فيض العليم ... سورة يوسف، الآية: 101
رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَنْتَ وَلِيِّي فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ تَوَفَّنِي مُسْلِمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ (101)
قولُهُ ـ جلَّ شأنُهُ: {رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ} أيْ: أَعْطَيْتَنِي بعضَ المُلْكِ، وهوَ مِلْكُ مِصْرَ، وهو الظاهرُ. أَيْ: بَعْضًا عَظيمًا مِنْهُ، فالتَّعْظيمُ هَهُنا هو ما يَقْتَضَيَهِ المَقامِ، وقدَّرَ بَعْضُهم (عَظيمًا) هَهُنا عَلَى أَنَّهُ مَفْعولٌ بِه في النَّظْمِ الجَليلِ ولَيْسَ بِشَيْءٍ. وَالْمُلْكُ: اتِّسَاعُ الْمَقْدُورِ لِمَنْ لَهُ السِّيَاسَةُ وَالتَّدْبِيرُ، وقيلَ: المُرادُ بالمُلْكِ هُنَا مُلْكُ نَفْسِهِ مِنْ إِنْفاذِ شَهْوَتِهِ. وقيلَ: مُلْكُ حُسَّادِهِ بالطاعَةِ، ونَيْلِ الأَماني مِنْ المُلْكِ.
قولُهُ: {وَعَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ} أَي: علَّمْتَني تأْويلَ الأحلامِ، وهو الظَّاهِرُ، أَوْ عَلَّمْتَني شَرْحَ غوامِضِ أَسْرارِ الكُتُبِ الإلهيَّةِ وسُنَنِ الأَنْبِياءِ ـ عَلَيْهِمُ الصَّلاةُ والسَّلامُ، وسِيَرَهم، فَهُوَ في مَقامِ تَعْدادِ النِّعَمِ الفائضَةِ عَلَيْهِ مِنَ اللهِ ـ سُبْحانَهُ وتعالى.
وقدِ امْتَدَحَ اللهُ ـ سبحانَهُ وتَعالى نَبِيَّهُ يوسُفَ ـ عليهِ الصلاةُ والسَّلامُ، في ثَمَانِيَةِ مَوَاضِعَ مِنْ هَذِهِ السُّورَةِ المُبَارَكَةِ، وأَثنى عَلَيْهِ فِيها بما مَيَّزَهُ بِهِ مِنْ غُرِّ الصِفَاتِ والخِلالِ، ورَفيعِ السِّماتِ والأعمالِ، وكريمِ الأَخلاقِ والفَعَالِ عَلى كَثيرٍ مِنْ عِبَادِهِ:
أَوَّلُها: أَنَّ إِخْوتَهُ لَمَّا فَعَلوا بِهِ مَا فَعَلوا، صَرَفَ العَداوَةَ مِنْ إِخْوتِهِ إِلى الشَيْطانِ فقال: {مِنْ بَعْدِ أَنْ نَزَغَ الشَيْطَانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوِتِي} الآية: 100، السابقة من هذه السورةِ.
ثانيها: أنَّهُ قالَ حِينَ راوَدَتْهُ امْرَأَةُ العَزيزِ عَنْ نَفْسِهِ: {إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ} الآية: 23، من هذه السُّورةِ المُباركةِ، فَعَرَفَ حُرْمَةَ سَيِّدِهِ، ولَمْ يَهْتِكْ حُرْمَتَهُ.
ثالثُها: أنَّهُ اخْتَارَ السّجْنَ عَلَى الشَّهْوةِ الحَرامِ فَقَال في الآيةِ: 33، مِنْ هذِهِ السُّورةِ: {رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إلَيْهِ}.
رابعُها: أَنَّهُ قالَ: {وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لأَمَّارَةٌ بالسُّوءِ} الآية: 53، من هذه السورة، بعدَ مَا ظَهَرَ أَنَّ الذَنْبَ كانَ مِنْ غَيْرِهِ.
