فيض العليم ... سورة يوسف، الآية: 105
وَكَأَيِّنْ مِنْ آيَةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْهَا وَهُمْ عَنْهَا مُعْرِضُونَ (105)
قولُهُ ـ تعالى جَدُّهُ: {وَكَأَيِّنْ مِنْ آيَةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} في هذه الآية الكريمةِ يُخبِرُ اللهُ تَعالى عَنْ غَفْلَةِ أَكْثرِ النَّاسِ عنْ مَولاهم، وعَنِ التَفَكُّرِ في آياتِ اللهِ تعالى ودَلائِلِ تَوْحيدِهِ. و "كَأَيِّنْ" كَلِمَةٌ مُرَكَّبَةٌ مِنْ كافِ التَشْبِيهِ و "أي" الاسْتِفْهامِيَّةِ المُنَوَّنَةِ، ثمَّ صارَتْ كلِمَةً واحدَةً بِمَعْنَى "كَمْ" الخَبَرِيَّةِ التي تستعملُ في تَكْثيرِ الشيءِ. أَيْ: كَأَيِّ عَدَدٍ شِئْتَ مِنَ الآياتِ والعَلاماتِ الدّالَّةِ عَلَى وُجُودِ الصَّانِعِ وَوَحْدَتِهِ، وكَمَالِ عِلْمِهِ وقُدْرَتِهِ وحِكْمَتِهِ، غيْرِ هَذِهِ الآيَةِ التي جِئْتَ بِها. وَالْآيَةُ: الْعَلَامَةُ، وَالْمُرَادُ هُنَا الدَّالَّةُ عَلَى وَحْدَانِيَّتِهِ ـ سبحانَهِ وتَعَالَى، بِقَرِينَةِ ذِكْرِ الْإِشْرَاكِ بَعْدَهَا.
وآياتُ السمواتِ والأَرْضِ كَثيرَةٌ جدَّا ومنَ المستحيلُ إحصاؤها، فإنَّ العلماءَ مافتئوا يكتشفون كلَّ يومٍ آيةً جديدةً، حتى استعصتْ على الحَصْرِ. وقالَ المُفَسِّرونَ: آياتُ السَمَواتِ: الشمْسُ والقَمَرُ والنُّجومُ والسَّحابُ والرِياحُ والأَمْطارُ. وآياتُ الأَرْضِ: البِحارُ والجبالُ والشَّجرُ والثَّمَرُ. انْظُرْ تَفْسِيرَ الطَبَرِيِّ: (13/76). ومعاني القرآنِ وإعرابُهُ للفرَّاءِ: (3/131). وَأخرج أَبُو الشَّيْخ عَنِ الضَّحَّاكِ ـ رَضِي اللهُ عَنْهُ، قَالَ: "وَكَأَيِّنْ مِنْ آيَةٍ"، كَمْ مِنْ آيَةٍ فِي السَّمَاءِ، يَعْنِي: شَمْسَها، وقمرَها، ونُجومَها، وسَحَابَها. وَفِي الأَرْضِ: مَا فِيهَا مِنَ الْخَلْقِ، والأَنْهارِ، وَالْجِبَالِ، والمَدَائِنِ، والقُصُورِ.
قولُهُ: {يَمُرُّونَ عَلَيْهَا وَهُمْ عَنْهَا مُعْرِضُونَ} المَعْنَى المرادُ: يَرَوْنَهَا ويَتَجاوَزونَها غَيْرَ مُتَفَكِّرينَ بها ولا مُعْتَبِرينَ. وَالْمُرُورُ هنا مَجَازٌ مَكْنِيٌّ بِهِ عَنِ التَّحَقُّقِ وَالْمُشَاهَدَةِ، إِذْ لَا يَصِحُّ حَمْلُ الْمُرُورِ عَلَى الْمَعْنَى الْحَقِيقِيِّ له بِالنِّسْبَةِ لِآيَاتِ السَّمَاوَاتِ، فَالْمُرُورُ هُنَا كَالَّذِي فِي قَوْلِهِ تَعَالَى من سورةِ الفرقان: {وَإِذا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرامًا} الآية: 72. ورَوَى عَطاءٌ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ـ رَضِيَ اللهُ عنهما، والكَلْبِيِّ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: آياتُ الأَرْضِ آثارُ عُقوباتِ الأَمَمِ السَّالِفَةِ، يَمُرُّ أَهْلُ مَكَّةَ عَلى آثارِهمْ إذا سافَروا، ولا تَتَحَرَّكُ أَفْئِدَتُهم، ولا يَتَّعِظونَ، هذا معنى قولِهِ: "وَهُمْ عَنْهَا مُعْرِضُونَ". انظر: "البَحْرَ المُحيطَ لأَبي حَيَّانٍ الأَنْدَلُسِيِّ: (5/351). والجامع لأَحْكامِ القُرْآنِ للقُرْطُبِيِّ: (9/272).
