قَالُوا يَا أَبَانَا اسْتَغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا إِنَّا كُنَّا خَاطِئِينَ
(97)
قولُهُ ـ جَلَّ وعَلا: {قَالُوا يَا أَبَانَا اسْتَغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا} لمَّا رَجَعَ إلى يعقوبَ ـ عليه السلامُ، بَصَرُهُ، واطمأنَّ قلبُهُ إلى أَنَّ ابنَهُ يوسُفَ ما زالَ حيًّا، وأنَّه سوف يراهُ عمَّا قريبٍ، وقَرَّتْ عَينُه بالمَسيرِ إليهِ، وقرَّرَهم عَلى قوْلِهِ: {أَلَمْ أَقُلْ لَّكم}، ناداهُ أَبنَاؤُهُ بالأُبوَّةِ اسْتِدْرارًا لِعاطِفَةِ الأُبُوَّةِ عندَهُ، وكأَنَّهم كانُوا على ثِقَةٍ مِنْ عفوِهِ عَنْهم، فأَبطنُوهُ في الاسْتِغْفارِ واقْتَصَروا عَلَى طَلبِهِ، راجينَ منْهُ والصَّفحَ والسّمَاحَ والمغْفرةَ على ما اقترفوا بِحَقِّهِ وحقِّ أخيهم يوسُفَ ـ عليهِ السلامُ، قال القُرطُبِيُّ في تفسيرهِ الجامعِ لأحكامِ القرآن: (9/262): وَهَذَا الْحُكْمُ ثَابِتٌ فِيمَنْ آذَى مُسْلِمًا فِي نَفْسِهِ أَوْ مَالِهِ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ ظَالِمًا لَهُ، فَإِنَّهُ يَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يَتَحَلَّلَ لَهُ وَيُخْبِرَهُ بِالْمَظْلِمَةِ (بِكَسْرِ اللَّامِ وحُكِيَ فَتْحُها). وَقَدْرِهَا، وَهَلْ يَنْفَعُهُ التَّحْلِيلُ الْمُطْلَقُ أَمْ لَا؟ فِيهِ خِلَافٌ، وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ لَا يَنْفَعُ، فَإِنَّهُ لَوْ أَخْبَرَهُ بِمَظْلِمَةٍ لَهَا قَدْرٌ وَبَالٌ رُبَّمَا لَمْ تَطِبْ نَفْسُ الْمَظْلُومِ فِي التَّحَلُّلِ مِنْهَا. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَفِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ وَغَيْرِهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((مَنْ كَانَتْ لَهُ مَظْلِمَةٌ لأَخيهِ مِنْ عِرْضِهِ أوْ شيءٍ فَلْيُحْلِلْهُ مِنْهُ الْيَوْمَ قَبْلَ أَلَّا يَكُونَ دِينَارٌ وَلَا دِرْهَمٌ إِنْ كَانَ لَهُ عَمَلٌ صَالِحٌ أُخِذَ مِنْهُ بِقَدْرِ مَظْلَمَتِهِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ حَسَنَاتٌ أُخِذَ مِنْ سَيِّئَاتِ صَاحِبِهِ فَحُمِلَ عَلَيْهِ)). قَالَ الْمُهَلَّبُ فَقَوْلُهُ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "أَخَذَ مِنْهُ بِقَدْرِ مَظْلِمَتِهِ" يَجِبُ أَنْ تَكُونَ الْمَظْلِمَةُ مَعْلُومَةَ الْقَدْرِ مُشَارًا إِلَيْهَا مُبَيَّنَةً، وَاللهُ أَعْلَمُ. هذا وقدْ رَجَوْهُ أنْ يَسْتَغْفِرَ لهمُ اللهَ تعالى لأَنَّهُ نبيٌّ فتُسْتَجابُ دعوتُهُ ويُعطيهِ ربُّهُ مَسأَلَتَهُ، ولأنَّهم أَدْخلوا عليْهِ مِنْ آلامِ الحُزنِ ما لا يَسْقُطُ عنه المَأثَمُ إِلَّا بإجْلالِهِ. وقد رُوِيَ أَنَّ يوسُفَ ـ عليهِ السَّلامُ، لمَّا غَفَرَ لإِخْوتِهِ، وتحقَّقوا أَنَّ أباهم يغفرُ لهم، قالَ بعضُهم لبعضٍ: ما يُغْنِي عنَّا هذا إِنْ لم يَغفِرِ اللهُ لَنَا، ولذك فقد طَلَبُوا مِنْ أَبيهِمْ حِينَئِذٍ أَنْ يَسْأَلَ لَهُمُ المَغْفِرَةَ مِنَ اللهِ تَعَالى.
