َلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ
(19)
قولُهُ ـ تَعَالى شَأْنَهَ: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ} بِمَا أَنَّهُ ـ جَلَّ وعَزَّ، أَخْبَرَ في الآياتِ الثلاثِ السَّابِقاتِ عَمَّا أَعَدَّه للكافرينَ مِنْ عذابٍ في الآخرةِ، فقد أتى بهذه الآيةِ الكريمةِ بعدها ببرهانٍ على أَنَّه قادرٌ على ذلك، لأنَّ الكفرةَ يشكَّونَ في قدرتِهِ تعالى على جمعهم بعد أَن تبلى أجسادهم وتبدَّدَ، كما أخبر هنهم في الآيةِ: 78، مِنْ سُورَةِ (يَس) فقال: {وَضَرَبَ لَنَا مَثَلًا وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِ الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ} وردَّ عليهم على شبهتهم هذه هناكَ في الآيةِ التي تليها فقالَ: {قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ} الآية: 79، منْ سورةِ (يس). أمَّا هنا فقد جاءَ بِبُرْهانٍ مُفْحِمٍ آخَرَ، لِمَا قَدْ يَسْتَعْظِمونَهُ مِنْ خَلْقِهم مَرةً ثانيةً ليُحاسِبَهم عَلَى مَا اقْتَرَفُوهُ ويُعَذِّبَهم عَلَى كُفْرِهمْ وعِصْيانِهم.
فالخِطَابُ للرَسُولِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، يُخْبِرُهُ فِيهِ عَنْ عظيمِ قُدْرَتِهِ عَلَى إِعَادَةِ خَلْقِ الأَبْدَانِ يَوْمَ القِيَامَةِ، والمُرادُ بِهذا الخِطابِ أُمَّتُهُ ـ عليهِ صلاةُ اللهِ وَسَلامُهُ، الذينَ بُعِثَ إِلَيْهم، وَقِيلَ: هوَ خِطابٌ للكَفَرَةِ خاصَّةً لِقَوْلِهِ فيهِ: "إِن يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ" أي: يُعْدمكم.
وقد رَتَّبَ قُدْرَتَهُ تَعَالى عَلَى ذَلِكَ عَلَى قُدْرَتِهِ عَلَى خَلْقِ السَّمَواتِ والأَرْضِ عَلى هَذَا النَمَطِ البَديعِ إِرْشادًا إِلى طَريقِ الاسْتِدْلالِ، فإنَّ مَنْ قَدَرَ عَلَى خَلْقِ مِثْلِ ها تيكَ الأَجْرامِ العَظيمةِ كانَ عَلى تَبْديلِ خَلْقٍ آخَرَ بِهِمْ أَقْدَرَ.
والرُّؤْيةُ هُنَا في قولِهِ "أَلَمْ تَرَ" رُؤْيَةٌ قَلْبِيَّةٌ، رؤيةُ بَصَرٍ وبَصِيرةٍ، فإنَّ اللهَ تَعَالى خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ بِالحِكْمَةِ عَلَى أَكْمَلِ صُورَةٍ، وَأَحْسَنِ خَلْقٍ، وَهِيَ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ الإِنْسَانِ، فإنَّ مَنْ يَنْظُرْ ويُعْمِلْ فِكْرَهُ في هَذا الخَلْقِ العَظيمِ العَجيبِ يَعْلَمْ حَقَّ العِلْمِ أَنَّ الذِي قَدِرَ عَلَى خَلْقِ كُلِّ مَا فِي هَذا الكَوْنِ العَظِيمِ مِنْ مَخْلُوقَاتٍ، قَادِرٌ عَلَى إِعَادَةِ خَلْقِ البَشَرِ مِنْ جَدِيدٍ يَوْمَ القِيَامَةِ؟ وقادرٌ عَلَى تَعْذيبِهمْ بِمَا يَشَاءُ مِنْ شَديدِ العَذابِ.
قولُهُ: {إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ} إِنَّ اللهَ قَادِرٌ عَلَى أَنْ يُهْلِكَ النَّاسَ إَنْ شَاءَ، وَعَلَى أَنْ يَأْتِي بِخَلْقٍ جَدِيدٍ غَيْرَهُمْ.