قولُهُ تعالى: {وَكَأَيِّنْ مِنْ آيَةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} الواو: اسْتِئنافيَّةٌ. و "كَأَيِّنْ" اسْمٌ بِمَعْنَى (كَمْ) الخَبَرِيَّةِ؛ مَبنيٌّ على السُّكونِ في مَحَلِّ الرَّفعِ بالابتداءِ لِشِبَهِهِ بالحرفِ شِبَهًا مَعنَويًّا. و "مِنْ" حرفُ جرٍّ زائدٍ. و "آيَةٍ" مجرورٌ لفظًا بِـ "مِنْ" مَنصوبٌ محَلًّا عَلى أنَّهُ تَمْييزُ "كأين". و "فِي" حرفُ جَرٍّ متعلِّقٌ بصفةٍ لِـ "آيَةٍ" و "السَّمَاوَاتِ" مَجرورٌ بحرفِ الجرِّ. و "وَالْأَرْضِ" حرفُ عطفٍ ومعطوفٌ على "السَّمَاوَاتِ" مجرورٌ.
قولُهُ: {يَمُرُّونَ عَلَيْهَا وَهُمْ عَنْهَا مُعْرِضُونَ} يَمُرُّونَ: فعلٌ مضارعٌ مرفوعٌ لتجرُّدِهِ مِنَ الناصِبِ والجازمِ، وعلامةُ رفعِهِ ثباتُ النُّونِ في آخِرِهِ لأنَّهُ منَ الأفعالِ الخمسةِ، وواوُ الجماعةِ ضميرٌ متَّصلٌ بهِ مبنيٌّ على السكونِ في محلِّ الرفعِ على الفاعليَّةِ، وهوَ عَائِدٌ إِلَى النَّاسِ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَما أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ. و "عَلَيْهَا" حرفُ جرٍّ متعلِّقٌ بـ "يمرُّون" والهاءُ ضميرٌ متَّصلٌ به في محلِّ الجرِّ بحرفِ الجرِّ، والجملةُ الفعليِّةُ هذه في محلِّ الرِّفعِ كونَها خَبَرًا للمُبتَدَأِ "كأيِّنْ"، وهذه الجملةُ الاسميَّةُ مُستَأْنَفَةٌ لا محلَّ لها من الإعراب. و "وَهُمْ" الواوُ: حاليَّةٌ. و "هم" ضميرٌ منفصلٌ مبنيٌّ في محلِّ الرفعِ بالابتداءِ. "عَنْهَا" حرفُ جرٍّ متعلِّقٌ بالخَبَرِ بعدَهُ، والهاءُ: ضميرٌ متَّصلٌ بهِ في محلِّ الجرِّ بحرفِ الجرِّ. و "مُعْرِضُونَ" خبَرُ المُبتدأِ مرفوعٌ وعلامةُ رفعِهِ الواوُ لأنَّهُ جمعُ المذكَّرِ السالمُ، والنونُ عِوَضٌ مِنَ التنوينِ في الاسْمِ المفرَدِ، والجُملةُ الاسْمِيَّةُ هذهِ في مَحلِّ النَّصْبِ على الحالِ مِنْ فاعِلِ "يَمُرُّونَ"، فيصبحُ مَعْنى الآيةِ كما لو قِيلَ: وآياتٌ كثيرةٌ كائنةٌ في السمواتِ والأَرْضِ مَارُّونَ عَلَيها حالةَ كونِهم مُعْرِضينَ عَنْها.
قرأ العامَّةُ: {والأرضِ}، بالكَسْرِ عَطْفًا على "السَّماءِ" وَقَرَأَ عِكْرِمَةُ، وَعَمْرُو بْنُ قَائِدٍ: "وَالْأَرْضُ" رَفْعًا على الابْتِدَاءِ، وَقَرَأَ السُّدِّيُّ" وَالْأَرْضِ" نَصْبًا بِإِضْمَارِ فِعْلٍ بمَعْنَى: ويَطَؤونَ الأَرْضَ. وَالْوَقْفُ عَلَى هَاتَيْنِ الْقِرَاءَتَيْنِ عَلَى "السَّماواتِ".
قرأَ العامَّةُ: {يَمُرُّونَ عَلَيْها}، وَقَرَأَ ابْنُ مَسْعُودٍ ـ رضي اللهُ عنه: "يَمْشُونَ عَلَيْهَا". فقد وَأَخْرَجَ ابْنُ جَريرٍ، وَابْنُ أَبي حَاتِمٍ وَأَبُو الشَّيْخِ، عَنْ قَتَادَةَ ـ رَضِيَ اللهُ عنْهُ، قَالَ: فِي مِصْحَفِ عَبْدِ اللهِ: {وكأَيِّنْ مِنْ آيَةٍ فِي السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ يَمْشُونَ عَلَيْهَا}، وَالسَّمَاءُ وَالْأَرْضُ آيَتانِ عَظيمَتانِ.