فيض العليم .... سورة يوسف، الآية: 14
قَالُوا لَئِنْ أَكَلَهُ الذِّئْبُ وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّا إِذًا لَخَاسِرُونَ (14)
قولُهُ ـ تعالى شأْنُهُ: {قَالُوا لَئِنْ أَكَلَهُ الذِّئْبُ وَنَحْنُ عُصْبَةٌ} أَيْ وَاللهِ لَئِنِ عَدَا عَلَيْهِ الذِّئْبُ فاخْتَطَفَهُ مِنْ بَيْنِنَا، وَأَكَلَهُ، وَالْحَالُ أَنَّنَا جَمَاعَةٌ شَدِيدَةُ الْقُوَى تُعَصَّبُ بِنَا الْأُمُورُ العِظامُ، وَتُكْفَى بِبَأْسِنَا الْخُطُوبُ الجِسامُ، فقد كانوا أحدَ عشرَ رجلًا أقوياءَ أشداءَ، كما أنَّ كَوْنَهُمْ عُصْبَةً يَحُولُ دُونَ تَوَاطُئهِمْ عَلَى مَا يُوجِبُ الْخُسْرَانَ لِجَمِيعِهِمْ.
قولُهُ: {إِنَّا إِذًا لَخَاسِرُونَ} أيْ: عَجَزَةٌ ضُعَفَاءُ هالكون، والْمُرَادُ بِالْخُسْرَانِ: انْتِفَاءُ النَّفْعِ الْمَرْجُوِّ مِنَ الرِّجَالِ، اسْتَعَارُوا لَهُ انْتِفَاءَ نَفْعِ التَّاجِرِ مِنْ تَجْرِهِ، وهو كِنَايَةٌ عَنْ عَدَمِ تَفْرِيطِهِمْ فِي أَخيهم يوسُفَ ـ عَليهِ السلامُ، وَعَهدٌ منْهم على حِفْظِهِمْ إِيَّاهُ، أَيْ إِنَّا إِذَنْ لَمَسْلُوبُونَ مِنْ صِفَاتِ الْفُتُوَّةِ مِنْ قُوَّةٍ وَمَقْدِرَةٍ وَيَقَظَةٍ. لِأَنَّ الْمَرْءَ لَا يَرْضَى أَنْ يُوصَفَ بِالْخُسْرَانِ، فهُوَ خَيْبَةٌ مَذْمُومَةٌ. وَقِيلَ:" لَخاسِرُونَ" أَيْ: فِي حِفْظِنَا أَغْنَامَنَا، إِذَا كُنَّا لَا نَقْدِرُ عَلَى دَفْعِ الذِّئْبِ عَنْ أَخِينَا فَنَحْنُ أَعْجَزُ أَنْ نَدْفَعَهُ عَنْ أَغْنَامِنَا. وَفِي هَذَا إِظْهَارٌ للصَّلَاحِ مَعَ اسْتِبْطَانِ الضُّرِّ وَالْإِهْلَاكِ. أَيْ: لا خَيْرَ فينَا إذا غُلِبْنا عَلَى أَخِينا وأْكُلَهُ الذِئبُ وهو بَيْنَنَا. ومَعَ الأَسَفِ فَقَدْ أقْنَعُوا أباهم بِهذِه الدعوى، وذَهبوا بِيُوسُفَ لِينفِّذوا فيه مؤامَرَتَهمُ الدَّنِيئَةَ.
قولُهُ تعالى: {قَالُوا لَئِنْ أَكَلَهُ الذِّئْبُ وَنَحْنُ عُصْبَةٌ} قَالُوا: فعلٌ ماضٍ مبنيٌّ على الضمِّ لاتِّصالِهِ بواوِ الجماعةِ، وهي ضميرٌ متَّصلٌ به مبنيٌّ على السكونِ في محلِّ رفعِ فاعِلِهِ، والألفُ الفارقةُ، والجملةُ مُسْتأنَفَةٌ لا محلَّ لها من الإعرابِ. و "لَئِنْ" اللام: مُوَطِّئَةٌ للقَسَمِ. و "إنْ" حَرْفُ شَرْطٍ جازمٌ. و "أَكَلَهُ" فعلٌ ماضٍ مبنيٌّ على الفَتْحِ في مَحَلِّ الجَزْمِ بِـ "إنْ" الشَرْطِيَّةِ عَلَى كَونِهِ فِعْلَ شَرْطٍ لَهَا، والهاءُ: ضميرٌ مُتَّصلٌ بهِ في محلِّ نَصْبِ مَفْعُولِهِ، و "الذِّئْبُ" فاعِلُهُ مرفوعٌ. والجُمْلَةُ في مَحَلِّ النَّصْبِ مقولَ القولِ. و "وَنَحْنُ" الواوُ: حاليَّةٌ، و "نحنُ" ضميرٌ جماعةِ المتكلِّمين المُنفصلُ مبنيٌّ على الضمِّ في محلِّ الرفعِ بالابْتِداءِ، و "عُصْبَةٌ" خَبَرُه مرفوعٌ، والجُمْلَةُ في مَحَلِّ النَّصْبِ على الحالِ مِنْ هاءِ "أَكَلَهُ". أوْ هي مُعْتَرِضَةٌ لا محلَّ لها.
قولُهُ: {إِنَّا إِذًا لَخَاسِرُونَ} إِنَّا: إنَّ: حرفٌ ناصِبٌ ناسخٌ مشبَّهٌ بالفِعْلِ للتوكيدِ، و "نا" ضميرُ جماعة المتكلمينَ المُتَّصِلُ به مبنيٌّ على السكونِ في محلِّ نَصْبِ اسْمِهِ. و "إذًا" حَرْفُ جَوابٍ وجَزَاءٍ، لا عَمَلَ لَهَا لِدُخُولِها عَلى الجملةِ الاسْمِيَّةِ. و "لَخَاسِرُونَ" اللامُ: المزحلقةُ حَرْفُ ابْتِداءٍ، ولامُ الابْتِداءِ تُفيدُ تَوْكيدَ مَضْمُونِ الجُمْلَةِ، ولِهَذا زَحْلَقوها في بابِ "إنَّ" عَنْ صَدْرِ الجُمْلَةِ كَراهِيَةَ ابْتِداءِ الكَلامِ بِمُؤكِّدَيْنِ، لأنَّ "إنّ" تُفيدُ التَوْكِيدَ كذلك. كما تُفيدُ أَيضًا تَخْليصَ المُضارِعِ للحالِ، أَيْ دَلالَتَهُ عَلى الزَّمَنِ الحاضِرِ. ومِثَالُ ذَلِكَ قولُهُ تَعالى في الآية السابقةِ: {إِنِّي لَيَحْزُنُنِي أَنْ تَذْهَبُوا بِهِ}. وهي باتِّفاقٍ تَدْخُلُ في موضعين: الأوَّلُ المُبْتَدَأُ: كَقَوْلِهِ تَعالى في سورة الحشرِ: {لَأَنْتُمْ أَشَدُّ رَهْبَةً فِي صُدُورِهِمْ مِنَ الله} الآية: 13. والثاني بعدَ "إنَّ" وتُسَمَّى المُزَحْلَقَةَ، لِزَحْلَقَتِها مِنَ المُبْتَدَأِ إلى الخَبَرِ. وتَدْخُلُ بَعْدَ "إنَّ" عَلى ثَلاثَةٍ:
ا ـ الاسْم: كَقَوْلِهِ تَعالى في سورة إبراهيمَ ـ عليهِ السلامُ: {إِنَّ رَبِّي لَسَمِيعُ الدُّعاءِ} الآية: 39.
2 ـ المُضارع: كقولِهِ سبحانَه: {وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَة} الآية: 124 من سورةِ النَّحْلِ.
3 ـ وعلى الجارِّ والمَجْرورِ، أَوِ الظَرْفِ كَقَوْلِهِ تعالى في الآية الرابعة من سُورَةِ القَلَم: {وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيم}. و "خاسرونَ" خَبَرُ "إنَّ" مرفوعٌ وعلامةُ رفعِهِ الواوُ لأنَّهُ جمعُ المذكَّرِ السالمُ، والنونُ عِوضٌ عن التنوين في الاسمِ المفرَدِ. وجُمَلَةُ "إنَّ" جَوابَ القَسَمِ لا محلَّ لَهَا مِنَ الإعْرابِ، وجوابُ "إِنْ" الشَرْطِيَّةِ مَحْذوفٌ دَلَّ عَلَيْهِ جَوابُ القَسَمِ، والتقديرُ: إِنْ أَكَلَهُ الذِّئبُ، فإنَّا إِذًا لَخَاسِرون، وجُمْلَةُ الشَّرْطِ مُعْتَرِضَةٌ بَيْنَ القَسَمِ وجَوابِهِ فلا محلَّ لها، وجُمْلَةُ القَسَمِ في مَحَلِّ النَّصْبِ مَقولَ "قَالُوا". وقُرئَ "عُصْبَةً" بالنَّصْبِ أيضًا.