خامِسُها: قولُهُ لإخْوَتِه في الآية: 92، من هذه السورة: {لاَ تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ} وذلك لَمَّا اعْتَذَرَوا إِلَيْهِ.
سادسُها: أَنَّهُ بَعَثَ قَميصَهُ لأَبيهِ عَنْ طريقِ إخوتِهِ لِيَدْخُلوا بِهِ عَلَيْهِ بالبُشْرَى والشِّفاءِ، كَمَا دخلوا عليه بقميصِهِ في الابْتِداءِ، فأَدْخَلوا الحزنَ عَلى قلبِ أَبيهم، فقال في الآية: 93، من هذه السورة: {اذْهَبُوا بِقَمِيصِي هَذَا}.
سابِعُها: أَنَّه لَمْ يَذْكُرْ مَا لَقِيَ مِنَ الشِّدَّةِ والعَنَتِ، عندَ أَبيهِ حينَ لقِيَهُ، وإِنَّما ذَكَرَ النِّعمَ التي أكرمَهُ اللهُ بها، وذلك لِيُدْخِلَ عَلَى قَلْبِ أَبيهِ السُرورَ والبهجةَ فقال في الآيةِ التي قبلها: {يَا أَبَتِ هَذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَعَلَهَا رَبِّي حَقًّا وَقَدْ أَحْسَنَ بِي إذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ وَجَاءَ بِكُمْ مِّنَ البَدْوِ} الآية: 100.
والثامِنُ: أَنَّهُ تَمَنَّى المَوْتَ وحُسْنَ الخاتِمةِ وذلك حينَ تَمَّ لهُ أَمْرُهُ فيها فَقَالَ هنا: "تَوَفَّنِي مُسْلِمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ".
قولُهُ: {فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} أَيْ: خَالِقُهَا وَمُبْدِئُهَا وَمُنْشِئُهَا وَمُخْتَرِعُهَا عَلَى الْإِطْلَاقِ مِنْ غيرِ شَيْءٍ وَلَا مِثَالٍ سَبَقَ. فقد ناداهُ بِوَصْفٍ جامِعٍ للعِلْمِ والحِكْمَةِ، أَيْ: يا عَالِمَ الأَسْماءِ والصِّفاتِ التي قَدِ انْعَكَسَتْ مِنْها هَذِهِ الأَظْلالُ الهالِكَةُ الشَّهَادِيَّةُ، أَنْتَ بِذَاتِكَ بَعْدَ مَا قَدْ تَحَقَّقْتُ بِتَوْحِيدِكَ، وانْكَشَفْتَ بِهِ وارْتَفَعَتِ الحُجُبُ بَيْنِي وبَيْنَكَ.
قولُهُ: {أَنْتَ وَلِيِّي فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ} أَيْ: نَاصِرِي وَمُتَوَلِّي أُمُورِي فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وأَنْتَ وَلِيّي تَتَوَلَّاني بالنِّعْمَةِ في الدَّارَيْنِ، وتُوصِلُ المُلْكَ الفاني بالمُلْكِ الباقي. وَأنتَ حامِلُ أَسْراري، وفِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ، أيْ: في النَّشْأةِ الأُولى والأُخرى.
