فيض العليم ... سورة يوسف، الآية: 103
وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ
(103)
قولُهُ ـ تعالى جَدُّهُ: {وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ} تُشيرُ هذِهِ الآيةُ الكَريمَةُ إِلى أَنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَيْسُوا بِمُؤمِنينَ، مَعَ كَثْرَةِ الأَدِلَّةِ التي تُوجِبُ الإيمانَ وتَضَافِرِها، لأَنَّ مَدارِكَهمْ فاسدةٌ وكذلك مَقاصِدُهم، فلا يَنْفَعُهم حِرْصُ حريصٍ ولا نُصحُ ناصحٍ، ولوْ أُقيمَ لَهم مِنَ الشَّواهِدِ والآياتِ والدَلالاتِ كلُّ ما أمكنَ إقامتُهُ.
والمُرادُ بالنَّاسِ، كُلُّ مَنْ يَشْمَلُهُمْ هذا الاسْمُ مِنْ عَرَبٍ وعَجَمٍ، أَبْيَضِهم وأَسْوَدِهم، أَصْفَرَهم وأَحْمَرِهم. وقيلَ: المُرادُ أَهْلُ مَكَّةَ والمُشْرِكِونَ، وقيلَ: أَهلُ الكتابِ، وقيلَ: المُنافقون، واللهُ أعلمُ.
وعَلَى أَنَّ المُرادَ بالنَّاسِ هم أَهْلُ مَكَّةَ، فإنَّ المعنى: ومَا أَكْثَرُ النَّاسِ ولوْ حَرَصْتَ عَلى إِيمانِهم بِمُؤمنينَ لكَ، ومُسْلِمينَ بِهَذِهِ الأَدِلَّةِ، إلى أنْ تُصبِحَ كَلِمَةُ اللهِ هِيَ العُلْيا، فبَعْدَ فتحِ مَكَّةَ صَارَ أَكْثَرُ النَّاسِ مُؤمنينَ، وكانَ مِنْهم أَبْطالٌ في الجِهادِ والإمارَةِ وقيادةِ جُيُوشِ الفُتوحِ، أَمْثالَ خالِدِ ابْنِ الوَليدِ، وعِكْرِمَةِ بْنِ أَبي جَهْلٍ وغيرُهما كثيرٌ، وعليهِ فالنَّفْيُ ـ وإِنْ كانَ ظاهرُهُ العُمومَ، فإنَّهُ مُقَيَّدٌ بالزَّمانِ، فقد أَخْبَرَ الحقُّ تعالى عَنْ سابِقِ عِلْمِهِ بِهِمْ، وصادِقِ حُكْمِهِ وحِكْمَتِهِ فيهمْ. وقد يُقالُ: أَقَمْتُكَ شاهدًا لإرادةِ إيمانِهم، وشِدَّةِ الحِرْصِ عَلَى تَحَقُّقِهم بالدِّينِ، وإِيقانِهمْ. وإِنِّي أَعْلَمُ أَنَّ أَكْثرَهم لا يُؤمِنُ، وقد أَخْبَرْتُكَ بِذَلِكَ، وفَرَضَتُ عَلَيْكَ تَصديقي بِهِ.
وَقد رُوِيَ في سِبَبِ نُزولِ هَذِهِ الآيَةِ الكَريمَةِ أَنَّ الْيَهُودَ وَقُرَيْشًا سَأَلُوا رَسُولَ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، عَنْ قِصَّةِ يُوسُفَ ـ عليه السَّلامُ، فَلَمَّا أَخْبَرَهُمْ عَلَى مُوَافَقَةِ التَّوْرَاةِ لَمْ يُسْلِمُوا، فَحَزِنَ النَّبِيُّ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقِيلَ لَهُ: إِنَّهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ وَإِنْ حَرَصْتَ عَلَى إِيمَانِهِمْ. ذكرَهُ ابْنُ الأَنْباريِّ، انْظُرُ: زاد المَسيرِ لابْنِ الجَوْزِيِّ: (4/293)، والبحر المُحيط لأبي حيان الأندلُسيِّ: (5/350).
قولُهُ تعالى: {وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ} الواوُ: اسْتِئْنافيَّةٌ. و "ما" حِجَازِيَّةٌ أَوْ تَميمِيَّةٌ. و "أَكْثَرُ" اسْمُها مرفوعٌ بها، إنْ كانتِ الحجازيَّةَ، أَوْ مُبْتَدَأٌ مرفوعٌ إِنْ كانتِ التميميَّةَ، وهو مضافٌ، و "النَّاسِ" مجرورٌ بالإضافةِ إليهِ. و "وَلَوْ" الواوُ: اعْتِراضِيَّةٌ. و "لو" شَرْطِيَّةٌ. و "حَرَصْتَ" فعلٌ ماضٍ مبنيٌّ على السكونِ لاتِّصالِهِ بتاءِ الفاعِلِ، وهي ضميرٌ متَّصلٌ بهِ مبنيٌّ على الفتحِ في محلِّ رفعِ فاعلِهِ، والجُمْلَةُ فِعْلُ شَرْطٍ لِـ "لو"، وجَوابُ "لو" محذوفٌ لِدَلالَةِ ما قبْلَهُ عَلَيْهِ والتقديرُ: ولَوْ حَرَصْتَ عَلى هِدايَتِهمْ وبالَغْتَ في دَعْوَتِهم لا يُؤْمنونَ، وجُمْلَةُ "لو" اعْتِراضِيَّةٌ لا مَحَلَّ لها مِنَ الإعْرابِ لاعْتِراضِها بَيْنَ "ما" وخَبَرِها. و "بِمُؤْمِنِينَ" الباءُ: حرفُ جرٍّ زائدٌ، و "مؤمنينَ" مجرورٌ به لفظًا، منصوبٌ مَحَلًّا، عَلَى أَنَّهُ خَبَرُ "ما" الحجازيَّةِ، أَوْ أنَّهُ مرفوعٌ محلًّا على أنَّهُ خبَرُ المُبْتَدَأِ إنْ كانت "ما" تميميَّةً، وعلامةُ الجرِّ هي الياءُ لأنَّهُ جمعُ المذكَّرِ السالمُ، والنونُ عوضٌ منَ التنوينِ في الاسْمِ المُفردِ، والجُمْلَةُ هذه مُسْتَأْنَفَةٌ لا محلَّ لها مِنَ الإعرابِ.
ويُقرَأُ: "حَرِصَ" أوْ "حَرَصَ" لأَنَّها مِنْ بابِ (ضَرَبَ) و (عَلِمَ) وكلاهُما لُغَةٌ فَصِيحَةٌ.