فَلَمَّا اسْتَيْأَسُوا مِنْهُ خَلَصُوا نَجِيًّا قَالَ كَبِيرُهُمْ أَلَمْ تَعْلَمُوا أَنَّ أَبَاكُمْ قَدْ أَخَذَ عَلَيْكُمْ مَوْثِقًا مِنَ اللهِ وَمِنْ قَبْلُ مَا فَرَّطْتُمْ فِي يُوسُفَ فَلَنْ أَبْرَحَ الْأَرْضَ حَتَّى يَأْذَنَ لِي أَبِي أَوْ يَحْكُمَ اللهُ لِي وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ
(80)
قولُهُ ـ تَعَالى شأْنُهُ: {فَلَمَّا اسْتَيْأَسُوا مِنْهُ خَلَصُوا نَجِيًّا} وَلَمَّا يَئِسَ إِخْوَةُ يُوسُفَ مِنْ إِقْنَاعِ العَزِيزِ بِأَنْ يَرُدَّ عَلَيْهِمْ أَخَاهُمْ الصَّغِيرَ وأنْ يأخُذَ أَحَدَهِمْ بَدَلًا عَنْهُ، وهُوَ نِهَايَةُ مَا يُمْكِنُهُمْ بَذْلُهُ، انْقَطَعَ طَمَعُهُمْ فِي رَدِّهِ، واسْتَيْأَسُوا مِنْهُ، انْتَحَوْا جَانِبًا يَتَنَاجَوْنَ فِيمَا بَيْنَهُمْ، أَيْ انفَرَّدُوا عَنْ سَائِرِ النَّاسِ يَتَنَاجَوْنَ، ويَتَشَاوَرُونَ وَيَتَبادلُونَ الرَّأْيَ فِيمَا يُخْرجُهم مِنَ المَأْزِقِ الذي وَجَدُوا أنفُسَهم فِيهِ، لِأَنَّهُمْ إِنَّمَا أَخَذُوا بِنْيَامِينَ مِنْ أَبِيهِمْ بَعْدَ الْمَوَاثِيقِ الْمُؤَكَّدَةِ، وَكَانُوا مُتَّهَمِينَ من قبلُ فِي يُوسُفَ فَإذا لَمْ يُعِيدُوا أخاهُم بنيامينَ إِلَى أَبِيهِمْ يمكنُ أنْ تحصُلَ لهم مِحَنٌ كَثِيرَةٌ: منهَا: أَنَّهُ إذا لَمْ يَعُودُوا جميعًا إِلَى أَبِيهِمْ فَبَقَاؤُهُ وَحْدَهُ دونَ أَحَدٍ مِنْ أَوْلَادِهِ مِحْنَةٌ عَظِيمَةٌ لاسيما وأنَّه شَيْخٌ كَبِيرٌ. وَمنهَا: أَنَّ أَهْلَ بَيْتِهِمْ كَانُوا في أَشَدَّ الْحَاجَةِ إِلَى الطَّعَامِ. وَمنها: أَنَّ يَعْقُوبَ ـ عَلَيْهِ السَّلَامُ، رُبَّمَا يَظُنُّ أَنَّ أَوْلَادَهُ هَلَكُوا بِالْكُلِّيَّةِ، وَذَلِكَ غَمٌّ شَدِيدٌ له، وَلَوْ عَادُوا إِلَى أَبِيهِمْ بِدُونِ بِنْيَامِينَ لَعَظُمَ حَيَاؤُهُمْ، فَإِنَّ ظَاهِرَ الْأَمْرِ يُوهِمُ أَنَّهُمْ خَانُوهُ فِي هَذَا الِابْنِ أيضًا كَمَا أَنَّهُمْ خَانُوهُ فِي الِابْنِ الْأَوَّلِ، وَلهذا يُوهِمُ أَيْضًا أَنَّهُمْ مَا أَقَامُوا لِتِلْكَ الْمَوَاثِيقِ الْمُؤَكَّدَةِ وَزْنًا، وَلَا شَكَّ أَنَّ هَذَا الْمَوْضِعَ مَوْضِعُ فِكْرَةٍ وَحَيْرَةٍ، وَذَلِكَ يُوجِبُ التَّفَاوُضَ وَالتَّشَاوُرَ طَلَبًا لِلْأَصْلَحِ والْأَصْوَبِ.
