فيضُ العليم ... سورة يوسُف، الآية: 110
حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جَاءَهُمْ نَصْرُنَا فَنُجِّيَ مَنْ نَشَاءُ وَلَا يُرَدُّ بَأْسُنَا عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ (110)
قولُهُ ـ جَلَّ شأْنُهُ: {حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ} اسْتَيْأَسَ: مُبَالَغَةٌ في (يَئِسَ)، وَقدْ آذَنَ حَرْفُ الْغَايَةِ "حتَّى" بِمَعْنًى مَحْذُوفٍ دَلَّت عَلَيْهِ جُمْلَةُ: {وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجالًا} منَ الآيةِ السابقةِ، بِمَا قُصِدَ بِهَا مِنْ مَعْنَى قَصْدِ الْأُسْوَةِ بِسَلَفِهِ مِنَ المُرسلينَ ـ عَلَيْهِمُ أَجْمَعينَ أَفضلُ الصلاةِ وأتمُّ التَسْليمِ، أَيْ: وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ يَا مُحَمَّدُ إِلَّا رِجَالًا ثُمَّ لَمْ نُعَاقِبْ أُمَمَهُمْ بِالْعَذَابِ، حَتَّى إِذَا يَئِسَ الرُّسُلُ مِنْ إِيمَانِ قَوْمِهِمْ. فَحَسُنَ أَنْ تَدْخُل "حتّى" في قولِهِ: "حتى إذا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ" لِهَذا المُضَمَّنِ. فَإِنَّ "إِذَا" اسْمُ زَمَانٍ مُضَمَّنٌ مَعْنَى الشَّرْطِ فَهُوَ يَلْزَمُ الْإِضَافَةَ إِلَى جُمْلَةٍ تُبَيِّنُ الزَّمَان، وَجُمْلَة "اسْتَيْأَسَ" مُضَافٌ إِلَيْهَا "إِذَا"، وَجُمْلَةُ "جاءَهُمْ نَصْرُنا" جَوَابُ "إِذَا" لِأَنَّ هَذَا التَّرْتِيبَ فِي الْمَعْنَى هُوَ الْمَقْصُودُ مِنْ جَلْبِ "إِذَا" فِي مِثْلِ هَذَا التَّرْكِيبِ. أَيْ: فَدَامَ تَكْذِيبُهُمْ وَإِعْرَاضُهُمْ وَتَأَخَّرَ تَحْقِيقُ مَا أَنْذَرُوهُمْ بِهِ مِنَ الْعَذَابِ حَتَّى اطْمَأَنُّوا بِالسَّلَامَةِ وَسَخِرُوا بِالرُّسُلِ وَأَيِسَ الرُّسُلُ مِنْ إِيمَانِ قَومِهمْ. فإنَّ ثَمَّةَ مَحْذوفٌ هُنَا هَذِهِ غايَتُهُ، وتقديرُ الكلامِ عندَ أَبِي الفَرْجِ بْنِ الجَوْزِيِّ: ومَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجالًا، فَدَعَوْا قَوْمَهُمْ، فَكَذَّبوهمْ، وصَبَرُوا، وطالَ دُعاؤُهمْ، وتَكْذِيبُ قَوْمِهِمْ، حَتَّى إِذا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ. وتقديرُهُ عندَ القُرْطُبِيِّ: ومَا أَرْسَلْنَا مِنْ قبلِكَ إِلَّا رِجالًا، ثمَّ لَمْ نُعاقِبْ أُمَمَهمْ، حَتَّى إذا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ. ولَعَلَّ الأَنْسَبَ أَنْ يكونَ التقديرُ: لا يَغُرَّنَ هؤلاءِ المُشركينَ الذينَ كذَّبوا رُسُولَ ربِّهم، وأَمْهلَهمْ رَبُّهم فأَخَّرَ عَذابَهم وتَمَادوا في باطِلِهم وما هُمْ فِيهِ مِنَ الدَّعَةِ والرَّخاءِ، فإنَّ مَنْ قَبْلَهمْ قَدْ أُمْهِلُوا حَتَّى يَئِسَ الرُّسُلُ مِنْ إِيمانِهمْ.
قولُهُ: {وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جَاءَهُمْ نَصْرُنَا} أَيْ: وَظَنَّ المرسلونَ أَنَّهُمْ قَدْ كُذِّبُوا بِالتَّشْدِيدِ، أَيْ أَيْقَنُوا أَنَّ قَوْمَهُمْ كَذَّبُوهُمْ. وَقِيلَ الْمَعْنَى: حَسِبُوا أَنَّ مَنْ آمَنَ بِهِمْ مِنْ قَوْمِهِمْ كَذَّبُوهُمْ، لَا أَنَّ الْقَوْمَ كَذَّبُوا، وَلَكِنَّ الْأَنْبِيَاءَ ظَنُّوا وَحَسِبُوا أَنَّهُمْ يُكَذِّبُونَهُمْ، أَيْ خَافُوا أَنْ يَدْخُلَ الشّكُّ قُلُوبَ أَتْبَاعِهِمْ، فَيَكُونُ "وَظَنُّوا" عَلَى بَابِهِ فِي هَذَا التَّأْوِيلِ، وقِيلَ المَعْنَى: وَظَنَّ المُرْسَلُ إِلَيْهِمْ أَنَّ الرُّسَلَ قَدْ كَذَبَهمْ مَنِ ادَّعَوْا أَنَّهُ جَاءَهمْ بالوَحْيِ عَنِ اللهِ وبِنَصْرِهِمْ، إِذْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَصلًا. وعَلَيْهِ فيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ الضَّمائرُ الثَلاثَةُ جميعًا عائدَةً عَلَى المُرْسَلِ إِلَيْهِمْ، أَيْ: وَظَنَّ المُرْسَلُ إليهمْ أَنَّ الرُّسُلَ قَدْ كَذَبَتْهمْ فيما ادَّعَوْهُ مِنَ النُّبُوَّةِ، وفِيما تَوَعَّدوا بِهِ مَنْ لَمْ يُؤْمِنَ مِنْ عَذابٍ. وهَذَا هو المَشْهورُ منْ قوْلِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وعَبْدِ اللهِ بْنِ مسعودٍ، وابْنِ جُبَيْرٍ، ومُجاهِدٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهمْ جَميعًا. ولا يَجُوزُ أَنْ تَكونَ الضَّمائرُ عائدَةً عَلَى الرُّسُلِ، لأَنَّهم مَعصومونَ، فَلا يُمْكِنُ أَنْ يَظُنَّ أَحَدٌ مِنْهم أَنَّ مَنْ جاءَهُ بالوَحْيِ مِنْ عِنْدِ اللهِ قَدْ كَذَبَهُ. وأَخَرْجَ البُخَارِيُّ عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ ـ رضيَ اللهُ عَنْهُما، عَنْ أُمِّ المؤمنينَ السيِّدَةِ عَائِشَةَ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْها وأَرْضاها، قَالَتْ لَهُ، وَهُوَ يَسْأَلُها عَنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: "حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ"، قَالَ: قُلْتُ: كُذِبُوا أَمْ كُذِّبُوا؟ قَالَتْ عَائِشَةُ: كُذِّبُوا. قُلْتُ: فَقَدِ اسْتَيْقَنُوا أَنَّ قَوْمَهُم كَذَّبُوهم، فَمَا هُوَ بِالظَّنِّ. قَالَتْ: أَجَلْ لَعَمرِي! لَقَدِ اسْتَيْقَنُوا بِذَلِكَ. فَقُلْتُ لَها: وَظَنُّوا أَنَّهمْ قَدْ كُذِبُوا؟ قَالَتْ: مَعَاذَ اللهِ! لَمْ تَكُنِ الرُّسُلُ تَظُنُّ ذَلِكَ بِرَبِّها. قُلْتُ: فَمَا هذِهِ الآيَةُ؟ قَالَتْ: هُمْ أَتْبَاعُ الرُّسُلِ الَّذِينَ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَصَدَّقُوهُم، فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْبَلاَءُ، وَاسْتَأْخَرَ عَنْهُمُ النَّصْرُ حَتَّى إذا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ مِمَّنْ كَذَّبَهُم مِنْ قَوْمِهِمْ، وَظَنَّتِ الرُّسُلُ أَنَّ أتبَاعَهُمْ قَدْ كَذَّبُوهُمْ، جَاءَهُمْ نَصْرُ اللهِ عِنْدَ ذَلِكَ. صحيحُ الإمامِ البُخارِيِّ: (8/367). وأَخْرَجَهُ أيضًا الأئمَّةُ: أَبُو عُبَيْدٍ: سَعِيْدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ سَعِيْدٍ الجَرْمِيُّ، وَالنَّسَائِيُّ، وَابْنُ جَريرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبي حَاتِمٍ، وَأَبُو الشَّيْخِ، وَابْنُ مِرْدُوَيْهِ. ونَصْرُ اللهِ تعالى لِرُّسُلِهِ ـ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ، هُوَ تَأْيِيدُهُمْ بِإنزالِ عِقَابِهِ وعذابِهِ عَلَى الَّذِينَ كَذَّبُوهُمْ منْ قومِهم.
