فيض العليم ... سورة يوسُف، الآية: 92
قَالَ لَا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ (92)
قولُهُ ـ تعالى شأْنُهُ: {قَالَ لَا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ} قَالَ يُوسُفُ لإِخْوَتِهِ: لاَ عَتَبَ عَلَيْكُمْ اليَوْمَ وَلاَ لَوْمَ، فِيمَا فَعَلْتُمْ بِي وَبِأَخِي، والتَّثْرِيبُ التَّوْبِيخُ وَالتعْنيفُ واللومُ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ ـ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، فيما رَوَى الأئمَّةُ منْ حديث أبي هريرةَ وزَيْدِ بْنِ خالدٍ ـ رضي اللهُ عنهما: ((إِذَا زَنَتْ أَمَةُ أَحَدِكُمْ فَتَبَيَّنَِ زِنَاهَا فَلْيَجْلِدْهَا الْحَدَّ وَلَا يُثَرِّبْ عَلَيْهَا ثُمَّ إِنْ زَنَتْ فَلْيَجْلِدْهَا الْحَدَّ وَلَا يُثَرِّبْ ثُمَّ إِنْ زَنَتْ الثَّالِثَةَ فَتَبَيَّنَ زِنَاهَا فَلْيَبِعْهَا وَلَوْ بِحَبْلٍ مِنْ شَعَرٍ))، أَيْ وَلَا يُعَيِّرْهَا بِالزِّنَا. أَخرجَهُ البُخَارِيُّ: (2119)، كتاب: البيوع، وهذا النَصُّ لهُ، ومُسْلِمٌ: (1703/30)، كتاب: الحدود، كما أَخرجَهُ كلٌّ مِنَ الطَيَالِسِيِّ، وعبدِ الرّزَّاقِ، وأَحْمَد، وأَبو دَاود، والنَّسائيِّ، وابْنِ ماجِه، وغيرُهم. وَأَخرجَ أَبُو الشَّيْخ عَن عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ قَالَ: لَمَّا اسْتَفْتَحَ رَسُولُ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، مَكَّةَ الْتَفَتَ إِلَى النَّاسِ فَقَالَ: مَاذَا تَقولُونَ وماذا تَظُنُّونَ؟. قَالُوا: ابْنُ عَمٍّ كَريمٍ. فَقَالَ: ((لَا تَثْرِيبَ عَلَيْكُم الْيَوْم يغْفِرِ اللهُ لَكمْ)). وَأَخرج ابْنُ مِرْدُوَيْهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ـ رَضِي اللهُ عَنْهُمَا، أَنَّ رَسُولَ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، لَمَّا فَتَحَ مَكَّةَ صَعِدَ الْمِنْبَرَ فَحَمِدَ اللهَ وَأَثْنى عَلَيْهِ ثمَّ قَالَ: ((يَا أَهْلَ مَكَّةَ مَاذَا تَظُنُّونَ مَاذَا تَقُولُونَ؟)) قَالُوا: نَظُنُّ خَيْرًا ونَقولُ خَيْرًا: ابْنُ عَمٍّ كَريمٍ قدْ قَدَرْتَ، قَالَ: ((فَإِنِّي أَقُولُ كَمَا قَالَ أَخِي يُوسُفَ: "لَا تَثْرِيب عَلَيْكُم الْيَوْم يغْفر الله لكم وَهُوَ أرْحم الرَّاحِمِينَ". وَأَخرج الْبَيْهَقِيّ فِي سُنَنِهِ الكبرى عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، أَنَّ النَّبِيَّ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، لَمَّا دَخَلَ مَكَّةَ سَرَّحَ الزُّبَيْرَ بْنَ الْعَوَّامِ وَأَبَا عُبَيْدَةَ بْنَ الْجَرَّاحِ وَخَالِدَ بْنَ الْوَلِيدِ عَلَى الْخَيْلِ، وَقَالَ: ((يَا أَبَا هُرَيْرَةَ اهْتِفْ بِالْأَنْصَارِ)). قَالَ: ((اسْلُكُوا هَذَا الطَّرِيقَ فَلَا يُشْرِفَنَّ لَكُمْ أَحَدٌ إِلَّا أَنَمْتُمُوهُ)). فَنَادَى مُنَادٍ: لَا قُرَيْشَ بَعْدَ الْيَوْمِ. فَقَالَ رَسُولُ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((مَنْ دَخَلَ دَارًا فَهُوَ آمِنٌ، وَمَنْ أَلْقَى السِّلَاحَ فَهُوَ آمِنٌ)). وَعَمَدَ صَنَادِيدُ قُرَيْشٍ فَدَخَلُوا الْكَعْبَةَ فَغُصَّ بِهِمْ، وَطَافَ النَّبِيُّ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَصَلَّى خَلْفَ الْمَقَامِ، ثُمَّ أَخَذَ بِجَنْبَيِ الْبَابِ فَخَرَجُوا فَبَايَعُوا النَّبِيَّ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، عَلَى الْإِسْلَامِ، زَادَ فِيهِ الْقَاسِمُ بْنُ سَلَّامِ بْنِ مِسْكِينٍ عَنْ أَبِيهِ بِهَذَا الْإِسْنَادِ قَالَ: ثُمَّ أَتَى الْكَعْبَةَ فَأَخَذَ بِعِضَادَتَيِ الْبَابِ فَقَالَ: ((مَا تَقُولُونَ وَمَا تَظُنُّونَ؟)) قَالُوا: نَقُولُ: ابْنُ أَخٍ وَابْنُ عَمٍّ حَلِيمٌ رَحِيمٌ. قَالَ: وَقَالُوا ذَلِكَ ثَلَاثًا، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((أَقُولُ كَمَا قَالَ يُوسُفُ: {لَا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ}. قَالَ: فَخَرَجُوا كَأَنَّمَا نُشِرُوا مِنَ الْقُبُورِ فَدَخَلُوا فِي الْإِسْلَامِ. وأخرجه ابنُ أَبي شَيْبَةَ في مُصَنَّفِه: (14/487 برقم (18750)، وأَحْمَدُ: (2/207) و (2/179، 212 ـ 213)، و (2/187)، وأَخْرَجَهُ أيضًا البيهقيُّ في "دلائل النبوة": (5/86) وأبو يَعْلى برقم (5762). ورواه الطبراني ورجاله ثقات". وأَخْرَجَهُ التِرْمِذِيُّ في الفَرائِضِ: (2114). و "اليومَ" مَوْضوعٌ مَوْضِعَ الزَّمانِ كُلِّهِ كأنَّهُ أُريدَ بَعْدَ اليَوْمِ، كَما قالتْ عجوزٌ لمَّا ماتَ الحجّاجُ:
الْيَوْمَ يَرْحَمُنَا مَنْ كَانَ يَغْبِطُنَا .............. وَالْيَوْمَ نَتْبَعُ مَنْ كَانُوْا لَنَا تَبَعَا
فإذا كان ـ عَلَيْهِ السَّلامُ، قالَ لإخوتِهِ "لا تثريبَ عليكمُ اليومَ" وهُوَ مَظِنَّةُ التَّثْرِيبِ، فَكيف بِسَائِرِ الْأَيَّامَ، وَفِيهِ احْتِمَالٌ آخَرُ وَهُوَ أَنِّي حَكَمْتُ فِي هَذَا الْيَوْمِ بِأَنْ لَا تَثْرِيبَ عَلَيكم، فقَوْلُهُ: "لَا تَثْرِيبَ" نَفْيٌ لِلْمَاهِيَّةِ وَهذا يَقْتَضِي انْتِفَاءَ جَمِيعِ أَفْرَادِها، فَأَفادَ النَّفْيَ في كُلِّ الْأَوْقَاتِ وَالْأَحْوَالِ، وَتَقْدِيرُ الْكَلَامِ: الْيَوْمَ حَكَمْتُ بِهَذَا الْحُكْمِ الْمُتَنَاوِلِ كُلَّ الْأَوْقَاتِ.
وَأَصْلُ التَّثْرِيبِ مِنَ الثَّرْبِ وَهُوَ الشَّحْمُ الَّذِي هُوَ غَاشِيَةُ الْكِرْشِ. وَمَعْنَاهُ إِزَالَةُ الثَّرْبِ وإذابَتُهُ مِنْ شدَّةِ اللَّوْمِ والتَّعْنيفِ، يَعْنِي: أَنَّ اللَّومَ العَنيفَ قدْ أَذابَ الشَّحْمَ مِنْ لَحْمِهِ، كَمَا أَنَّ التَّجْلِيدَ إِزَالَةُ الْجِلْدِ.
قولُهُ: {يَغْفِرُ اللهُ لَكُمْ} دَعَا لَهُمْ أخوهم يوسُفُ ـ عَلَيْهِ السَّلامُ، أَنْ يَغْفِرَ اللهُ لَهُمْ ذُنُوبَهُمْ وَظُلْمَهُمْ، وَأَنْ يَسْتُرَهَا عَلَيْهِمْ، قالَ ذَلِكَ تَصْفِيَةً للنُّفوسِ مِمَّا شابَها.
قولُهُ: {وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ} تقريرٌ لحقيقةٍ هي أَنَّ أَيَّ رَحْمَةٍ في العالَمِ، أَوْ مِنْ أَيِّ أَحَدٍ إِنَّما هِيَ مُسْتَمَدَّةٌ مِنْ رَحْمَتِهِ ـ سبحانَهُ، فَهُوَ تَعَالَى أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ لِمَنْ تَابَ وَأَقْلَعَ عَنْ ذَنْبِهِ، وَأَنَابَ إِلَى طَاعَتِهِ بِالتَّوْبَةِ.
قولُهُ تعالى: {قَالَ لَا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ} قَالَ: فعل ماضٍ مبنيٌّ على الفتحِ، وفاعِلُهُ ضَميرٌ مستترٌ فيهِ جوازًا تقديرُهُ "هو" يعودُ عَلى يُوسُفَ ـ عليهِ السلامُ، والجُمْلَةُ مُسْتَأْنَفَةٌ لا محلَّ لها مِنَ الإعرابِ. و "لَا" نافيةٌ للجنسِ تعملُ عملَ "إنَّ". و "تَثْرِيبَ" مبنيٌّ على الفتحِ في مَحَلِّ النَّصْبِ اسْمُها. و "عَلَيْكُمُ" على: حرفُ جرٍّ متعلِّقٌ بخبرِ "لَا" تقديرُهُ (موجودٌ أو مستقرٌّ)، وضَميرُ المُخاطَبينَ "كم". متَّصلٌ به في محلِّ الجرِّ بحرفِ الجرِّ. و "الْيَوْمَ" ظَرْفُ زَمانٍ مَنْصوبٌ مُتَعَلِّقٌ بِخَبَرِ "لَا"، أَيْ: لا تَثْريبَ مُسْتَقِرٌّ عَلَيْكُمُ اليومَ. ويَجوزُ أَنْ يكونَ "اليومَ" خَبَرَ "لا" و "عليكم" مُتَعَلِّقٌ بما تَعَلَّقَ بِهِ هَذا الظَّرْفُ. ويَجُوزُ أَنْ يَكونَ "عليكم" صفةً لاسْمِ "لا"، و "اليوم" خَبَرُها أَيْضًا، ولا يَجوزُ أَنْ يَتَعَلَّقَ كُلٌّ مِنَ الظّرْفِ والجارِّ بِ "تَثْريب" لأَنَّهُ يَصيرُ مُطَوَّلًا شَبيهًا بالمُضافِ، ومَتَى كانَ كَذَلِكَ أُعْرِبَ ونُوِّنَ نحوَ: (لا خَيْرًا مِنْ زَيْدٍ عِنْدَكَ) ويَزيدُ عَلَيْهِ الظّرْفُ: بِأَنَهُ يَلْزَمُ الفَصْلُ بَيْنَ المَصْدَرِ المُؤَوَّلِ بالمَوْصولِ ومَعْمُولِهِ بِأَجْنَبِيٍّ وهوَ "عليكم" لأَنَّهُ: إِمَّا خَبَرٌ وإمَّا صِفَةٌ. وجَوَّزَ الزّمخشَرِيُّ أَنْ يَكونَ الظَّرْفُ مُتَعَلِّقًا بِ "تَثْريب" أَوْ بالمُقَدَّرِ في "عليكم" مِنْ مَعْنَى الاسْتِقْرارِ، أَوْ بِـ "يَغْفر"، فَجَعْلُهُ أَنَّهُ مُتَعَلِّقٌ بـ "تَثْريب". وقدْ أَجْرَى بَعْضُهمُ الاسْمَ العامِلَ مُجْرَى المُضافِ لِشِبَهِهِ بِهِ فَيُنْزَعُ ما فيهِ مِنْ تَنْوينٍ أَوْ نُونٍ، وقد جَعَلَ أبو عليٍّ الفارِسِيُّ مِنْ ذَلك قولُ ابْنِ الدُّميْنَةِ:
أَراني ولا كُفْرانَ للهِ أيَّةً ................. لنفسي، لقد طالَبْتُ غيرَ مُنِيْلِ
فأيَّةً مَصْدَر أَويْتُ لَهُ إذا رَحِمْتُهُ رَقَقْت ورَفَقْتُ بِهِ، منصوبٌ بكُفْران، أي: لا أكفرُ اللهَ رَحْمةً لِنَفسي. ولا يجوزُ أنْ تُنْصَبَ "أيَّةً" ب (أَوَيْت) مُضْمَرًا؛ لِئَلَّا يَلْزمَ الفصلُ بين مَفْعولَيْ "أرى" بجملَتَيْنِ: أَيْ بِ "لا" وما في حَيِّزها، وبـ (أَوَيْتُ) المُقَدَّرَةِ. ومِنْهُ ما جاءَ في الحديثِ الشريف: ((لا صَمْتَ يومٌ إِلى الليلِ)) بِرَفعِ (يومٌ) عَلَى أَنَّهُ مَرْفوعٌ بالمَصْدَرِ المُنْحَلِّ لِحَرْفٍ مَصْدَرِيٍّ وفعلٍ مَبْنِيٍّ للمَفْعولِ. وجُمْلَةُ "لَا" في مَحَلِّ النَّصْبِ بالقولِ لـ "قَالَ".
قولُهُ: {يَغْفِرُ اللهُ لَكُمْ} يَغْفِرُ: فعلٌ مضارعٌ مرفوعٌ لتجرُّدِهِ مِنَ الناصِبِ والجازمِ، ولفظُ الجلالةِ "اللهُ" فاعِلُهُ مرفوعٌ به. و "لَكُمْ" اللامُ حرفُ جرٍّ متعلِّقٌ بِهِ، وضَميرُ المُخاطَبينَ "كم". متَّصلٌ به في محلِّ الجرِّ بحرفِ الجرِّ. والجُمْلَةُ مُسْتَأْنَفَةٌ عَلى كَونِها مَقولَ القولِ لـ "قَالَ".
قولُهُ: {وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ} الواوُ: حرفُ عطْفٍ. هو: ضميرٌ منفصلٌ مبنيٌّ على الفتحِ في محلِّ الرفعِ بالابتِداءِ، و "أَرْحَمُ" خَبَرُ المبتدأِ مرفوعٌ، وهو مُضافٌ و "الرَّاحِمِينَ" مضافٌ إِلَيْهِ مجرورٌ، وعلامةُ جرِّهِ الياءُ لأنَّهُ جمعُ المذكَّرِ السّالمُ، والنونُ عِوضٌ عن التنوينِ في الاسْمِ المفردِ، والجُمْلَةُ في مَحَلِّ النَّصْبِ بالقولِ لـ "قَالَ".
وَقَفَ أَكْثَرُ القُرّاءِ على: {اليومَ} وابْتَدَؤوا بـ "يَغْفِرُ الله لَكُمْ"، ووقفَ بعضُهم على "عليكم" وابْتَدَأَ: "اليوم يَغْفِرُ الله لَكُمْ".