وَيَئِسَ يَيْأَسُ، مِثْل حَسِبَ يَحْسَبُ، ومَنْ قالَ اسْتَيْأَسَ قَلَبَ الْعَيْنَ إِلَى مَوْضِعِ الْفَاءِ فَصَارَ وزنُهُ "اسْتَعْفَلَ" وَأَصْلُهُ: "اسْتَيْأَسَ" ثُمَّ خُفِّفَتِ الْهَمْزَةُ. قَالَ الزمخشريُّ: اسْتَيْأَسُوا يَئِسُوا، وَزِيَادَةُ السِّينِ وَالتَّاءِ لِلْمُبَالَغَةِ كما في قولِهِ: {فَاسْتَعْصَمَ} الآية: 32 من هذه السورة.
وَخَلَصُوا منْ خَلَصَ الشَّيْءُ يَخْلُصُ خُلُوصًا، إِذَا ذَهَبَ عَنْهُ الشَّائِبُ مِنْ غَيْرِهِ، و "خَلَصُوا" أَيِ انْفَرَدُوا، وَلَيْسَ مَعَهُمْ أَخُوهُمْ، وتَمَيَّزُوا عَنِ الْأَجَانِبِ. وَ "نَجِيًّا" يَأْتي بمَعنى المُنَاجي كَالْعَشِيرِ بِمَعْنَى الْمُعَاشِرِ، وَ وَالسَّمِيرِ بمعنى الْمُسَامِرِ. وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى في سورة مَرْيَمَ: {وَقَرَّبْناهُ نَجِيًّا} الآية: 52، وَيأتي أيضًا بِمَعْنَى الْمَصْدَرِ الَّذِي هُوَ التَّنَاجِي كَمَا قِيلَ: النَّجْوَى بِمَعْنَى الْمُتَنَاجِينَ، فَعَلَى هَذَا مَعْنَى خَلَصُوا نَجِيًّا اعْتَزَلُوا وَانْفَرَدُوا عَنِ النَّاسِ خَالِصِينَ لَا يُخَالِطُهُمْ سِوَاهُمْ نَجِيًّا أَيْ مُنَاجِيًا. وَأَحْسَنُ الْوُجُوهِ أَنْ يُقَالَ: إِنَّهُمْ تَمَحَّضُوا تَنَاجِيًا، لِأَنَّ مَنْ كَمُلَ حُصُولُ أَمْرٍ مِنَ الْأُمُورِ فِيهِ وُصِفَ بِأَنَّهُ صَارَ غَيْرَ ذَلِكَ الشَّيْءِ، فَلَمَّا أَخَذُوا فِي التَّنَاجِي عَلَى غَايَةِ الْجِدِّ صَارُوا كَأَنَّهُمْ فِي أَنْفُسِهِمْ، صَارُوا نَفْسَ التَّنَاجِي حَقِيقَةً.
قولُهُ: {قَالَ كَبِيرُهُمْ أَلَمْ تَعْلَمُوا أَنَّ أَبَاكُمْ قَدْ أَخَذَ عَلَيْكُمْ مَوْثِقًا مِنَ اللهِ} فَقَالَ لَهُمْ كَبِيرُهُمْ، وَهُوَ الذِي أَشَارَ بِأَلاَّ يَقْتُلُوا يُوسُفَ، وَبِأَنْ يَكْتَفُوا بِإِلْقَائِهِ فِي الجُبِّ: أَلَمْ تَعْلَمُوا أَنَّ أَبَاكُمْ أَخَذَ عَلَيْكُمْ مَوْثِقاً مِنَ اللهِ لَتَرُدُّنَ عَلَيْهِ ابْنَهُ، وَهَا قَدْ تَعَذَّرَ عَلَيْكُمْ ذَلِكَ، وقد وردت فيهِ ثلاثةُ أَقاويلَ: أَحَدُها لمُجاهِدٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، قالَ: أَنَّهُ عَنَى كَبيرَهمْ في العَقْلِ والعِلْمِ، وهوَ شَمْعونُ، وقد كانتْ لَهُ الرِّئاسةُ على إخوتِهِ، وهو الذي بقي في مصرَ قائلًا: {فَلَنْ أَبْرَحَ الْأَرْضَ حَتَّى يَأْذَنَ لِي أَبِي أَوْ يَحْكُمَ اللهُ لِي وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِين" حِينَ رَجَعَ إِخْوَتُهُ إِلَى أَبيهم. وثانيها قالَهُ ابْنُ عبَّاسٍ والكَلبيُّ ـ رضي اللهُ عنهم، أَنَّهُ عَنَى كَبيرَهم في الرَّأْيِ والتَمْييزِ، وهوَ يَهُوذا. والثالثُ قالَهُ قَتَادَةُ، والسديُّ، والضحّاكُ ـ رَضِيَ اللهُ عنهُم: أَنَّهُ عَنَى كَبيرَهم في السِّنِّ، وهوَ رُوبيلُ ابْنُ خالَةِ يُوسُفَ، وهو الذي نهاهم عن قتلِ يوسفَ ـ عَلَيْهِ السَّلامُ.
قولُهُ: {وَمِنْ قَبْلُ مَا فَرَّطْتُمْ فِي يُوسُفَ} وَقَدْ سَبَقَ أَنْ أَضَعْتُمْ يُوسُفَ، وَأَبْعَدْتُمُوهُ عَنْ أَبِيهِ فَقَاسَى الحُزْنَ الشَّدِيدَ عَلَيْهِ، وفي محلِّ "ما" ومعناها وُجُوهٌ، الأوَّلُ: أنَّ أَصْلَهُ: مِنْ قَبْلِ هَذَا فَرَّطْتُمْ فِي شَأْنِ يُوسُفَ ـ عَلَيْهِ السَّلامُ، ولمْ تَحْفَظُوا عَهْدَ أَبيكم. الثاني: أَنْ يَكونَ مَعْنَاهُا مِنْ قَبْلِ تَفْريطِكِمْ في يوسُفَ، وعليه فَ "ما" مَصْدَرِيَّةً ومَحَلُّهُا الرَّفْعُ عَلَى الابْتِداءِ والظَّرْفُ "مِنْ قَبْلُ" هو خَبَرُهُ. الثالث: أنَّ المعنى: أَلَمْ تَعْلَمُوا أَخْذَ أَبيكمْ مَوْثِقَكُمْ وتَفْريطَكم مِنْ قبْلُ في يُوسُفَ. وعليهِ فمَحَلُّ "ما" هو النَّصْبُ عَطْفًا عَلى مَفْعولِ "أَلَمْ تَعْلَمُواْ". الرابع: أَنْ تَكونَ "ما" مَوْصولَةً بِمَعْنَى ومِنْ قَبْلِ هَذَا مَا فَرَّطْتُموهُ، أَيْ قدَّمْتُموهُ في حَقِّ يُوسُفَ مِنَ الخِيانَةِ العَظِيمَةِ، ومَحَلُّهُ الرَّفْعُ والنَّصْبُ عَلَى الوَجْهَيْنِ المَذْكورين.
قولُهُ: {فَلَنْ أَبْرَحَ الْأَرْضَ حَتَّى يَأْذَنَ لِي أَبِي أَوْ يَحْكُمَ اللهُ لِي} أيْ: فَلَنْ أُفَارِقَ أَرْضَ مِصْرَ حَتَّى يَأْذَنَ لِي أَبِي في الانْصِرافِ إِلَيْهِ، أَوْ يَحْكُمَ اللهُ لِي بالخُرُوجِ مِنْها، أَوْ بالانْتِصافِ مِمَّنْ أَخَذَ أَخِي، أَوْ بِخَلاصِهِ مِنْ يَدِهِ بِسَبَبٍ مِنَ الأَسْبابِ. وَلِذَلِكَ فَإِنَّنِي لَنْ أَتْرُكَ هَذِهِ الأَرْضُ، وَسَأَبْقَى فِيهَا أَتَتَبَّعُ أَخْبَارَ أَخِينَا الصَّغِيرِ، إِلاَّ إِذَا فَهِمَ أَبِي الوَضْعَ عَلَى حَقِيقَتِهِ، وَسَمَحَ لِي بِالرُّجُوعِ إِلَيْهِ، وَهُوَ رَاضٍ عَنِّي، أَوْ يَحْكُمَ اللهُ لِي بِأَنْ يُمَكِّنَنِي مِنْ أَخْذِ أَخِي، وَالعَوْدَةِ بِهِ إِلَى أَبِينَا.
قولُهُ: {وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ} قالَهُ انْقِطاعًا إِلَى اللهِ تَعَالى في إِظْهَارِ عُذْرِهِ بِوَجْهٍ مِنَ الوُجُوهِ، وَاللهُ خَيْرُ الحَاكِمِينَ، لاَ يَحْكُمُ إِلاَّ بِمَا هُوَ حَقٌّ وَعَدْلٌ، وَهُوَ المُسَخِّرُ لِلأَسْبَابِ، وَالمُقَدِّرُ لِلأَقْدَارِ، وهوَ خَيْرُ الحاكِمينَ، لأَنَّهُ لا يَحْكُمُ إِلَّا بالعَدْلِ والحَقِّ. وبالجُمْلَةِ فالمُرادُ ظُهُورُ عُذْرٍ يَزُولُ مَعَهُ حَيَاؤُهُ وخَجَلُهُ مِنْ أَبِيهِ، أَوْ غَيْرِهِ.