وَأَخْرَجَ ابْنُ جَريرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَالطَّبَرَانِيُّ، وَأَبُو الشَّيْخِ، وَابْنُ مِرْدُوَيْهِ، عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ أَبي مُلَيْكَةَ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، أَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا، قَرَأَهَا عَلَيْهِ: {وَظَنُّوا أَنَّهم قَدْ كُذِبُوا} مُخَفّفَةً، يَقُولُوا: أُخْلِفُوا. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا، وَكَانُوا بَشَرًا، وتَلا: {حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذين آمنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللهِ} سورةُ الْبَقَرَةِ الْآيَة: 214، قَالَ ابْنُ أَبي مُلَيْكَةَ: فَذَهَبَ ابْنُ عَبَّاسٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا، إِلَى أَنَّهم يَئِسُوا وضَعُفُوا فَظَنّوا أَنَّهم قَدْ أُخْلِفُوا قَالَ ابْنُ أَبي مُلَيْكَةَ: وَأَخْبرنِي عُرْوَةُ عَنْ السيِّدةِ عَائِشَة أُمِّ المؤمنينَ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْها، أَنَّهَا خَالَفَتْ ذَلِكَ وأَبَتْهُ وَقَالَت: مَا وَعَدَ اللهُ رَسُولَهُ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا عَلِمَ أَنَّهُ سَيَكونُ قَبْلَ أَنْ يَمُوتَ، وَلكِنَّهُ لَمْ يَزَلِ الْبَلَاءُ بالرُّسُلِ حَتَّى ظَنُّوا أَنَّ مَنْ مَعَهم مِنَ الْمُؤْمنِينَ قَدْ كَذَّبوهم، وَكَانَتْ تَقْرَؤُها: "وَظَنُّوا أَنَّهم قَدْ كُذِّبُوا" مُثَقَّلَةً للتَكْذيبِ.
قولُهُ: {فَنُجِّيَ مَنْ نَشَاءُ} تَفْرِيعٌ عَلَى قولِهِ: "جاءَهُمْ نَصْرُنا" لِأَنَّ نَصْرَ الرُّسُلِ ـ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ، هُوَ تَأْيِيدُهُمْ بِعِقَابِ الَّذِينَ كَذَّبُوهُمْ. فإنَّ اللهَ تعالى، يُنْجِي الَّذِينَ قضَتْ مشيئتُهُ بنجاتِهم وهمُ الذينَ آمَنُوا برسالاتِهِ، وصَدَّقوا رُسُلَه.
قولُهُ: {وَلَا يُرَدُّ بَأْسُنَا عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِين} الْبَأْسُ: هُوَ ما ينزِلُهُ اللهُ بالْمُجْرِمِينَ مِنْ عَذَابٍ نُصْرَةً للرُّسُلِ ـ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ، وَالْقَوْمُ الْمُجْرِمُونَ: هُمُ الَّذِينَ كَذَّبُوا الرُّسُلَ. فإنَّهُ لَا رادَّ لِبَأْسِهِ تعالى عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ، ولا دافعَ لعذابِهِ إيَّاهم إذا ما قَضَتْ بِذلِكَ مَشيئتُهُ ـ سُبْحانَهُ.
قولُهُ تَعَالى: {حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ} حَتَّى: حَرْفُ ابْتِداءٍ لِدُخُولِهَا عَلَى الجُمْلَةِ، وهي حرفُ غايَةٍ ٍونَصْبٍ لِكَوْنِها غَايَةً لِمَحْذوفٍ، وقد تقدَّمَ في التفسيرِ الخلافُ في تقديرِ هَذَا المَحْذوفِ. و "إِذَا" ظَرْفٌ لِمَا يُسْتَقبَلُ مِنَ الزَّمانِ، مَبْنِيٌّ على السكونِ في مَحَلِّ النَّصْبِ بِـ "حَتَّى" مُتَعَلِّقٌ بِـ "جاءهم". و "اسْتَيْأَسَ" فعلٌ ماضٍ مبنيٌّ على الفتحِ، و "الرُّسُلُ" فاعلُه ُمرفوعٌ، والجُمْلَةُ في مَحَلِّ الجَرِّ بإضَافَةِ "إِذَا" إِلَيْها عَلَى كَوْنِها فِعْلَ شَرْطٍ لَهَا.
