فيض العليم ... سورة يوسُف، الآية: 76
فَبَدَأَ بِأَوْعِيَتِهِمْ قَبْلَ وِعَاءِ أَخِيهِ ثُمَّ اسْتَخْرَجَهَا مِنْ وِعَاءِ أَخِيهِ كَذَلِكَ كِدْنَا لِيُوسُفَ مَا كَانَ لِيَأْخُذَ أَخَاهُ فِي دِينِ الْمَلِكِ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللهُ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ (76)
قولُهُ ـ تعالى شأنُهُ: {فَبَدَأَ بِأَوْعِيَتِهِمْ قَبْلَ وِعَاءِ أَخِيهِ} فبَدَأَ بِتَفْتِيشِ أَوْعِيَةِ الإِخْوَةِ العَشَرَةِ قَبْلُ تَفْتيشِ وِعَاءِ أَخِيهِ بِنْيامِينَ لِنَفْيِ التُّهْمَةِ ودفعِ الشكِّ، وتمكينٌ للحِيلَةِ، وإِبعادٌ لظُهُورِ أَنَّها حِيلَةٌ، وأَضافَ اللهُ سُبْحانَهُ الكَيْدَ إِلى ضِمِيرِهِ تعالى؛ لَمَّا خَرَجَ القَدْرُ الذي أَبَاحَ بِهِ لِيُوسُفَ أَخْذَ أخِيهِ مَخْرَجَ ما هوَ كيدٌ في اعْتقادِ النَّاسِ. فِقِيلَ البادئُ بالتفتيشِ هو المُؤَذِّنُ، ورُجِّحَ ذلكَ بقربِ سَبْقِ ذِكْرِهِ، وقيلَ: هو يوسُفُ ـ عَلَيْهِ السَّلامُ، فقدْ رُوِيَ أَنَّهُ لَمَّا قالَ إِخْوَتُهُ ما قالوا، قالَ لَهُمْ أَصْحابُهُ: لا بُدَّ مِنْ تَفْتيشِ رِحالِكمْ فَرَدُّوهمْ بَعْدَ أَنْ سارُوا مَنْزِلًا، ولا يَخْفَى أَنَّ إِسْنَادَ التَّفْتيشِ إِلَيْهِ ـ عَلَيْهِ السَّلامُ، مَجَازِيٌّ، فإنَّ المُفَتَّش حَقيقَةً هم عمَّالُهُ وإنَّما هو مَنْ أَمَرَهم بذلكَ.
قولُهُ: {ثُمَّ اسْتَخْرَجَهَا مِنْ وِعَاءِ أَخِيهِ} رُوِيَ أَنَّ يوسُفَ ـ عليهِ السلامُ، لَمَّا بَلَغَتْ النَّوبَةُ إِلى وِعاءِ أَخِيهِ بنيامينَ قالَ: ما أَظُنُّ هَذا أَخَذَ شَيْئًا فَقالَ إخوتُهُ: واللهِ لا تَتْرُكُهُ حَتَّى تَنْظُرَ في رَحْلِهِ فإِنَّهُ أَطْيَبُ لِنَفْسِكَ وأَنْفُسِنَا، فَفَعَلَ. "ثُمَّ استخرجها" أَيْ السِقَايَة أَوِ الصُّواع، "مِنْ وِعاءِ أَخِيهِ" بِنْيامِينَ، لأَنَّ فِيهِ التَذْكِيرَ والتَأْنيثَ جائزٌ كَمَا تَقَدَّمَ. وقيلَ: بَلْ لأَنَّهُ حُمِلَ عَلى مَعْنَى السِّقايَةِ. وقالَ أَبو عُبَيْدٍ: يؤنَّثُ الصُّواعُ مِنْ حَيْثُ يُسَمَّى "سِقَايَةَ"، ويُذكَّرُ مِنْ حَيْثُ هوَ صُواعٌ. قالوا: وكأَنَّ أَبَا عُبَيْدٍ لَمْ يَحْفظْ في الصُّواعِ التَأْنيثَ. وقالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: قالُوا: رَجَعَ بالتَأْنِيثِ عَلَى السِّقايَةِ، ثمَّ قالَ: ولَعَلَّ يُوسُفَ كانَ يُسَمِّيهِ "سِقاية" وكان عَبيدُهُ يُسَمُّونَها "صُواعًا" فقد وَقَعَ فيما يَتَّصِلُ بِهِ مِنَ الكَلامِ "سِقاية"، وفيما يَتَصِلُ بِهم "صواعًا". وقيلَ: إنَّ الضَميرَ عائدٌ عَلَى السَّرِقة. وفيهِ نَظَرٌ؛ لأَنَّ السِّرِقَةَ لا تُسْتَخْرِجَ، إِلَّا بِمَجَازٍ. ورُوي أَنَّ المُفَتِّشَ كانَ إِذا فَرَغَ من رَحْلِ رَجُلٍ، فلم يجدْ فيه شيئًا، استغفر اللهَ ـ عَزَّ وَجَلَّ، مِنْ فعله ذلك، وظاهر كلام قتادة وغيره؛ أنَّ المستغفِرَ هو "يُوسُفُ" حتى انْتَهَى إِلى رَحْلِ بِنْيَامِينَ، فقال: ما أظَنُّ هذا الفتى رضيَ بهذا، ولا أَخَذَ شيئًا، فقال له إِخوته: واللهِ، لاَ تَبْرَحْ حَتَّى تُفَتِّشَهُ، فهو أطْيَبُ لنفسك ونفوسِنَا، فَفَتَّشَ حينئِذٍ، فأخْرَجَ السِّقاية. وروي أنَّ أُخوة يوسُفَ لما رأَوْا ذلك، عَنَّفُوا بِنْيَامِينَ، وقالوا له: كَيْفَ سَرَقْتَ هذه السِّقَايَةَ؟ فقال لهم: واللهِ، ما فَعَلْتُ، فَقَالُوا له: فَمَنْ وَضَعَهَا في رَحْلِكَ؟ قالَ: الذي وَضَعَ البِضَاعَةَ في رِحَالِكُمْ. وقيلَ: الضَّميرُ عائدٌ على السَّرِقَةِ المَفْهومَةِ مِنَ الكَلامِ، ولمْ يَقُلْ مِنْهُ فيُرْجِعُ الضَّميرَ إِلى الوِعاءِ، أَوْ مِنْ وِعائِهِ، فيرْجِعُ الضميرَ إلى أَخِيهِ، وذلك قَصْدًا إلى زِيادَةِ كَشْفٍ وبَيانٍ، والوِعاءُ: هو الظَّرْفُ الذي يُحْفَظُ فيهِ الشَّيْءُ، وهو مُشْتَقٌّ مِنَ الْوَعْيِ وَهُوَ الْحِفْظُ. وكَأَنَّ المُرادَ بِهِ هُنَا مَا يَشْمَلُ الرَّحْلَ وغيرَهُ لأَنَّهُ الأَنْسَبُ بِمَقامِ التَفْتيشِ، ولذا لَمْ يُعَبِّرْ بالرِّحالِ، بل قالَ الوعاءِ. وعَلَيْهِ يَكونُ ـ عَلَيْهِ السَّلامُ، قدْ فَتَّشَ كُلَّ ما يُمْكِنُ أَنْ يُحْفَظَ الصُّوَاعُ فيهِ مِمَّا كانَ مَعَهُمْ مِنْ رَحْلٍ وغَيْرِهِ.
قولُهُ: {كَذَلِكَ كِدْنَا لِيُوسُفَ} أَيْ مِثْلُ ذَلِكَ الكَيْدِ العَجِيبِ بِحَمْلِ الإخْوةِ إلى الإفْتاءِ المَذْكورِ وإِجْرائِهِ عَلى أَلْسِنَتِهم، صَنَعْنا أيضًا وَدَبَّرْنا ليوسُفَ مِنْ أَجْلِ تَحصيلِ غَرَضِهِ مِنَ المُقَدِّماتِ التي رَتَّبَها مِنْ دَسِّ السِّقايَةِ ومَا يَتْلوهُ، فالكَيْدُ هنا مِنَ المَجازِ اللُّغَوِيِّ، وإلَّا فَحَقيقَتُهُ أَنْ تُوهِمَ غَيْرَكَ خِلافَ ما تُخْفيهِ وتُريدُهُ، وقيلَ: "كِدْنَا" هُنَا بِمَعْنَى أرَدْنا، ومنهُ ما أنشَدَ سعيدٌ الأخفشُ:
كَادَتْ وَكِدْتُ وَتِلْكَ خَيْرُ إِرَادَةٍ ..... لَوْ عَادَ مِنْ عَهْدِ الصَّبَابَةِ مَا مَضَى
وفيهِ جَوازُ التَّوَصُّلِ إِلى الأَغْراضِ بالحِيَلِ إذا لَمْ تُخالِفْ شَريعَةً، ولا هَدَمَتْ أَصْلًا، خِلافًا لأَبي حَنيفَةَ النعمانِ ـ رضي اللهُ عنه، في تَجويزِهِ الحِيَلَ وإنْ خَالَفَتِ الأُصُولَ.