قولُهُ تَعالى: {فَلَمَّا اسْتَيْأَسُوا مِنْهُ خَلَصُوا نَجِيًّا} الفاءُ: اسْتِئْنافِيَّةٌ. و "لمَّا}: حَرْفُ شَرْطٍ غَيْرُ جازِمٍ بمعنى "حين" مبنيٌّ على السكونِ في محلِّ النَّصبِ على الظرفيَّةِ الزمانيَّةِ مُتَعلِّقٌ بِ "خَلَصُوا". و "اسْتَيْأَسُوا" فِعْلٌ ماضٍ مبنيٌّ على الضمِّ لاتِّصالِهِ بواوِ الجماعةِ، فعلُ شَرْطِ "لما"، وواوُ الجماعةِ ضميرٌ متَّصلٌ به مبنيٌّ على السكونِ في محلِّ رفعِ فاعلِهِ، والألفُ فارقةٌ، و "مِنْهُ" حرفُ جرٍّ مُتَعَلِّقٌ بالفعل "استيأس"، والهاءُ: ضميرٌ متَّصلٌ به في محلِّ الجرِّ بالباءِ. و "خَلَصُوا" فِعْلٌ ماضٍ مبنيٌّ على الضمِّ لاتِّصالِهِ بواوِ الجماعةِ، جوابُ شَرْطِ "لما"، وواوُ الجماعةِ ضميرٌ متَّصلٌ به مبنيٌّ على السكونِ في محلِّ رفعِ فاعلِهِ، والألفُ فارقةٌ. و "نَجِيًّا" منصوبٌ على الحَالِ مِنْ فاعِلِ "خَلَصُوا"، وجُمْلَةُ "لمَّا" مُسْتَأْنَفَةٌ، وإنَّما أُفْرِدَتْ الحالُ مَعَ كَوْنِ صَاحِبِها جَمْعًا؛ لأَنَّ "فعيلًا" يَسْتَوِي فِيهِ المُذَكَّرُ والمُؤَنَّثُ والجَمْعُ وغيرُهُ.
قولُهُ: {قَالَ كَبِيرُهُمْ أَلَمْ تَعْلَمُوا أَنَّ أَبَاكُمْ قَدْ أَخَذَ عَلَيْكُمْ مَوْثِقًا مِنَ اللهِ} فعلٌ ماضٍ مبنيٌّ على الفتحِ، و "كبيرُ" فاعِلٌ مرفوعٌ، وهو مضافٌ، و "هم" ضمير العائبينَ متَّصلٌ به في محلِّ الجرِّ بالإضافةِ إليه، والجُمْلَةُ مُسْتَأْنَفَةٌ لا محلَّ لها مِنَ الإعرابِ. و "أَلَمْ" الهَمْزَةُ: للاسْتِفْهامِ التَقْرِيرِيِّ. و "لَمْ" حرفُ جَزْمٍ ونفيٍ وقلبٍ، و "تَعْلَمُوا" فعلٌ مضارعٌ مجزومٌ ب "لم" وعلامةُ جزمِهِ حذفُ النونِ مِنْ آخرِهِ لأنَّهُ من الأفعال الخمسةِ، وواوُ الجماعةِ ضميرٌ متَّصلٌ به مبنيٌّ على السكونِ في مَحَلِّ رفعِ فاعلِهِ، والألفُ الفارقةُ، والجُمْلَةُ في مَحَلِّ النَّصْبِ بالقولِ ل "قَالَ". و "أَنَّ" حرفٌ ناصبٌ ناسخٌ مشبَّهٌ بالفعلِ للتوكيدِ، و "أَبَا" اسْمُهُ منصوبٌ به، وعلامةُ نصبِهِ الألفُ لأنَّهُ مِنَ الأسماءِ الخمسةِ، وهو مضافٌ، و "كُمْ" ضميرُ المخاطبينَ متَّصلٌ بهِ في محلِّ الجرِّ بالإضافة إليه. و "قَدْ" للتحقيق، و "أَخَذَ" فعل ماضٍ مبنيٌّ على الفتحِ، وفاعلُهُ ضَميرٌ مستترٌ فيهِ جوزًا تقديرُهُ "هو" يَعُودُ عَلى "أبا"، و "عَلَيْكُمْ" حرفُ جرٍّ مُتَعَلِّقٌ ب "أخذَ" و "كم" ضميرُ المتكلمين في محلِّ الجرِّ بحرفِ الجرِّ. و "مَوْثِقًا" مَفعولٌ بِهِ منصوبٌ. و "مِنَ" حرفُ جرٍّ متعلِّقٌ بصِفَةٍ ل "موثقًا"، ولفظُ الجلالةِ " و "اللهِ" في مَحلِّ الجرِّ بحرفِ الجرِّ، وجُمْلَةُ "أَخَذَ" في مَحَلِّ الرَّفْعِ خَبَرًا ل "أَنَّ"، وجُمْلَةُ "أَنَّ" في تَأْويلِ مَصْدَرٍ سادٍ مَسَدَّ مَفْعولَيْ "عَلِمَ" والتقديرُ: أَلَمْ تَعْلَمُوا أَخْذَ أَبيكمْ عَلَيْكم مَوْثِقًا مِنَ اللهِ في شَأْنِ بِنْيامِينَ؟.