قولُهُ: {وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا} الواوُ: للعطفِ، وَ "ظَنُّوا" فعلٌ ماضٍ مبنيٌّ على الضمِّ لاتِّصالِهِ بواوِ الجماعةِ، وواوُ الجماعةِ ضميرٌ متَّصِلٌ بهِ مبنيٌّ على السُّكونِ في محلِّ الرفعِ بالفاعليَّةِ، والألفُ فارقةٌ، و لجملةُ معطوفةٌ عَلى جملةِ قولِهِ "اسْتَيْأَسَ" على كونِها في محلِّ الجرِّ بالإضافةِ. و "أَنَّهُمْ" حرفٌ ناصِبٌ ناسِخٌ مُشبَّهٌ بالفِعْلِ والهاءُ: ضميرٌ متَّصلٌ بهِ في محلِّ النَّصْبِ اسْمُهُ، والميمُ علامةُ الجمعِ المُذَكَّرِ. و "قَدْ" للتحقيقِ، و "كُذِبُوا" فعْلٌ ماضٍ مبنيٌّ للمجهولِ، مبنيٌّ على الضمِّ لاتِّصالِهِ بواوِ الجماعةِ، وواوُ الجماعةِ ضميرٌ متَّصِلٌ بهِ مبنيٌّ على السكونِ في محلِّ الرفعِ نائبُ فاعِلٍ، والألفُ الفارقةُ، والجمْلَةُ الفِعْلِيَّةُ هذه في مَحَلِّ الرَّفْعِ خَبَرًا لِـ "أنَّ"، وجُمْلَةُ "أَنَّ" منِ اسمِها وخبرها في تَأْويلِ مَصْدَرٍ سادٍّ مَسَدَّ مَفْعُولَيّ "ظنَّ" والتَّقديرُ: وَظَنُّوا تَكْذيبَهم.
قولُهُ: {جَاءَهُمْ نَصْرُنَا} جَاءَهُمْ: فِعْلٌ ماضٍ مبنيٌّ على الفتحِ، والهاءُ: ضميرٌ متَّصلٌ بهِ في محلِّ النَّصْبِ على المفعوليَّةِ، والميمُ علامةُ جمعِ المذكَّر، و "نَصْرُنَا" فاعلٌ مرفوعٌ مُضافٌ، و "نا" العَظَمَةِ ضميرٌ متَّصلٌ بهِ مبنيٌّ على السكونِ في محلِّ الجرِّ بالإضافةِ إليهِ، والجُمْلَةُ جَوابُ "إذا"، وجُمْلَةُ "إذا" مِنْ فِعْلِ شَرْطِهَا وجَوَابِها في مَحَلِّ الجَرِّ بِـ "حَتَّى" المُتَعَلِّقَةِ بِمَحْذوفٍ تقدَّمَ تقديرُهُ.
قولُهُ: {فَنُجِّيَ مَنْ نَشَاءُ} الفاءُ: عاطِفَةٌ. و "نُجِّيَ" فِعْلٌ ماضٍ مبنيٌّ للمجهولِ، مبنيٌّ على الفتحِ. و "مَنْ" اسْمٌ مَوْصولٌ مبنيٌّ على السكونِ في مَحَلِّ الرَّفْعِ نائبُ فاعِلٍ، والجُمْلَةُ مَعْطوفَةٌ عَلَى جُمْلَةِ "جاءَ". و "نَشَاءُ" فعْلٌ مُضَارِعٌ مرفوعٌ لتجرُّدِهِ مِنَ الناصِبِ والجازمِ، وفاعِلُهُ ضَميرٌ مستترٌ فيهِ وُجوبًا تقديرُهُ (نحن) يَعُودُ عَلَى اللهِ تعالى، والجُمْلَةُ صِلَةُ الاسْمِ المَوْصولِ "مَنْ" لا محلَّ لها مِنَ الإعرابِ، والعائدُ مَحْذوفٌ تَقْديرُهُ: مَنْ نَشاءُ نَجاتَهُ مِنْ عِبادِنَا.
قولُهُ: {وَلَا يُرَدُّ بَأْسُنَا عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِين} الوَاوُ: استِئْنافيَّةٌ أو حاليَّةٌ، و "لَا" نافيةٌ لا عَمَلَ لها، و "يُرَدُّ" فعلٌ مضارعٌ مرفوعٌ لتجرُّدهِ مِنَ الناصِبِ والجازِمِ، مبنيٌّ للمجهولِ، و "بَأْسُنَا" نائبُ فاعِلِهِ مرفوعٌ، وهو مضافٌ، و "نا" العَظَمَةِ ضميرٌ متَّصلٌ بهِ مبنيٌّ على السكونِ في محلِّ الجرِّ بالإضافةِ إليهِ، و "عَنِ" حرفُ جرٍّ مُتَعَلِّقٌ بِالفعلِ "يُرَدُّ" و "الْقَوْمِ" مجرورٌ بحرفِ الجَرِّ، و "الْمُجْرِمِينَ" صِفَةٌ لِـ "الْقَوْمِ" مجرورة مثلها، وعلامةُ جرِّها الياءُ لأَنَّهُ جمعُ المُذكَّرِ السالمُ، والنونُ عِوَضٌ عنِ التنوينِ في الاسمِ المُفرَدِ والجُمْلَةُ مُسْتَأْنَفَةٌ لا مَحَلَّ لَها مِنَ الإعرابِ إذا كانتِ الواوُ استئنافيَّةً، أَوْ في محلِّ النَّصبِ على الحالِ إذا أُعْرِبَتِ الواوُ حاليَّةً.
