ بِـ "سواءٌ" لأَنَّهُ بِمَعْنَى "مُسْتَوٍ" و "نا" ضميرٌ متَّصلٌ بهِ مبنيٌّ على السكونِ في محلِّ الجرِّ بحرفِ الجَرِّ. و "أَجَزِعْنَا" الهَمْزَةُ: حرفٌ مَصْدريٌّ لِتَأْكِيدِ والتَسْوِيَةِ. و "جَزِعْنَا" فِعْلٌ ماضٍ مبنيٌّ على السكونِ لاتِّصالِهِ بضميرِ رفعٍ متحرِّكٍ، و "نا" ضميرٌ متَّصلٌ بِهِ في محلِّ الرفعِ على الفاعليَّةِ. و "أَمْ" للعَطْفِ. و "صَبَرْنَا" مثلُ "جَزِعْنَا" معطوفٌ عليهِ، وجُمْلَةُ "جَزِعْنَا" مَعَ مَا عُطِفَ عَلَيْهِ: في تَأْويلِ مَصْدَرٍ مَرْفوعٍ عَلى كَوْنِهِ مُبْتَدَأً مُؤَخَّرًا لِـ "سَوَاءٌ" والتَقديرُ: جَزَعُنَا وَصَبْرُنا مُسْتَوٍ عَلَيْنَا، والجُمْلَةُ في مَحَلِّ النَّصْبِ بـ "قَالُوا".
قولُهُ: {مَا لَنَا مِنْ مَحِيصٍ} "مَا" حِجازِيَّةٌ مبنيَّةٌ على السكونِ في محلِّ الرفعِ بالابْتِداءِ، أَوْ تَمِيَّمِيَّةٌ. و "لَنَا" اللامُ: حَرْفُ جَرٍّ مُتَعلِّقٌ بِخَبَرٍ مُقَدَّمٍ لِـ "مَا"، أو للمُبْتَدَأِ، و "نا" ضميرٌ متَّصلٌ بِهِ مبنيٌّ على السكونِ في محلِّ الجَرِّ بحرفِ الجرِّ. و "مِنْ" حرفُ جَرٍّ زائدٍ. و "مَحِيصٍ" مجرورٌ لفظًا بحرفِ الجرِّ الزائدِ، مرفوعٌ محلًا على أنَّهُ مبتدأٌ مُؤَخَرٌ، أَوِ اسْمُ "مَا" المُؤَخَّرُ، والتَقْديرُ: مَا مَحيصٌ كائنٌ لَنَا، أَوْ كائنًا لَنَا.