قولُهُ تَعَالى: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ} أَلَمْ: الهمزة: للاسْتِفْهامِ التَقْريريِّ. و "لم" حَرْفُ نَفْيٍ وجَزْمٍ وقلبٍ. و "تَرَ" فِعْلٌ مُضارِعٌ مَجْزومٌ بِـ "لم" وعَلامَةُ جَزْمِهِ حَذْفُ حَرْفِ العِلَّةِ مِنْ آخرِهِ، وفاعلُهُ ضَميرٌ مُسْتترٌ فيهِ وُجوبًا تقديرُهُ (أنت) يَعودُ عَلَى سيِّدِنا مُحَمَّدٍ ـ صلّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ، أَوْ عَلَى كلِّ مَنْ هو أهلٌ للخطابِ، والجُملةُ مُسْتَأْنَفَةٌ لا مَحَلَّ لها مِنَ الإعرابِ. و "أَنَّ حرفٌ ناصبٌ ناسِخٌ مُشَبَّهٌ بالفعلِ للتوكيدِ، ولفظُ الجلالةِ " اللهَ" اسُمُهُ منصوبٌ بِهِ. و "خَلَقَ" فعلٌ ماضٍ مبنيٌّ على الفتحِ، وفاعِلُهُ ضَمِيرٌ مُسْتترٌ فيهِ جوازًا تقديرُهُ (هو) يَعودُ عَلى "اللهَ" تعالى. و "السَّمَاوَاتِ" مَفْعُولٌ بِهِ منصوبٌ وعلامةُ نَصْبِهِ الكَسْرَةُ نِيابَةً عَلى الفَتْحَةِ لأَنَّهُ جمع المُؤنَّثِ السَّالمُ. و "وَالْأَرْضَ" حرفُ عطْفٍ ومعْطوفٌ عَلَى "السَّمَاوَاتِ" منصوبٌ مثلُهُ. و "بِالْحَقِّ" الباء: حرفُ جَرٍّ مُتَعَلِّقٌ بِـ "خَلَقَ"، أَوْ بحالٍ مِنْ الفاعِلِ في "خَلَقَ"، أُوْ مِنَ المَفْعُولِ؛ أَيْ: حَالَ كَوْنِهِ مُتَلَبِّسًا بالحَقِّ، و "الحقِّ" مَجْرورٌ بِحَرْفِ الجَرِّ، وجُملةُ "خَلَقَ" في مَحَلِّ الرَّفْعِ خَبَرُ "أَنَّ"، وجُملةُ "أَنَّ" فِي تَأْويلِ مَصْدَرٍ سَادٍّ مَسَدَّ مَفْعولَيْ "رَأَى".
قولُهُ: {إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ} إِنْ: حرفٌ شرطٍ جازِمٌ، و "يَشَأْ" فِعْلٌ مَجْزومٌ بِـ "إنْ" عَلَى كَوْنِهِ فِعْلَ شَرْطٍ لِـ "إِنْ" الشَّرْطِيَّةِ، وفاعِلُهُ ضَميرٌ مُسْتترٌ فيهِ جوازًا تقديرُهُ (هو) يَعودُ عَلى "اللهَ" تعالى. و "يُذْهِبْكُمْ" فِعْلٌ مضارعٌ مَجزومٌ عَلى كَوْنِهِ جَوابَ الشَّرْطِ، وفاعِلُهُ ضميرٌ مُسْتترٌ فيهِ تقديرُهُ (هو) يَعودُ عَلَى "اللهَ" تعالى، وجُمْلَةُ "إنْ" الشَرْطِيَّةِ: مُسْتَأْنَفَةٌ لا محلَّ لها مِنَ الإعراب. و "وَيَأْتِ" فِعْلٌ مُضَارِعٌ مجزومٌ عطفًا "يُذْهِبْكم" وعلامةُ جزْمِهِ حذْفُ العلَّةِ مِنْ آخِرِهِ وفاعِلُهُ ضميرٌ مُسْتترٌ فيهِ تقديرُهُ (هو) يَعودُ عَلَى "اللهَ" تعالى، وكافُ الخطابِ: ضميرٌ متَّصلٌ بِهِ في محلِّ رفعِ مفعولِهِ، والميمُ: علامةُ جمعِ المذكَّرِ. و "بِخَلْقٍ" الباءُ: حرفُ جرٍّ مُتَعَلِّقٌ بِـ "يَأْتِ"، و "خلقٍ" مجرورٌ بحرفِ الجرِّ. و "جَدِيدٍ" صِفَةٌ لِـ "خَلْقٍ" مجرورةٌ مِثْلهُ. و "وَمَا" الواوُ: للعِطْفِ، و "ما" حِجازِيَّةٌ، أَوْ تَميمِيَّةٌ. و "ذَلِكَ" ذا: اسمُ إِشارةٍ مبنيٌّ على السكونِ في محلِّ النَّصْبِ، اسْمُهَا، إنْ كانت حجازيَّةً، أَوْ في محلِّ الرفعِ بالابْتِداءِ إنْ أُعرِبتْ تميميَّةً، واللامُ للبُعْدِ، والكافُ للخطابِ. و "عَلَى" حرفُ جَرٍّ مُتَعَلِّقٌ بِـ "عَزِيزٍ" ولَفْظُ الجلالةِ "اللهِ" اسْمٌ مَجْرورٌ بحرْفِ الجَرِّ. و "بِعَزِيزٍ" الباء: حرفُ جرٍّ زائدٌ، و "عزيزٍ" مجرورٌ لَفظًا بحرفِ الجرِّ الزائدِ، مرفوعٌ محلًا على أنَّهُ خبرٌ "ما" الحجازيَّةِ، أو خَبَرُ المبتدَأِ إنْ كانتْ "ما" تَميمِيَّةً، والجُمْلَةُ الاسْمِيَّةُ مُسْتَأْنَفَةٌ لا مَحَلَّ لها مِنَ الإعراب.