قَرَأَ الجمهورُ: {تَيْأَسُوا} وقَرَأَ الْبَزِّيُّ "تَأْيَسُوا" هُنَا أَيْضًا بِتَقْدِيمِ الْهَمْزَةِ عَلَى الْيَاءِ بِخِلَافٍ عَنْهُ كَمَا تَقَدَّمَ في قِرَاءَةِ قولِهِ تعالى: {وَلا تَيْأَسُوا مِنْ رَوْحِ اللهِ} في الآية: 87، منْ هذِهِ السُورَةِ المبارَكَةِ.
قالَ مُجَاهِدٌ ـ رضيَ اللهُ عنهُ، فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: "جاءَهُمْ نَصْرُنا" أي: جاءَ الرُّسُلَ نَصْرُ اللهِ. وقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ ـ رَضَيَ اللهُ عَنْهُما: جَاءَ قَوْمَهُمْ عَذَابُ اللهِ، "فَنُنَجِّي مَنْ نَشَاءُ" قِيلَ: الْأَنْبِيَاءُ وَمَنْ آمَنَ مَعَهُمْ. وَرُوِيَ عَنْ عَاصِمٍ رضي اللهُ عنهُ: "فَنُجِّيَ مَنْ نَشاءُ" بِنُونٍ وَاحِدَةٍ مَفْتُوحَةِ الْيَاءِ، وَاخْتَارَ أَبُو عُبَيْدٍ هَذِهِ الْقِرَاءَةَ لِأَنَّهَا فِي مُصْحَفِ عُثْمَانَ، وَسَائِرِ مَصَاحِفَ الْبُلْدَانِ بِنُونٍ وَاحِدَةٍ. وَقَرَأَ ابْنُ مُحَيْصِنٍ" فَنَجَا" فِعْلٌ مَاضٍ، وَ "مَنْ" فِي مَوْضِعِ رَفْعٍ لِأَنَّهُ الْفَاعِلُ، وَعَلَى قِرَاءَةِ الْبَاقِينَ نَصَبًا عَلَى الْمَفْعُولِ.
قرَأَ العامَّةُ: {كُذِّبوا} بالتَثْقِيلِ. وهيَ واضِحَةٌ، فإنَّ الضَّمائِرَ كُلَّها تَعُودُ عَلَى الرُّسُلِ حَسْبَ هذه القراءةِ، أَيْ: وَظَنَّ الرُّسُلُ أَنَّ أُمَمَهُمْ قَدْ كَذَّبتْهم فيما جاؤوا بِهِ لِطُولِ البَلاءِ عَلَيْهم، وقد تقدَّمَ حديثُ البُخاريِّ مِنْ أَنَّ أُمَّ المؤمنينَ السَّيِّدَةَ عائِشَةَ ـ رضيَ اللهُ عنها، قالتْ: (هُمْ أَتْبَاعُ الأَنْبياءِ الذينَ آمَنُوا بِهمْ وصَدَّقوا، طالَ عَلَيْهِمُ البَلاءُ، واسْتُأَخَرَ عَنْهم النَّصْرُ حَتَّى إِذا اسْتَيْئَسَ الرُّسُلُ مِمَّنْ كَذَّبَهم مِنْ قومِهم، وظَنَّتِ الرُّسُلُ أَنَّ قومَهم قَدْ كَذَّبوهم، جاءَهم نَصْرُ اللهِ عِنْدَ ذَلِكَ). وبهذا يَتَّحِدُ مَعْنَى القِراءَتَيْنِ، والظَنُّ هُنَّا يَجوزُ أَنْ يَكونَ عَلى بابِهِ، ويجوزُ أَنْ يَكونَ بِمَعْنَى اليَقينِ، كما يجوزُ أَنْ يَكونَ بِمَعْنَى التَوَهُّمِ حَسْبَمَا تَقَدَّمَ.