قولُهُ: {وَمِنْ قَبْلُ مَا فَرَّطْتُمْ فِي يُوسُفَ} وَمِنْ: حرفُ جَرٍّ مُتَعَلِّقٌ بِ "فَرَّطْتُم". و "قَبْلُ" اسْمٌ ظَرْفِيٌّ مَبْنِيٌّ عَلَى الضَمِّ في مَحَلِّ الجَرِّ بحرف الجَرِّ، لأنَّهُ مقطوعٌ عن الإضافة، و "ما" زائدةٌ، ويَجوزُ أَنْ يَكونَ حَرْفًا مَصْدَرِيًّا فَيَتَعَلَّقَ الجارُّ حِينَئِذٍ بِمَحْذوفِ خَبَرٍ عِنْدَ الزَّمَخْشَرِيِّ، وإِنْ قُطِعَ الظَّرْفُ عَنِ الإضافَةِ، والمَصْدَرُ المُؤَوَّلُ مُبْتَدَأٌ مُؤَخَّرٌ، وقد رَدَّ ذَلِكَ الشيخُ أبو حيّانٍ الأندلُسيُّ رَدًّا قاطِعًا لأَنَّ الظَّرْفَ إذا بُنِيَ لا يَصِحُّ أَنْ يَكونَ خَبَرًا جُرَّ أَوْ لَمْ يُجَرّ. و "فَرَّطْتُم" فِعْلٌ ماضٍ مَبْنِيٌّ على السُّكونِ لاتِّصالِهِ بِضَميرِ رَفْعٍ متحرِّكٍ هو تاءُ الفاعِلِ، وتاءُ الفاعِلِ ضَميرٌ مُتَّصِلٌ بِهِ فِي مَحَلِّ رَفْعِ فاعِلِهِ. والميمُ علامةُ جمعِ المُذكَّر، و "في" حرفُ جرٍّ مُتَعَلِقٌ بِ "فرَّطْتُمْ" و "يُوسُفَ" ـ عليه السلامُ، اسْمٌ مَجرورٌ بِحَرْفِ الجَرِّ، وعَلامَةُ جَرِّهِ الفَتْحَةُ نِيابَةً عَنِ الكَسْرَةِ لأَنَّهُ مَمْنوعٌ مِنَ الصَّرْفِ بالعَلَمِيَّةِ والعُجمةِ، والجُمْلَةُ الفعليَّةُ هذِهِ صِلَةٌ لِ "مَا" المَصْدَرِيَّةِ. و "مَا" مَعَ صِلَتِها في تَأْويلِ مَصْدَرٍ مَعْطوفٍ عَلَى مَصْدَرٍ مُؤَوَّلٍ مِنْ جُمْلَةِ "أَنَّ"، والتَقْديرُ: أَلَمْ تَعْلَمُوا أَخْذَ أَبيكم عَلَيْكمْ مَوْثِقًا مِنَ اللهِ فيما يخُصُّ أَخاكم بِنْيامِينَ، وتَفْريطَكم في أَخيكمْ يُوسُفَ مِنْ قَبْلَ "بِنْيامِينَ".
