فيض العليم .... سورة يوسف، الآية: 106
وَما يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللهِ إِلاَّ وَهُمْ مُشْرِكُونَ (106)
قولُهُ ـ تعالى شَأْنُهُ: {وَما يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللهِ إِلاَّ وَهُمْ مُشْرِكُونَ} قد يَكونُ الإيمانُ في معانٍ كثيرةٍ وكذلك الشركُ، فمِنَ الإيمانِ تَصْديقٌ ببَعْضٍ، وتَكْذيبٌ بِبَعْضٍ، قالَ تعالى في آخر سورةِ البقرةِ: {آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ} الآية: 285. وقال أيضًا في الآيةِ: 65، من سورةِ النساءِ: {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا}، وقالَ ـ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ، لمَّا سألَهُ جبريلُ ـ عَلَيْهِ السَّلامُ، في حديثِ عمرَ بْنِ الخطّابِ ـ رضيَ اللهُ عنه، الذي أخرجهُ الشيخانِ وغيرُهما: ((الإيمانُ أَنْ تؤمِنَ باللهِ وملائكتِهِ وكتُبِهِ ورُسُلِهِ واليومِ الآخِرِ، والقضاءِ خيرِهِ وشرِّهِ مِنَ اللهِ تعالى)). وقالَ أيضًا ـ صلى اللهُ عليهِ وسلَّمَ: ((وَالذِي نَفْسِي بِيَدَهِ لاَ يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ حَتَّى يَكُونَ هَواهُ تَبَعًا لِمَا جِئْتُ بِهِ)) من حديثِ عبدِ اللهِ ابْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ ـ رضي اللهُ عنهما، رَواهُ ابْنُ أَبي عاصِمٍ في السُنَّةِ: (15). وَقَدْ صَحَّحَهُ النَوَوِيُّ فِي آخِرِ الأرْبَعِينَ منْ روايةِ الْحَسَنِ بْنِ سُفْيَان وَغَيْرِهِ عنْ أبي هريرةَ ـ رضي اللهُ عنْهُ، وَرِجَاله ثِقَات، وأَخْرَجَهُ البَغَوِيُّ في شَرْحِ السُّنَّةِ: (1/212). والأَحاديثُ الواردةُ مُفَصِّلَةً في الإيمانِ والشّرْكِ كثيرةٌ.
وفي سببِ نزولِ هذه الآيةِ الكريمةِ، وفيمنْ نزلتْ ومنِ المعنيُّ بذلك أَخبارٌ كثيرةٌ، مِنْها ما قالَهُ الحَسَنُ، ومُجاهِدٌ، وعامِرٌ الشَّعْبِيُّ، وَأَكْثَرُ الْمُفَسِّرِينَ مِنْ أنَّها نَزَلَتْ فِي قَوْمٍ أَقَرُّوا بِاللهِ خَالِقِهِمْ وَخَالِقِ الْأَشْيَاءِ كُلِّهَا، وَهُمْ يَعْبُدونَ الأوْثانَ، ومنها ما أَخرجَهُ ابْنُ جريرٍ وَابْنُ أبي حَاتِمٍ، وَأَبُو الشَّيْخِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا، فِي قَوْلهِ تعالى: "وَمَا يُؤمن أَكْثَرهم بِالله إِلَّا وهم مشركون" قَالَ: سَلْهُمْ مَنْ خَلَقَهمْ، وَمَنْ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ؟ فَيَقُولُونَ: اللهُ. فَذَلِك إِيمَانُهم، وهُمْ يَعْبدُونَ غَيرَهُ. وَأخرج سعيدُ بْنُ مَنْصُورٍ، وَابْنُ جريرٍ، وَابْنُ الْمُنْذرِ، وَأَبُو الشَّيْخ، والبغويُّ عنْ عَطَاءٍ ـ رَضِي الله عَنهُ، قالَ: هَذَا فِي الدُّعَاءِ وَذَلِكَ أَنَّ الْكُفَّارَ نَسُوا رَبَّهُمْ فِي الرَّخَاءِ، فَإِذَا أَصَابَهُمُ الْبَلَاءُ أَخْلَصُوا فِي الدُّعَاءِ كَمَا قَالَ اللهُ تَعَالَى في سورة يونس: {وَظَنُّوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ دَعَوُا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} الآية: 22، و كما قالَ في سورة العنكبوت: {فَإِذا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذا هُمْ يُشْرِكُونَ} الآية: 65، وَغَيْرُ ذَلِكَ مِنَ الآيات. وَأخرج ابْنُ جريرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أبي حَاتِمٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ ـ رَضِي الله عَنهُ، فِي قَوْله: "وَمَا يُؤمن أَكْثَرهم بِالله إِلَّا وهم مشركون" قَالَ: إِيمَانُهم قَوْلُهم: اللهُ خَلَقَنَا، وَهُوَ يَرْزُقُنا، ويميتنا، فَهَذَا إِيمَان مَعَ شِرْكِ عِبَادَتهم غَيرَهُ. وَأخرج ابْنُ جريرٍ، وَابْنُ الْمُنْذرِ، و البَغَويُّ، عَن الضَّحَّاك ـ رَضِي الله عَنهُ، فِي قَوْله: "وَمَا يُؤمن أَكْثَرهم بِالله إِلَّا وهم مشركون" قَالَ: إِنَّهَا نَزَلَتْ فِي تَلْبِيَةِ الْمُشْرِكِينَ مِنَ الْعَرَبِ كَانُوا يَقُولُونَ فِي تَلْبِيَتِهِمْ: لَبَّيْكَ اللَّهُمَّ لَبَّيْكَ، لَبَّيْكَ لَا شَرِيكَ لَكَ إِلَّا شَرِيكٌ هُوَ لَكَ تَمْلِكُهُ وَمَا مَلَكَ. وَأخرج أَبُو الشَّيْخ، عَنِ الْحَسَنِ البَصْريِّ ـ رَضِي اللهُ عَنهُ، فِي قَوْلِهِ تعالى: "وَمَا يُؤمن أَكْثَرهم بِالله إِلَّا وهم مشركون" قَالَ: ذَاك الْمُنَافِقُ يَعْمَلُ بالرِّياءِ وَهُوَ مُشْرِكٌ بِعَمَلِهِ. وفي هَذَه الآيةِ الكريمةِ إِبْطَالٌ لِمَا يَزْعُمُهُ المُشركونَ مِنَ أنَّهم يؤمنونَ بِأَنَّ اللهَ تعالى خَالِقُهُمْ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى من سورةِ لقمان: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللهُ، قُلِ الْحَمْدُ للهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ} الآية: 25، فإنَّ إِيمَانَهُمْ بِاللهِ كَالْعَدَمِ لِأَنَّهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ بِوُجُودِ اللهِ إِلَّا ويُشْرِكونَ مَعَهُ غَيْرَهُ فِي الْإِلَهِيَّةِ. وَالْمَقْصُودُ مِنْ هَذَا تَشْنِيعُ حَالِهِمْ، وهوَ مِنْ قَبِيلِ تَأْكِيدِ الشَّيْءِ بِمَا يُشْبِهُ ضِدَّهُ عَلَى وَجْهِ التَّهَكُّمِ بهم والسُخْرِيَةِ منهم.
قولُهُ تعالى: {وَما يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللهِ} الواو: استئنافية. و "ما" نافيَةٌ لا عملَ لها. و "يُؤْمِنُ" فعلٌ مضارعٌ مرفوعٌ لتجرُّدِهِ مِنَ الناصِبِ والجازِمِ، و "أَكْثَرُهُمْ" فاعلُهُ مَرْفوعٌ، وهو مضافٌ، و "هم" ضميرُ الغائبينَ متَّصلٌ بهِ في محلِّ الجرِّ بالإضافةِ إليهِ. و "بِاللهِ" حرفُ جرٍّ متعلِّقٌ بِالفعلِ "يُؤْمِنُ" ولفظُ الجلالةِ مجرورٌ بحرفِ الجرِّ، والجُمْلَةُ مُسْتَأْنَفَةٌ لا محلَّ لها منَ الإعرابِ.
قولُهُ: {إِلاَّ وَهُمْ مُشْرِكُونَ} إِلَّا: أَداةُ اسْتِثْناءٍ مُفَرِّغٍ مِنْ عُمُومِ الْأَحْوَالِ. و "وَهُمْ" الواو: حاليَّةٌ، وضميرُ الغائبينِ "هم" ضميرٌ منفصلٌ مبنيٌّ في محلِّ الرفعِ بالابتداءِ، و "مُشْرِكُونَ" خَبَرُهُ مرفوعٌ، وعلامةُ رفعِهِ الواوُ لأنَّه جمعُ المذكَّرِ السالمُ، والنونُ عِوَضٌ عن التنوينِ في الاسْمِ المفردِ، والجُملةُ الفعليَّةُ هذِهِ في مَحَلِّ النَّصْبِ على الحال مِنْ فاعِلِ "يُؤْمِنُ"