فيض العليم .... سورة يوسف، الآية: (104)
وَمَا تَسْأَلُهُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ (104)
قولُهُ ـ جَلَّ وعلا: {وَمَا تَسْأَلُهُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ} توبيخٌ للكُفّار، وإقامةٌ للحُجَّةِ عَليهم، فما أَسْفَهَ أحلامَهم، فأنتَ تَدعوهم إلى اللهِ تعالى دونَ أَنْ تَبْتَغي مِنْهم أجْرًا فيُعطونَهُ لكَ على ذلكَ، أَوْ مصلحةً فيُبلِّغونكَ إيَّاها، فتكونَ لهم بذلك حجَّةٌ في النفورِ منكَ والإعراضِ عن دعوتِكَ، فيقولُ قائلُهم: بِسَبَبِ تلكَ المصلحةِ يتلوهُ عليهم، ولتلكَ المنفعةِ يبلِّغُهم، ولقاءَ ذلكَ الأَجْرِ يَدعوهم. فإنَّكَ يا رسُولَ اللهِ تتلو القرآنِ عليهم، وتُبلُّغُهم رسالةَ ربِّهم، وتهديهم إلى السبيلِ القويمِ والصراطِ المستقيمِ، ولما فيه خيرُهم وصلاحُهم في الدنيا والآخرةِ، دون أيِّ أجرٍ.
قولُهُ: {إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ} الذِكْرُ: التذكيرُ والعِظَةٌ من اللهِ تعالى لِلْعالَمِينَ عامَّةً، فهو بصيرةٌ لِمَنْ آمَنَ بِهِ ورحمةٌ. وحُجَّةٌ عَلى مَنْ لمْ يُؤْمِنْ بهِ ونِقمة. وفيه تَذْكرَةٌ لهم بما هو صلاحَهم ونجاتُهم مِنَ النّارِ وفوزهم بالجنَّةِ وفلاحُهم. فلقد أنزلْنا القرآنَ تذكرةً للعالمين، وبَعَثْناكَ مُبَلِّغًا لهم بِلا أَجْرٍ منهم؛ لِئَلَّا يَمْتَنِعَ مِنَ الإجابةِ ممتنعٌ منهم لِمَا يَلْزَمَهم منَ الأَجْرِ، حتى يكونوا بذلكَ أَقرَبَ إلى تَصديقِه، والإيمانِ به.
وهذِهِ الآيةُ تَأْكيدٌ للأُولى؛ لأنَّه لَمَّا ذَكَرَ هناكَ أَنَّهُ لنْ يُؤْمِنَ إِلَّا مَنْ شاءَ اللهُ لهُ ذلكَ، وإِنْ حَرَصَ النَّبِيُّ عَليهِ، وهمُ الأكثرُ، ذَكَرَ هنا أَنَّهُ أَزاحَ العِلَّةَ في التَكذيبِ بِرَفعِ الأَجْرِ على التبليغِ، وإنزالِ القرآنِ تَذْكرةً وعِظَةً مجّانيَّةً دونَ أَجْرٍ، ومَعَ هذا كُلِّهِ، فإنَّهُ لَنْ يُؤمِنَ مِنْ هؤلاءِ باللهِ تعالى وَرَسُولِهِ الذي أرسلَ، وكتابِهِ الذي أَنْزَلَ، إِلَّا مَنْ أَرَادَ اللهُ إِيمانَهُ وهداهُ إلى ذلك، فلا تَحْزَنْ يا رسولَ اللهِ، إذا رأيتَ منهم إنكارًا لرسالتِك وإعراضًا عن دعوتِكَ.
قولُهُ تعالى: {وَمَا تَسْأَلُهُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ} الواوُ: للعطفِ. و "ما" نافِيَةٌ لا عملَ لها. و "تَسْأَلُهُمْ" فِعْلٌ مضارعٌ مرفوعٌ لتجرُّدِهِ مِنَ الناصِبِ والجازمِ، وفاعلُهُ ضَميرٌ مستترٌ فيهِ وُجوبًا تقديرُهُ (أنتَ) يعودُ على سيِّدنا محمَّدٍ ـ عليهِ الصلاةُ والسلامُ. والهاء: ضميرٌ متَّصلٌ بهِ في محلِّ نصبِ مفعولِهِ الأوِّل. و "عَلَيْهِ" حرفُ جرٍّ متعلِّقٌ بِـ الفعلِ "تسألُ"، والميمُ علامةُ المُذكَّرِ. و "مِنْ" حرفُ جرٍّ زائدٍ، و "أَجْرٍ" مجرورٌ لفظًا بِـ "مِنْ" منصوبٌ محلًا على أنَّهُ المفعولُ الثاني لـِ "تسألُ"، والجُمْلَةُ مَعطوفةٌ عَلَى جُمْلَةِ قولِهِ: {وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ}.
قولُهُ: {إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ} إِنْ: نافِيَةٌ بمعنى (ما)، لا عَمَلَ لها. و "هُوَ" ضميرٌ منفصلٌ مبنيٌّ على الفتحِ في محلِّ الرفعِ بالابْتِداءِ. و "إِلَّا" أداةُ اسْتِثْنَاءٍ مُفَرَّغٍ، أو أداةُ حَصْرٍ. و "ذِكْرٌ" خَبَرُ المُبْتَدَأِ مرفوعٌ، و "لِلْعَالَمِينَ" حرفُ جرٍّ مُتَعَلِّقٌ بِالخَبَرِ، ومجرورٌ به، وعلامةُ جرِّه الياءُ لأنَّهُ جمعُ المُذكَّرِ السالمُ، والجُمْلَةُ مُسْتَأْنَفَةٌ مَسُوقَةٌ لِتَعْليلِ مَا قَبْلَهَا لا محلَّ لها مِنَ الإعراب.
قرأَ العامَّةُ: {وما تسألُهم} بالتاءِ، فيعودُ الضميرُ إلى النبيِّ ـ عليه الصلاةُ والسلامُ، وقرَأَ بِشْرُ بْنُ عُبَيْدٍ: "وَمَا نَسْأَلُهُمْ" بِالنُّونِ، فيعودُ الضميرُ إلى اللهِ تعالى.