قولُهُ: {تَوَفَّنِي مُسْلِمًا} أَيْ: تَوَفَّني إذا حانَ أَجَلِي عَلَى الإسْلامِ، فقد تَمَنَّى الوَفاةَ عَلَى الإِسْلامِ، ولم يَتَمَنَّ المَوْتَ، وهو ظاهِرُ الآيَةِ، فهوَ دُعاءٌ بأَنْ يُتِمَّ اللهُ عليه نِعمَهُ في باقي أَمْرِهِ بعدَ أَنْ عَدَّدَ نِعَمَ اللهِ عَلَيْهِ. قَالَ سَهْلُ بْنُ عَبْدِ اللهِ التُّسْتَرِيُّ: لَا يَتَمَنَّى الْمَوْتَ إِلَّا ثَلَاثٌ: رَجُلٌ جَاهِلٌ بِمَا بَعْدَ الْمَوْتِ، أَوْ رَجُلٌ يَفِرُّ مِنْ أَقْدَارِ اللهِ تَعَالَى عَلَيْهِ، أَوْ مُشْتَاقٌ مُحِبٌّ لِلِقَاءِ اللهِ ـ عَزَّ وَجَلَّ. وَثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ أَنَّ رَسُولُ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قال: ((لَا يَتَمَنَّيَنَّ أَحَدُكُمُ الْمَوْتَ لِضُرٍّ نَزَلَ بِهِ فَإِنْ كَانَ لَا بُدَّ مُتَمَنِّيًا فَلْيَقُلِ اللَّهُمَّ أَحْيِنِي مَا كَانَتِ الْحَيَاةُ خيرًا لي وتَوَفَّني إِذَا كَانَتِ الْوَفَاةُ خَيْرًا لِي)) رَوَاهُ مُسْلِمٌ في صحيحِهِ مِنْ حَديثِ أَنَسٍ ـ رَضِيَ اللهُ عنه. وَأخرجَ فيه أَيضًا عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ ـ رضي اللهُ عنهُ، أنَّهُ قَال: قَالَ رَسُولُ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((لَا يَتَمَنَّيَنَّ أَحَدُكُمُ الْمَوْتَ وَلَا يَدْعُ بِهِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَهُ، إِنَّهُ إِذَا مَاتَ أَحَدُكُمُ انْقَطَعَ عَمَلُهُ، وَإِنَّهُ لَا يَزِيدُ الْمُؤْمِنَ عُمُرُهُ إِلَّا خَيْرًا)). قالوا: بِأَنَّهُ لا يَجُوزُ تَمَنِّي الْمَوْتِ وَالدُّعَاءِ بِهِ، إلَّا عِنْدَ ظُهُورِ الْفِتَنِ وَغَلَبَتِهَا، وَخَوْفِ ذَهَابِ الدِّينِ.
وَإِذَا ثَبَتَ هَذَا فَكَيْفَ يُقَالُ: إِنَّ يُوسُفَ ـ عَلَيْهِ السَّلَامُ، تَمَنَّى الْمَوْتَ وَالْخُرُوجَ مِنَ الدُّنْيَا وَقَطْعَ الْعَمَلِ؟ هَذَا بَعِيدٌ جدًّا! إِلَّا أَنْ يُقَالَ: إِنَّ ذَلِكَ كَانَ جَائِزًا فِي شَرْعِهِ، فقد ذَكَرَ كَثيرٌ مِنَ المُفَسِّرينَ ـ رحمَهُمُ اللهُ ورَضِيَ عنهم، أَنَّه لَمَّا عَدَّ يوسُفُ نِعَمَ اللهِ تعالى عليهِ، تَشَوَّقَ إِلى لِقاءِ رَبِّهِ، ورأَى أَنَّ الدُنْيا فانيةٌ فَتَمَنِّى المَوْتَ عِنْدَ ذَلكَ. وقالَ ابْنُ عَبَّاسٍ ـ رضيَ اللهُ عنهما: لمْ يَتَمَنَّ المَوْتَ حَيٌّ غَيْرُ يُوسُفَ ـ عَلَيْهِ السَّلامُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جريرٍ، وَابْنُ الْمُنْذرِ، وَابْنُ أبي حَاتِم، وَأَبُو الشَّيْخ من طَرِيقِ ابْنِ جُرَيْجٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ـ رَضِي اللهُ عَنْهُمَا، فِي الْآيَة قَالَ: اشْتَاقَ إِلَى لِقَاءِ اللهِ، وَأَحَبَّ أَنْ يُلْحَقَ بِهِ بآبائِهِ، فَدَعَا اللهَ أَنْ يَتَوَفَاهُ، وَأَنْ يُلْحِقَهُ بِهمْ. وأَخْرَجَ ابْنُ جَريرٍ، وَأَبُو الشَّيْخِ، عَنِ الضَّحَّاكِ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، فِي قَوْلِهِ تعالى: "تَوَفَّني مُسْلِمًا وأَلْحِقْنِي بالصَّالِحينَ" يَقُولُ: تَوَفَّنِي عَلى طَاعَتِكَ واغْفِرْ لي إِذا تَوَفَّيْتَني. وَأَخرَجَ الإمامُ أَحْمدُ فِي الزُّهْدِ منْ مُسْنَدِهِ، وَابْنُ جَريرٍ، وَابْنُ أَبي حَاتِمٍ، عَنْ قَتَادَةَ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، قَالَ: لَمَّا قَدِمَ عَلى يُوسُفَ أَبوهُ وإخوَتُهُ، وَجَمَعَ اللهُ شَمْلَهُ، وَأَقَرَّ عَيْنَيْهِ ـ وَهُوَ يَوْمئِذٍ مغموسٌ فِي نَعيمٍ مِنَ الدُّنْيَا، اشْتاقَ إِلَى آبَائِهِ الصَّالِحين: إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَقَ وَيَعْقُوبَ، فَسَأَلَ اللهَ الْقَبْضَ، وَلَمْ يَتَمَنَّ الْمَوْتَ أَحَدٌّ قَطُّ نَبِيٌّ وَلَا غَيرُهُ إِلَّا يُوسُفَ.
وقدْ ماتَ ـ عَلَيْهِ السَّلامُ، عَنْ مِئَةٍ وعِشْرينَ سَنَةً، ولَهُ مِنَ الوَلَدِ: افراثيم، ومنشا، ورَحمةُ، زَوجةُ أَيُّوبَ ـ عَلَيْهِ السَّلامُ. قالَ الإمامُ الحافظُ الذَّهَبِيُّ: ووُلِدَ لافراثيمَ نونُ، ولِنونَ يُوشَعُ، وهوَ فتَى مُوسى ـ عَلَيْهِ السلامُ. ووُلِدَ لِمنشا مُوسى، وهوَ قبلَ موسى بْنِ عِمرانَ ـ عليه السّلامُ، الذي يَزعمُ أَهلُ التوراةِ أَنَّه صاحبُ الخَضِرِ، وكان ابنُ عبّاسٍ ـ رَضي اللهُ عنهما، يُنكرُ ذلكَ. وقد ثَبَتَ في الصَّحيحِ أَنَّ صاحِبَ الخَضِرِ هوَ مُوسَى بْنُ عِمرانَ، وتوارثتِ الفَراعِنَةُ مُلْكَ مِصْرَ، ولم تَزَلْ بَنُو إِسْرائيلَ تَحْتَ أَيديهم على بَقايا دِينِ يُوسُفَ ـ عَلَيْهِ السَّلامُ، إِلى أَنْ بُعِثَ مُوسَى ـ عَلَيْهِ الصلاةُ والسَّلامُ. وقَدْ أَرادوا أَنْ يَحْمِلوا جِسْمانَ يُوسُفَ إِلى الأَرْضِ المُقَدَّسَةِ، عملًا بوَصيَّتِهِ، إلَّا أَنَّ أهلَ مِصْرَ لم يَتْرُكوهم، واخْتَلَفُوا في دَفْنِهِ، وَأَرادَ أَهْلُ كُلِّ مَحَلَّةٍ أَنْ يُدْفَنَ في مَحَلَّتِهم، حَتّى كادوا يَقْتَتِلونَ فيما بيْنَهم، ثمَّ اتَّفَقوا عَلَى أَنْ يُدْفَنَ عِنْدَ قِسْمَةِ مِياهِهِم في أَعْلى نِيلِ مِصْرَ، لِتُصيبَ بَرَكتُهُ كلَّ أَهْلِ مِصْرَ. وقد بقيَ هُناكَ إِلى زَمَنِ مُوسَى ـ عَلَيْهِ الصلاةُ والسَّلامُ، حيثُ رَفَعَهُ مَوسَى، وحَمَلَهُ إِلى الأَرْضِ المُقَدَّسةِ، ودَفَنَهُ عِنْدَ آبائهِ، وكانَ يُوسُفُ قد أَوْصَى بذلكَ بَني إِسْرائيلَ إِذا هم خَرَجوا مِنْ أرضِ مِصْرَ. فقدْ أَخْرَجَ ابْنُ أَبي حَاتِمٍ عَنْ سَعيدِ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيز ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، أَنَّ يُوسُفَ ـ عَلَيْهِ السَّلَامُ، لَمَّا حَضَرَتْهُ الْوَفَاةُ قَالَ: يَا أُخْوتَاهُ، إِنِّي لَمْ اَنْتَصِرْ مِنْ أَحَدٍ ظَلَمَنِي فِي الدُّنْيَا، وَإِنِّي كُنْتُ أُحِبَّ أَنْ أُظْهِرَ الْحَسَنَةَ وأُخْفيَ السَّيئَةَ، فَذَلِكَ زَادي مِنَ الدُّنْيَا. يَا أُخْوتَاهُ إِنِّي أَشْرَكْتُ آبَائِي فِي أَعْمَالِهم، فأَشْرِكوني مَعَهم فِي قُبُورِهم. وَأَخَذَ عَلَيْهِمُ الْمِيثَاقَ فَلم يَفْعَلُوا حَتَّى بَعَثَ اللهُ مُوسَى ـ عَلَيْهِ السَّلَامُ، فَسَأَلَ عَنْ قَبْرِهِ فَلَمْ يَجِدْ أَحَدًا يُخْبِرُهُ إِلَّا امْرَأَةً يُقَالُ لَهَا شارِخُ بِنْتُ شِيرا بْنِ يَعْقُوبَ فَقَالَتْ: أَدُلُّكَ عَلَيْهِ عَلَى أَنْ أَشْتَرِطَ عَلَيْكَ. قَالَ ذَاكَ لَكِ قَالَتْ: أَصِيرُ شَابَّةً كُلَّمَا كَبِرْتُ. قَالَ: ذَلِكَ لَكَ. قَالَتْ: وأَكُونُ مَعَكَ فِي دَرَجَتِكَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ. فَكَأَنَّهُ امْتَنَعَ، فَأُمِرَ أَنْ يُمْضِيَ لَهَا ذَلِكَ، فَفعلَ، فدَلَّتْهُ عَلَيْهِ، فَأخْرجَهُ، فَكَانَتْ كلَّمَا كَانَتْ بِنْتَ خَمْسينَ سَنَةً صَارَتْ مِثْلَ ابْنَةِ ثَلَاثِينَ حَتَّى عَمَّرَتْ عُمْرَ نِسْرَيْنِ أَلْفٌ وسِتُّمِئَةِ سَنَة. أَوْ أَلْفٌ وَأَرْبَعُمِئَةٍ، حَتَّى أَدْرَكَهَا سُلَيْمَانُ بْنُ دَاوُدَ ـ عَلَيْهِما السَّلَامُ فَتَزَوَّجَهَا. وَأَخْرَجَ ابْنُ إِسْحَقَ، وَابْنُ أَبي حَاتِمٍ، عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبيْرِ ـ رَضِيَ اللهُ عَنهُما، قَالَ: إِنَّ اللهَ حِينَ أَمَرَ مُوسَى ـ عَلَيْهِ السَّلَامُ، بالسَّيْرِ بِبَني إِسْرَائِيلَ، أَمَرَهُ أَنْ يَحْتَمِلَ مَعَهُ عِظَامَ يُوسُفَ ـ عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَأَنْ لَا يُخَلِّفَها بِأَرْضِ مِصْرَ، وَأَنْ يَسيرَ بِهَا حَتَّى يَضَعَهَا بِالْأَرْضِ المُقَدَّسَةِ، فَسَأَلَ مُوسَى ـ عَلَيْهِ السَّلَامُ، عَمَّنْ يَعْرِفُ مَوْضِعَ قَبْرِهِ، فَمَا وَجَدَ إِلَّا عَجوزًا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ، فَقَالَتْ: يَا نَبِيَّ اللهِ إِنِّي أَعْرِفُ مَكَانَهُ، إِنْ أَنْتَ أَخْرَجْتَني مَعَكَ وَلَمْ تُخَلِّفْني بِأَرْضِ مِصْرَ دَلَلْتُكَ عَلَيْهِ. قَالَ: أَفْعَلُ. وَقد كَانَ مُوسَى وَعَدَ بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنْ يَسيرَ بِهم إِذا طَلَعَ الْفجْرُ، فَدَعَا رَبَّهُ أَنْ يُؤَخِّرَ طُلُوعَهُ حَتَّى يَفْرُغَ مِنْ أَمْرِ يُوسُفَ، فَفَعَلَ. فَخَرَجَتْ بِهِ الْعَجُوزُ حَتَّى أَرَتْهُ إِيَّاهُ فِي نَاحِيَةٍ مِنَ النِّيلِ، فِي المَاءِ، فاسْتَخْرَجَهُ مُوسَى ـ عَلَيْهِ السَّلَامُ، صُنْدُوقًا مِنْ مَرْمَرٍ فاحْتَمَلَهُ.
قولُهُ: {وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ} أَي: اجْعَلْنِي مَعَ آبائي الصَّالِحينَ وهُمْ إِبْراهيمَ وإِسْحاقَ ويَعْقوبَ. فقد أَخْرَجَ أَبُو الشَّيْخِ عَنِ الضَّحَّاكِ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، فِي قَوْلِهِ: "وأَلْحِقْنِي بالصَّالِحينَ" قَالَ: يَعْنِي إِبْرَاهِيم وَإِسْمَاعِيل وَإِسْحَق وَيَعْقُوب. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبي حَاتِمٍ، عَنْ وَهْبِ بْنِ مُنَبِّهٍ ـ رَضِي اللهُ عَنْهُ، قَالَ: لَمَّا أُوتِيَ يُوسُفُ ـ عَلَيْهِ السَّلَامُ، مِنَ الْمُلْكِ مَا أُوتِيَ، تاقَتْ نَفْسُهُ إِلَى آبَائِهِ، قَالَ: "رَبِّ قَدْ آتَيْتَني مِنَ الْمُلْكِ: إِلَى قَوْلِهِ: "وأَلْحِقْنِي بالصَّالحينَ" قال: آباؤُهِ إِبْرَاهِيمَ، وَإِسْحَقَ، وَيَعْقُوبَ ـ عَلَيْهِمُ الصلاةُ والسَّلامُ.
وَقيلَ المرادُ: مَعَ أَهْلِ الجَنَّةِ الصَّالِحِينَ، لِمَا أَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبي حَاتِمٍ، عَنْ عِكْرِمَةَ ـ رَضِي اللهُ عَنْهُ، فِي قَوْلِهِ: "تَوَفَّني مُسْلِمًا وأَلْحِقْني بالصّالِحينَ" قَالَ: يَعْنِي أَهْلَ الْجَنَّةِ. ويجوزُ أنْ يكونَ المرادُ "بالصالحين" الأَنْبِياءَ المُرْسَلِينَ ـ عَلَيْهِمُ الصَّلاةُ والسَّلامُ أَجمعينَ. وَحَقِيقَتُهُ الْإِلْحَاقُ: أَنْ يُجعَلَ الشَّيْءُ لَاحَقًا، أَيْ مُدْرِكًا مَنْ سَبَقَهُ فِي السَّيْرِ. وَقد أُطْلِقَ هُنَا عَلَى الْمَزِيدِ فِي عِدَادِ قَوْمٍ مَجَازًا.
قولُهُ تعالى: {رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ} رَبِّ: منصوبٌ بالنداءِ مُضافٌ حُذِفَ مِنْهُ حَرْفُ النِّداءِ تَخفيفًا، وعلامةُ النَّصبِ مقدَّرَةٌ عَلى مَا قبلِ ياءِ المُتَكَلِّمِ المَحذوفَةِ اجْتِزاءً عَنْها بالكَسْرَةِ، وهوَ مُضافٌ، وياءُ المُتَكَلِّمِ المَحذوفةُ ضميرٌ متَّصلٌ به مبنيٌّ على السكونِ في محَلِّ الجَرِّ بالإضافَةِ إِلَيْهِ، وجُمْلَةُ النِّداءِ هذه في مَحَلِّ النَّصْبِ مَقولَ القولِ لِـ "قاَلَ". و "قَدْ" حرفُ تَحْقيقٍ. "آتَيْتَنِي" فعلٌ ماضٍ مبنيٌّ على السكونِ لاتِّصالِهِ بتاءِ الفاعلِ، وهي ضَميرٌ مُتَّصلٌ بهِ في محلِّ رفعِ فاعلِهِ، والنُّونُ للوِقايَةِ، وياءُ المتكلِّمِ ضميرٌ متَّصلٌ بِهِ مبنيٌّ على السكونِ في محلِّ النَّصْبِ مَفعولٌ بهِ أَوَّلٌ. و "مِنَ" حَرْفُ جَرٍّ متعلِّقٌ بِالفعْلِ "آتَيْتَني" عَلَى كَوْنِهِ مَفْعولًا ثانيًا لهُ؛ لأَنَّهُ بِمَعْنَى (أَعْطَيتني)، وقالَ أبو البقاءِ العُكْبُريُّ: المَفْعولُ الثاني مَحذوفٌ تَقْديرُهُ: عَظِيمًا مِنَ المُلكِ، وهِيَ هُنَا للتَّبْعيضِ، وَكَذَلِكَ هي في قَوْلِهِ بعدَ ذلك: "وَعَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحادِيثِ" لِأَنَّ مُلْكَ مِصْرَ مَا كَانَ كُلَّ الْمُلْكِ، وَعِلْمُ التَّعْبِيرِ مَا كَانَ كُلَّ الْعُلُومِ، وقِيلَ هيَ للجِنْسِ، كما هي في قولِهِ تَعَالى مِنْ سُورَةِ الحَجِّ: {فاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الأَوْثانِ} الآية: 30، وهُوَ بَعِيدٌ، وبَعيدٌ أَيْضًا قَوْلُ مَنْ جَعَلَها زائدَةً، فهي عِنْدَهُ للتوكيدِ. و "الْمُلْكِ" مَجْرورٌ بِـ "مِن". وهذه الجُملةُ الفعليَّةُ في مَحَلِّ النَّصْبِ بِ "قَالَ" عَلَى أَنَّها جوابُ نِداءٍ لها.
قولُهُ: {وَعَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ} الواوُ: للعطفِ، و "عَلَّمْتَنِي" مثلُ "آتَيْتَنِي" معطوفةٌ عليها. و "مِنْ" تقدَّمَ إعرابُها. و "تَأْوِيلِ" مجرورٌ به مضافٌ، أوْ مَفعولٌ ثانٍ، و " الْأَحَادِيثِ" مجرورٌ بالإضافةِ إِلَيْهِ. أَو أنَّ المفعولَ الثانيَ مَحْذوفٌ؛ أَيْ: شَيْئًا عَظيمًا مِنَ المُلْكِ، كما تقدمَ، فهي إذًا صِفَةٌ لِذَلِكَ المَحْذوفِ، وقيلَ: زائدةٌ، وقيلَ: لِبَيانِ الجِنْسِ، وقد تقدَّمَ بيانُ ذلك في إعرابِ سابقتِها.