قولُهُ: {إِنَّا كُنَّا خَاطِئِينَ} أيْ: إِنَّا كُنَّا ارتكبنا هَذِهِ الخَطيئَةَ مُتَعَمِّدينَ عَاصينَ لله، ظانِّينَ أَنْ نَكونَ بَعدَها قومًا صالَحينَ. فقد اعْتَرَفوا لأبيهمْ الآنَ بِذُنوبهم كَمَا اعْتَرَفوا مِنْ قَبْلَ لأخيهم ليوسفَ، بخطيئتِهم، لكنَّ أخاهم بادَرَهم بالاسْتِغْفارِ لهم، وهمْ لَمْ يَطلُبُوا مِنْهُ ذلك، بينما وعَدَهمْ أبوهمْ بالاسْتِغْفارِ لهم في وقتٍ لاحِقٍّ، ومَنِ اعْتَرَفَ بِذَنْبِهِ حُقَّ له أَنْ يُصْفَحَ عَنْهُ ويُسْتَغْفَرَ لَهُ. هذا وإنَّ ما تَقَدَّمَ مِنْ يُوسُفَ كانَ مَغْفِرَةً منه عمَّا ارتكبوه في حَقِّهُ، لذلك فقد سأَلوا أَباهم أَنْ يَسْتَغْفِرَ لَهُمْ عمَّا هوَ حَقٌّ له. وقيلَ بأَنَّهم عَلِمُوا نُبُوَّةَ أَبيهم فَوَثقوا بإجابَتِهِ، بينما لم يَعْلَمُوا نُبُوَّةَ أَخِيهمْ، فلذلك لَمْ يَثِقُوا بِإِجابَةِ اللهُ لهُ.
هذا وقد رَوَى ابْنُ وَهْبٍ عَنِ اللَّيْثِ بْنِ سَعْدٍ أَنَّ يَعْقوبَ وإِخْوَةُ يُوسُفَ قاموا عِشْرينَ سَنَةً يَطْلُبُونَ التَوْبَةَ ممَّا فعلوهُ بِأَخِيهم يوسفَ ولا يُقْبَلُ ذَلِكَ مِنْهم. حَتَّى لَقِيَ جِبْريلُ يَعْقوبَ فعَلَّمَهُ هذا الدُّعاءَ: يا رَجاءَ المُؤمنينَ لا تُخَيِّبْ رَجائي، ويا غَوْثَ المُؤْمِنينَ أَغِثْني، ويا عَوْنَ المُؤمنينَ أَعِنِّي، ويا مُجيبَ التَّوابينَ تُبْ عَلَيَّ فاسْتُجيبَ لَهُمْ.
قولُهُ تعالى: {قَالُوا يَا أَبَانَا اسْتَغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا} قَالُوا: فعلٌ ماضٍ مبنيٌّ على الضمِّ لاتِّصالِهِ بواوِ الجماعةِ، وهو ضميرٌ متَّصلٌ بهِ مبنيٌّ على السكونِ في محلِّ الرفعِ فاعلُهُ، والألفُ فارقةٌ. والجملةُ الفعليَّةُ هذِهِ مُسْتَأنفةٌ لا مَحَلَّ لها مِنَ الإعرابِ. و "يَا" أداةٌ للنِّداءِ، و "أَبَانَا" مَنصوبٌ بالنِداءِ وعلامةُ نصْبِهِ الأَلِفُ لأنّهُ من الأسماءِ الخمسةِ، وهو مضافٌ، و "نا" ضميرٌ متَّصلٌ به مبنيٌّ على السكونِ في محلِّ الجرِّ بالإضافةِ إليهِ، وجملةُ النِّداءِ في مَحَلِّ النَّصْبِ بِـ "قَالُوا". و "اسْتَغْفِرْ" فعلُ أَمْرٍ مبنيٌّ على السكونِ، وفاعلُهُ ضميرٌ مستترٌ فيهِ وُجوبًا تقديرُهُ (أنت) يَعودُ عَلَى يَعْقوبَ ـ عليهِ السلامُ. و "لَنَا" اللامُ حرفُ جرٍّ متعلِّقٌ بَالفعلِ "اسْتَغْفِرْ"، و "نا" ضميرٌ متَّصلٌ به مبنيٌّ على السكونِ في محلِّ الجرِّ بحرفِ الجرِّ. و "نا" ضميرٌ متَّصلٌ به مبنيٌّ على السكونِ في محلِّ الجرِّ بالإضافةِ إليهِ، و "ذُنُوبَنَا" مفعول بِهِ منصوبٌ وهو مضافٌ، و والجُمْلَةُ الفعليَّةُ هذِهِ في مَحَلِّ النَّصْبِ بـِ "قالوا" عَلَى كَوْنِها جَوابَ النِّداءِ.
قولُهُ: {إِنَّا كُنَّا خَاطِئِينَ} إِنَّ: حرفٌ ناصبٌ ناسخٌ مشبَّهٌ بالفعلِ يفيدُ التوكيدَ، و "نا" ضميرٌ متَّصلٌ به مبنيٌّ على السكونِ في محلِّ النَّصْبِ اسْمُهُ. و "كُنَّا" فعلٌ ماضٍ ناقِصٌ مبنيٌّ على السكونِ لاتِّصالِه بضميرِ رفعٍ متحرِّكٌ، و "نا" ضميرٌ متَّصلٌ به مبنيٌّ على السكونِ في محلِّ الرفعِ اسْمُهُ، و "خَاطِئِينَ" خَبَرُهُ منصوبٌ وعلامةُ نصبِهِ الياءُ لأنَّهُ جمع المُذكَّرِ السالمُ والنونُ عِوَضٌ عنِ التنوينِ في الاسمِ المُفْرَدِ، وجُمْلَةُ كانَ في مَحَلِّ الرَّفْعِ خَبَرُ "إنَّ"، وجُمْلَةُ "إنَّ" في مَحَلِّ النَّصْبِ بِـ "قَالُوا" كونَها معلِّلةً لِمَا قَبْلَها.