وَقَرَأَ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَابْنُ مَسْعُودٍ، وَأَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ السُّلَمِيُّ، وَأَبُو جَعْفَرِ بْنُ الْقَعْقَاعِ، وَالْحَسَنُ، وَقَتَادَةُ، وَأَبُو رَجَاءٍ، الْعُطَارِدِيُّ، وَعَاصِمٌ، وَحَمْزَةُ، وَالْكِسَائِيُّ، وَيَحْيَى بْنُ وَثَّابٍ، وَالْأَعْمَشُ، وَخَلَفٌ ـ رضي اللهُ عنهم أجمعين: "كُذِبُوا" بِالتَّخْفِيفِ. وقدِ اضطَّرَبَتِ الأقوالُ في هذه القراءةِ، ورُوِي عَنْ أُمِّ المُؤمنينَ السيدةِ عائشةَ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْها، إِنْكارُها، كَمَا تَقَدَّمَ في التَّفْسيرِ، وقالَ السمينُ الحلبيُّ في الدرِّ المصونِ: (وهَذا يَنْبَغِي أَنْ لا يَصِحَّ عَنْهَا لِتَواتُرِ هَذِهِ القِراءَةِ). ولهذه القراءةِ أَرْبَعَةُ أَوْجُهٍ: أَجْوَدُها: أَنْ الضَّميرَ في "وظنُّوا" عائدٌ عَلَى المُرْسَلِ إِلَيْهِمْ لِتَقَدُّمِهمْ في قَوْلِهِ: {كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الذين مِن قَبْلِهِمْ} الآية: 109، مِنْ هَذِهِ السُّورَةِ الكَريمَةِ، فوجودُ مُرْسَلٍ يَسْتَدعي وجودَ مُرْسَلٍ إِلَيْهِ. والضَّميرُ في كلِّ مِنْ "أَنَّهم" و "كُذِبوا" عائدٌ عَلَى الرُّسُلِ، أَيْ: وَظَنَّ المُرْسَل إِلَيْهم أَنَّ الرُّسَلَ قَدْ كُذِبوا، أَيْ: كَذَّبَهم مَنْ أُرْسِلُوا إِلَيْهِ بِالوَحْيِ، وبِنَصْرِهم عَلى هؤلاءِ المُكَذِّبينَ. أَمَّا ثاني الوجوهِ: فهو أَنَّ الضَمَائرَ الثلاثةَ عائدةٌ عَلَى الرُّسُلِ. والمَعْنَى: أَنَّ مُدَّةَ التَكْذيبِ والعداوةِ مِنَ الكُفَّارِ، وانْتِظارَ النَّصْرِ مِنَ اللهِ تعالى، قدْ تطاولتْ عَلَيْهم، حتّى قَنَطُوا، وتَوَهَّموا أَنَّ اللهَ لنْ يَنْصُرَهم في الدُنْيا فَجَاءَهُمُ النَّصْرُ. فالفاعلُ المُقَدَّرُ: إِمَّا أَنْفُسُهم، وإِمَّا أَمَلُهم، والظَنُّ بمعنى التَوَهُّمِ وليسَ بِمَعْنَاهُ الأَصْلي وهوَ تَرَجُّحُ أَحَدِ الطرفَيْنِ، ولا بِمَجازِهِ وهو أَنْ يُسْتَعْمَلَ في المُتَيَقَّنِ. وثالثُ الأَوْجُهِ: أَنْ تعودَ الضَّمَائرُ كُلُّها أَيْضًا عَلَى الرُّسُلِ، والظَنُّ عَلى بابِهِ مِنَ التَّرْجيحِ، وقدْ نُسِبَ إِلى ابْنِ عَبَّاسٍ، وابْنِ مَسْعُودٍ، وابْنِ جُبَيْرٍ ـ رَضِيَ اللهُ عنهم: وهو أَنَّ الرُّسُلَ بَشَرٌ وقد ضَعُفُوا وساءَ ظَنُّهُم، وهَذَا يَنْبَغِي أَلَّا يَصِحَّ عَنْ هؤلاءِ الأَجِلَّاءِ، فإنَّها عِبَارةٌ غَلِيظَةٌ عَلَى الأَنْبِياءِ عَلَيْهِمُ السَّلامُ، ولذَلِكَ رَدَّتْها السيِّدةُ عائِشَةُ أُمُّ المؤمنينَ ـ رضي اللهُ عنها، كما تقدَّمَ بيانُهُ، ومعها جَمَاعَةُ عظيمةٌ، فقد أَعْظَمُوا أنْ يُنْسَبَ مِنْ هذا إلى الأَنْبياءُ ـ عليهِمُ السَّلامُ، وإذا صَحَّ شيءٌ مِنْ هَذا عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ـ رضي اللهُ عنهُما، فَقَدْ أَرادَ بالظَّنِّ مَا يَخْطُرُ بالبَالِ ويَهْجِسُ في القَلْبِ مِنْ شِبْهِ الوَسْوَسَةِ وحَديثِ النَّفْسِ عَلى مَا عَلَيْهِ البَشَرِيَّةُ، لكنَّه لا يستقرُّ في نُفوسِهمْ ولا يقرُّونَهُ، وأمَّا الظَنُّ الذي هُوَ تَرْجِيحُ أَحَدِ الجَائِزَيْنِ عَلى الآخَرِ فَغَيْرُ جائزٍ عَلَى مُسْلِمٍ مؤمنٍ، فَمَا بَالُ رُسُلِ اللهِ الذينَ هُمْ أَعْرَفُ بِرَبِّهم؟ قالهُ الزَّمَخْشَريُّ: وهو غيرُ جائزٍ أَيْضًا أَنْ يُقالَ لأنَّ الوَسْوَسَةَ مِنْ عملِ الشيطانِ، والأنبياءُ ـ عليهِمُ صلَواتُ اللهِ وسلامُهُ، مَعْصومونَ مِنْ ذلكَ أَيْضًا. ورابعُ هذِهِ الأَوْجُهِ وآخرُها: أَنَّ الضَّمائرَ كُلَّها تَرْجِعُ إلى المُرْسَلِ إِلَيْهمْ، أَيْ: وَظَنَّ المُرْسَلُ إِلَيْهمْ أَنَّ الرُّسُلَ قَدْ كَذَبوهمْ فِيما ادَّعَوْهُ مِنَ النُّبُوَّةِ وفِيما يُوْعِدونَ الكافرينَ بِدعوتِهِمْ مِنْ عِقَابٍ في الدنيا، وهوَ المَشْهورُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وابْنِ مَسْعُودٍ، وابْنِ جُبَيْرٍ، ومُجاهِدٍ ـ رضيَ اللهُ عنهم أجمعينَ، قالُوا: وَلا يَجُوزُ عَوْدُ الضَمَائرِ عَلَى الرُّسُلِ لأَنَّهم مَعْصومونَ. وقدْ سُئِلَ ابْنُ جُبَيْرٍ عَنْ ذلكَ فقال: (نَعَم، إِذا اسْتَيْئَسَ الرُّسُلُ مِنْ قومِهم أَنْ يُصَدِّقُوهم، وظَنَّ المُرْسَلُ إِلَيْهمْ أَنَّ الرُّسُلَ قَدْ كَذَبوهم) فَقَالَ الضَّحَّاكُ بْنُ مُزاحِمٍ ـ وكانَ حاضِرًا: (لَوْ رَحَلْتُ في هذِهِ إِلى اليَمَنِ كانَ قَليلًا).
وَقَرَأَ أَيْضًا ابْنُ عَبَّاسٍ، والضَحَّاكُ، ومُجَاهِدٌ، وَحُمَيْدٌ: "قَدْ كَذَبُوا" بِفَتْحِ الْكَافِ وَالذَّالِ مُخَفَّفًا، مَبْنِيًّا للفاعِلِ، عَلَى مَعْنَى: وَظَنَّ قَوْمُ الرُّسُلِ أَنَّ الرُّسُلَ قَدْ كَذَبُوا، لِمَا رَأَوْا مِنْ تَفَضُّلِ اللهِ ـ عَزَّ وَجَلَّ، فِي تَأْخِيرِ الْعَذَابِ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ المَعْنَى: ولَمَّا أَيْقَنَ الرُّسُلُ أَنَّ قَوْمَهُمْ قَدْ كَذَبُوا عَلَى اللهِ بِكُفْرِهِمْ، جَاءَ الرُّسُلَ نَصْرُنَا. فالضَّميرُ في "ظنُّوا" عَلَى هَذِهِ القِراءَةِ عائدٌ عَلَى الأُمَمِ، والضميرُ في "أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُواْ" عائدٌ على الرُّسُل،ِ أَيْ: ظَنَّ المُرْسَلُ إِلَيْهم أَنَّ الرُّسُلَ قَدَ كَذَبوهم فيما وَعَدوهم بِهِ مِنَ النَّصْرِ، أَوْ مِنَ العِقابِ، ويَجُوزُ أَنْ يَعودَ الضميرُ في "ظنُّوا" عَلَى الرُّسُلِ، وفي "أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُواْ" عَلَى المُرْسَلِ إِلَيْهم، أَيْ: وَظَنَّ الرُّسُلُ أَنَّ الأُمَمَ التي أُرسِلوا إليها قد كَذَبَتْهم فيما وَعَدوهم بِهِ مِنْ أَنَّهُم يُؤْمنونَ بِهِ، وعليه فيَكونُ الظَّنُّ هُنَا بِمَعْنى اليَقينِ.