قولُهُ: {فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} فَاطِرَ: نَعْتٌ لِـ "رَبِّ"، أَوْ بَدَلٌ منه، أَوْ عَطْفُ بَيانٍ لهُ، أَوْ مَنْصوبٌ على الاختصاصِ بإِضْمارِ أخصُّ أو أعني، أَوْ بالنداءِ على أَنَّهُ المُنادى الثانِي، وهو مضافٌ، و "السَّمَاوَاتِ" مجرورٌ بالإضافةِ إِلَيْهِ، و "وَالْأَرْضِ" حرفُ عطفٍ واسمٌ معطوفٌ عَلَى السمواتِ مجرورٌ مثلُهُ.
قولُهُ: {أَنْتَ وَلِيِّي فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ} أَنْتَ: ضميرٌ منفصلٌ مبنيٌّ في محلِّ الرفعِ مُبْتَدَأٌ، و "وليي" خَبَرُهُ مرفوعٌ، وعلامةُ رفعِهِ الضمةُ المقدَّرةُ على آخرِهِ لانشغالِ المحلِّ بالحركةِ المناسبةِ لياءِ المتكلِّمِ وهي الكسرةُ، وهو مُضافٌ، وياءُ المتكلِّمِ ضميرٌ متَّصلٌ مبنيٌّ في محلِّ الجرِّ بالإضافةِ إليهِ، والجُمْلَةُ في مَحَلِّ النَّصْبَ بِـ "قَالَ". و "فِي" حرفُ جَرٍّ متعلقٌ بِـ "وَلِيِّي"، و "الدُّنْيَا" مجرورٌ بهِ وعلامةُ جرِّهِ الكسرةُ المقدَّرةُ على آخره لتعذُّرِ ظهورها على الألف. و "وَالْآخِرَةِ" حرفُ عطفٍ ومعطوفٌ على "الدُّنْيَا" مجرورٌ مثلُهُ.
قولُهُ: {تَوَفَّنِي مُسْلِمًا} تَوَفَّنِي}: فعلُ طلبٍ مَبْنِيٌّ على حذفِ حَرْفِ العِلَّةِ مِنْ آخِرِهِ، وفاعلُهُ ضَميرٌ مستترٌ فيهِ وجوبًا تقديرُهُ (أنت) يَعودُ عَلَى "ربِّ"، والنونُ للوقايةِ، وياءُ المتكلِّمِ ضميرٌ متَّصلٌ به مبنيٌّ في محلِّ النَّصبِ مفعولٌ بِهِ. و "مُسْلِمًا" حالٌ مِنَ المَفعولِ بهِ، والجُمْلةُ في مَحَلِّ النَّصْبِ بِـ "قَالَ".
قولُهُ: {وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ} الواوُ للعطفِ، و "أَلْحِقْنِي" مثلُ "توفني"، معطوفةٌ عليها. و "بِالصَّالِحِينَ" الباءُ حرفُ جرٍّ متعلِّقٌ بِـ "ألحقني"، ومجرورٌ به علامةُ جرِّهِ الياءُ لأنَّهُ جمعُ المذكَّرِ السالمُ، والنونُ عِوَضٌ من التنوينِ في الاسمِ المفردِ.
وقرَأَ عبدُ اللهِ بْنُ مسعودٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: (آتَيْتَنِ)، و (عَلَّمْتَنِ) بحذفِ الياءِ مِنْهُما اكْتِفاءً بالكَسْرَةِ عَنْهما، مَعَ كَوْنِهِما ثابِتَتَيْنِ خَطًّا. وقرأَ عَمْرُو