قولُهُ: {فَلَنْ أَبْرَحَ الْأَرْضَ حَتَّى يَأْذَنَ لِي أَبِي} الفاءُ: هي فاءُ الفصاحَةِ؛ أَفْصَحَتْ عَنْ جَوابِ شَرْطٍ تَقديرُهُ: إِذا عَرَفْتُمْ مَا قُلْتُ لَكُمْ وأَرَدْتُمْ بَيَانَ شَأْني وحالِي فأَقولُ: "لَنْ أَبْرَحَ الْأَرْضَ حَتَّى يَأْذَنَ لِي أَبِي فَلَنْ أَبْرَحَ الْأَرْضَ حَتَّى يَأْذَنَ لِي أَبِي ... ". و "لَنْ" حرفٌ ناصِبٌ، و "أَبْرَحَ" فِعْلٌ مضارعٌ تامٌّ لأنه في معنى لَنْ أُفَارِقَ الأَرْضَ، مَنْصوبٌ بِ "لَنْ"، وفاعِلُهُ ضَميرٌ مستترٌ فيهِ وُجوبًا تقديرُهُ "أَنَا" يَعُودُ عَلَى أَخيهم الكَبيرِ. و "الْأَرْضَ" مَفْعُولٌ بِهِ منصوبٌ؛ والجُمْلَةُ الفِعْلِيَّةُ هذه في مَحَلِّ النَّصْبِ بالقولِ لِجَوابِ "إِذا" المُقَدَّرَةِ، وجُمْلَة "إذا" المُقَدَّرَةُ في مَحَلِّ النَّصْبِ بالقولِ لِ "قَالَ". و "حَتَّى" حَرْفُ جَرٍّ وغَايَةٍ. و "يَأْذَنَ" فِعْلٌ مُضارِعٌ مَنْصوبٌ بِ "أَنْ" مُضْمَرَةٍ وُجُوبًا بَعْدَ "حتّى" بِمَعْنَى إِلَى. و "لِي" حرفُ جرٍّ مُتَعَلِّقٌ بِهِ والياءُ في محلِّ الجرِّ بحرفِ الجرِّ. و "أَبِي" فاعِلٌ مرْفوعٌ، وعلامةُ رفعِهِ الضَمَّةُ المُقَدَّرَةُ عَلَى مَا قَبْلَ الياءِ، وهوَ مُضافٌ، والياءُ ضَميرُ المُتَكَلِّمِ مُتَّصِلٌ بِهِ مبنيٌّ على السُّكونِ فِي مَحَلِّ الجَرِّ بالإضافَةِ إِلَيْهِ. والمَصْدَرُ المُؤَوَّلُ مِنْ "أَنْ" المُقَدَّرَةِ والفِعْلِ بَعْدَهَا في مَحَلِّ الجَرِّ بِ "حتّى" مُتَعَلِّقٌ بِ "أبرحَ".
قولُهُ: {أَوْ يَحْكُمَ اللهُ لِي} أوْ: حرفُ عطفٍ، و "يَحْكُمَ" فِعْلٌ مضارعٌ منصوبٌ عطفًا على "يأْذَنَ" ولفظُ الجلالةِ "اللهُ" فاعِلٌ مَرْفُوعٌ، و "لِي". حرفُ جرٍّ مُتَعَلِّقٌ بِهِ، والتقديرُ: فَلَنْ أَبْرَحَ الأَرْضَ إِلَى إِذْنِ أَبي لِي، أَوْ حُكْمِ اللهِ لِي. والياءُ ضَميرٌ مُتَّصِلٌ به في محلِّ الجرِّ بحرفِ الجرِّ، وجُمْلَةُ "يَأْذَنَ" في تَأْويلِ مَصْدَرٍ مَجْرورٍ بِ "حَتّى" بِمَعْنَى "إِلى".
قولُهُ: {وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ} الواوُ: للاستئنافِ، و "هوَ" ضميرٌ منفصلٌ مبنيٌّ على الفتحِ في محلِّ الرفعِ بالابْتِداءِ، و "خيرُ" خبرُهُ مرفوعٌ، وهو مُضافٌ، و "الحاكمينَ" مجرورٌ بالإضافةِ إليهِ، وعلامةُ جرِّهِ الياءُ لأنَّهُ جمعُ المُذكَّر السالمُ، والنونُ عِوَضٌ عن التنوين في الاسمِ المفردِ، والجُمْلةُ في مَحَلِّ النَّصْبِ بالقولِ ل "قَالَ" على كونِها مُعَلِّلَةً لِمَا قَبْلَها.