قَرَأَ العامَّةُ: {فَنُجِّيَ مَنْ نَشَاءُ} بِنُونَيْنِ، أَيْ: نَحْنُ نُنَجِّي مَنْ نَشاءُ. وقَرَأَ ابْنُ عامرٍ وحمزةٌ وعاصمٌ ويَعقوبُ بِنُونٍ واحدةٍ مَضْمومةٍ وتَشْديدِ الجِيمِ وفَتْحِ الياءِ عَلَى مَا لَمْ يُسَمَّ فاعِلُهُ لأَنَّها مَكْتُوبةٌ في المُصْحَفِ بِنُونٍ واحدَةٍ، فيَكونُ مَحَلُّ "مَنْ" رَفْعًا عَلى هَذِهِ القِراءَةِ. ويكونُ مَحَلُّها نَصْبًا عَلى القِراءةِ الأُولى، فَنُجِيَ مَنْ نَشاءُ عِنْد نُزولِ البلاءِ وهمُ المُؤمنونَ.
وقرَأَ مُجاهدٌ، والحَسَنُ، والجحدريُّ، وطلحةُ بْنُ هُرْمُزٍ كَذَلِكَ، إِلَّا أَنَّهم سَكَّنُوا الياءَ، وخُرِّجَتْ عَلى أَنَّهُ مُضارعٌ أُدْغِمَتْ نُّونُهُ في الجِيم، وليسَ بِشَيْءٍ لأنَّ النّونَ لا تُدْغَمُ في الجِيمِ. وتَخريجُهُ عَلَى أَنَّهُ ماضٍ كالقِراءَةِ التي قَبْلَها سُكِّنَتِ الياءُ فِيهِ لُغَةُ مَنْ يَسْتَثْقِلُ الحَرَكَةَ صِلَةً عَلى الياءِ، كَقِراءَةِ مَنْ قرَأَ {ما تُطْعِمونَ أَهْليكم} بِسُكونِ الياءِ. ورُوِيَتْ هَذِهِ القِراءَةُ عَنِ الكِسائيِّ ونافِعٍ، وقرَآهُما في المَشْهورِ، وباقي السَّبْعَةِ "فَنُنَجِي" بِنُونَيْنِ، مُضارِعُ أُنْجِي. وَقَرَأَتْ فِرْقَةٌ: كَذَلكَ إِلَّا أَنَّهم فَتَحُوا الياءَ، رواها هُبَيْرَةُ عَنْ حَفْصٍ عَنْ عاصِمٍ، ولَهَا وَجْهٌ في العَرَبِيَّةِ وَهوَ جوازُ أَنْ يَأْتيَ المضارعُ بَعْدَ الشَّرْطِ والجَزَاءِ مَنْصوبًا بإضمارِ أَنْ بَعْدَ الفاءِ، كَقِراءَةِ مَنْ قَرَأَ في آخرِ سورة البقرةِ: {وإِنْ تُبْدوا مَا في أَنْفُسِكمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكم بِهِ اللهُ فَيَغْفِرَ} بِنَصْبِ راءِ "يَغْفِرَ" فنَصَبَ بإضمارِ أَنْ بعدَ الفاءِ. ولا فرقَ في ذَلكَ بَيْنَ أَنْ تَكونَ أَداةُ الشرطَ جازَمَةً، أَوْ غيرَ جازِمَةٍ. وقَرَأَ نَصْرُ بْنُ عاصِمٍ، والحَسَنُ، وأَبو حَيَوَةَ، وابْنُ السَّمَيْقَعِ، ومجاهَدٌ، وعِيسى، وابْنُ مُحَيْصِنٍ: "فَنَجَى"، جَعَلُوهُ فِعْلًا ماضَيًا مُخَفَّفَ الجِيم. وقالَ أَبو عَمْرٍو الدانيُّ: وَقَرَأتُ لابْنِ مُحَيْصِنٍ "فَنَجَّى" بِشَدِّ الجِيمِ فِعْلًا" ماضِيًا عَلى مَعْنَى فَنَجَّى النَّصْرُ. وذَكَرَ الدانيُّ أَنَّ المَصاحِفَ مُتَّفِقَةٌ عَلى كِتابَتِها بِنُونٍ واحدةٍ. وروى صاحِبُ التَّحْبيرِ أَنَّ الحَسَنَ قَرَأَ "فَنُنَجّي" بِنُونيْنِ، الثانيةُ مَفْتوحَةٌ، والجيمُ مُشدَّدةٌ، والياءُ ساكِنَةٌ. وقرَأَ أَبو حَيَوَةَ: "مَنْ يَشاءُ" بالياءِ أَيْ: فَنَجَّى مَنْ يَشاءَ اللهُ نَجاتَهُ. وهمُ المؤمنونَ لَقوْلِهِ تعالى بعدَ ذلك: "ولا يُرَدُّ بأْسُنَا عَنِ القَوْمِ المُجْرِمينَ" والبَأْسُ هُنَا الهَلاكُ. وقرَأَ الحَسَنُ: "بَأْسُهُ" بِضَميرِ الغائبِ أَيْ: بأسُ اللهِ.