قَالَ سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّي إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (98)
قولُهُ ـ تعالى شأْنُهُ: {قَالَ سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّي} ظَاهِرُ الْكَلَامِ أَنَّهُ لَمْ يَسْتَغْفِرْ لَهُمْ فِي حينِهِ، بَلْ وَعَدَهُمْ بِذَلِكَ، وَقد اخْتَلَفُوا فِي سَبَبِ هَذَا، فقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا: أَرَادَ أَنْ يَسْتَغْفِرَ لَهُمْ فِي وَقْتِ السَّحَرِ رَجَاءَ الْإِجَابَةِ، لِأَنَّ هَذَا الْوَقْتَ أَوْفَقُ الْأَوْقَاتِ، وَالْأَكْثَرُون على هذا. ونُقِلَ عَنْهُ أيضًا فِي رِوَايَةٍ أُخْرَى قولُهُ: أَخَّرَ الِاسْتِغْفَارَ إِلَى لَيْلَةِ الْجُمُعَةِ، لِأَنَّهَا أَوْفَقُ أَوْقَاتِ الإِجَابَةِ. وقيل: أخَّرَ الاستغفار لهم لأنَّهُ أَرَادَ التأكُّدِ منْ أَنَّهُمْ تَابُوا حَقِيقَةً. وقيل: إنَّما أَخَّرَ الاستغفارَ بينما عجَّلَهُ يوسُفُ لأَنَّ مَطلوباتِ البِرِّ مِنَ الأَخِ لأُخْوَتِهِ غيرُ مَطلوباتِ البِرِّ مِنْ الابْنِ لأَبيهِ؛ لأنَّ الأَخَ لَيْسَ لَهُ نَفْسُ حَقِّ الأَبِ؛ لِذلِكَ فإنَّ غَضَبَ الأَبِ يَكونُ أَشَدَّ مِنْ غَضَبِ الأَخِ. وقيل: بلِ اسْتَغْفَرَ لَهُمْ فِي الْحَالِ، وَإنَّما قَالَ: "سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ" بمَعْنَى أَنِّي سأُدَاوِمُ عَلَى هَذَا الِاسْتِغْفَارِ فِي الْمُسْتَقْبَلَ، فَقَدْ رُوِيَ أَنَّهُ كَانَ يَسْتَغْفِرُ لَهُمْ فِي كُلِّ لَيْلَةِ جُمُعَةٍ فِي نَيِّفٍ وَعِشْرِينَ سَنَةً، كما تقدَّمَ، وَقِيلَ: قَامَ إِلَى الصَّلَاةِ فَلَمَّا فَرَغَ رَفَعَ يَدَيهُ إِلَى السَّمَاءِ وَقَالَ: اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي جَزَعِي عَلَى يُوسُفَ وَقِلَّةَ صَبْرِي عَلَيْهِ، وَاغْفِرْ لِأَوْلَادِي مَا فَعَلُوهُ فِي حَقِّهِ. فَأَوْحَى الله تَعَالَى إِلَيْهِ: قَدْ غَفَرْتُ لَكَ وَلَهُمْ أَجْمَعِينَ.
قولُهُ: {إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} أيْ: إنَّ اللهَ كثيرُ المَغْفِرَةِ، وأَنَّ ذَلكَ الغُفرانَ هو مِنْ رحمتِهِ تعالى بالمؤمنين مِنْ خَلْقِهِ، وهوَ وَصْفٌ للذاتِ العلية، فالرَحمةُ شأنُهُ والمغفرةُ من صفاتِهِ الدائمة. وقد أَكَّدَ ذلك بـ "إنَّ" و "هو" و "أل" التعريف، وقد أَفادتْ هذِهِ الصياغةُ حصرَ المغفرةِ والحمةِ بذاتِهِ العليَّةِ ـ سُبْحانَهُ وتعالى.
قولُهُ ـ تعالى شأْنُهُ: {قَالَ سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّي} قَالَ: فعلٌ ماضٍ مبنيٌّ على الفتحِ، وفاعلُهُ ضَميرٌ مستترٌ فيه جوازًا تقديرُهُ (هو) يَعودُ عَلَى يَعقوبَ ـ عليهِ السلامُ، والجُمْلَةُ مُسْتَأْنَفَةٌ لا محلَّ لها مِنَ الإعراب. و "سَوْفَ" حرْفُ تَنْفيسٍ واستقبالٍ. و "أَسْتَغْفِرُ" فعلٌ مُضارعٌ مرفوعٌ لتجرُّدِهِ مِنَ الناصِبِ والجازمِ، وفاعلُهُ ضَميرٌ مستترٌ فيهِ وجوبًا تقديرُهُ "أنا" يَعودُ على يَعقوبَ ـ عليه السلامُ. و "لَكُمْ" حرفُ جرٍّ متعلق بِهِ و "كم" ضميرُ المخاطَبينَ متَّصلٌ به في محلِّ الجرِّ بحرفِ الجرِّ. و "رَبِّي" مَفعولٌ بِهِ منصوبٌ وعلامةُ نَصْبِهِ الفتحةُ المقدَّرةُ على آخرِهِ لانشغالِ المحلِّ بالحركةِ المناسبةِ لياءِ المتكلمِ، وهو مضافٌ، وياءُ المتكلِّمِ ضميرٌ متَّصلٌ به مبنيٌّ على السكونِ في محلِّ الجرِّ بالإضافةِ إليهِ، والجُملةُ في مَحَلِّ النَّصْبِ بِـ "قَالَ".
قولُهُ: {إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} إِنَّهُ: حرفٌ ناصِبٌ ناسخٌ مشبَّهُ بالفعلِ للتوكيدِ، والهاءُ ضميرٌ متَّصلٌ في محلِّ النَصبِ اسْمُهُ. و "هُوَ" ضَميرُ فَصْلٍ للتوكيدِ، أو ضميرٌ مُنْفَصِلٌ مَبْنِيٌّ على الفتحِ فيِ مَحَلِّ رَفْعٍ مُبْتَدَأٌ. و "الْغَفُورُ" خَبَرٌ أَوَلُ لِـ "إنَّ". أو خبرُ المُبتدأِ "هو" والجملة الإسمية في محلِّ الرفعِ خبرًا ل "إنَّ"، و "الرَّحِيمُ" خَبَرٌ ثانٍ على كلا الحالين، وجُمْلَةُ "إنَّ" في مَحَلِّ النَّصْبِ بالقوْلِ لِـ "قَالَ" عَلَى كَوْنِها مَسوقَةً لِتَعْليلِ مَا قَبْلَهَا.