قولُهُ: {مَا كَانَ لِيَأْخُذَ أَخَاهُ فِي دِينِ الْمَلِكِ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ} تَفْسِيرٌ للكَيْدِ وبَيَانٌ لَهُ، وذَلِكَ أَنَّهُ كانَ في دِينِ مَلِكِ مِصْرَ أَنْ يُغَرَّمَ السَّارقُ مِثْلَيْ مَا أَخَذَ، لا أَنَّهُ يُلْزَمُ ويُسْتَعْبَدُ. وقال السُّدِّيُّ والضَّحَّاك ـ رضي اللهُ عنهما: "كِدْنَا" مَعْنَاه: صَنَعْنَا، وفسَّرَ ابْنُ عَبَّاسٍ ـ رضي اللهُ عنهما، "دِينِ المَلِكِ" بِسُلْطَانِهِ، وفَسَّرَهُ قَتَادَةُ ـ رضي اللهُ عنهُ، بالقضاءِ والحُكُم، وهذا كلُّهُ مُتَقارِبٌ. وَمَعْنَى لَامِ الْجَحُودِ هُنَا نَفْيُ أَنْ يَكُونَ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ سَبَبٌ يُخَوِّلُ يُوسُفَ ـ عَلَيْهِ السَّلَامُ، أَخْذَ أَخِيهِ عِنْدَهُ. وَالِاسْتِثْنَاءُ مِنْ عُمُومِ أَسْبَابِ أَخْذِ أَخِيهِ الْمَنْفِيَّةِ. وَفِي الْكَلَامِ حَرْفُ جَرٍّ مَحْذُوفٌ قَبْلَ أَنْ الْمَصْدَرِيَّةِ، وَهُوَ بَاءُ السَّبَبِيَّةِ الَّتِي يَدُلُّ عَلَيْهَا نَفْيُ الْأَخْذِ، أَيْ أَسْبَابُهُ. فَالتَّقْدِيرُ: إِلَّا بِأَنْ يَشَاءَ اللهُ، أَيْ يُلْهِمَ تَصْوِيرَ حَالَتِهِ وَيَأْذَنَ لِيُوسُفَ ـ عَلَيْهِ السَّلَامُ، فِي عَمَلِهِ بِاعْتِبَارِ مَا فِيهِ مِنَ الْمَصَالِحِ الْجَمَّةِ لِيُوسُفَ وَإِخْوَتِهِ فِي الْحَالِ وَالِاسْتِقْبَالِ لَهُمْ وَلِذُرِّيَّتِهِمْ.
قولُهُ: {اللهُ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ} تَذْيِيلٌ لِقِصَّةِ أَخْذِ يُوسُفَ ـ عَلَيْهِ السَّلَامُ، أَخَاهُ لِأَنَّ فِيهَا رَفْعَ دَرَجَةِ يُوسُفَ فِي الْحَالِ بِالتَّدْبِيرِ الْحَكِيمِ مِنْ وَقْتِ مُنَاجَاتِهِ أَخَاهُ إِلَى وَقْتِ اسْتِخْرَاجِ السِّقَايَةِ مِنْ رَحْلِهِ. وَرَفْعَ دَرَجَةِ أَخِيهِ فِي الْحَالِ بِإِلْحَاقِهِ لِيُوسُفَ ـ عَلَيْهِ السَّلَامُ، فِي الْعَيْشِ الرَّفِيهِ وَالْكَمَالِ بِتَلَقِّي الْحِكْمَةِ مِنْ فِيهِ. وَرَفْعَ دَرَجَاتِ إِخْوَتِهِ وَأَبِيهِ فِي الِاسْتِقْبَالِ بِسَبَبِ رَفْعِ دَرَجَةِ يُوسُفَ ـ عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَحُنُوِّهِ عَلَيْهِمْ. فَالدَّرَجَاتُ مُسْتَعَارَةٌ لِقُوَّةِ الشَّرَفِ مِنِ اسْتِعَارَةِ الْمَحْسُوسِ لِلْمَعْقُولِ. وَتَقَدَّمَ عند قَوْلِهِ تَعَالَى في الآية: 228، من سُورَةِ الْبَقَرَةِ: {وَلِلرِّجالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ}، وَعند قَوْلِهِ تعالى في سورة الأنفال: {لَهُمْ دَرَجاتٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ} الآية: 4. وروَى أبو عُمَرَ بْنُ عَبْدِ البَرِّ بِسَنَدِهِ، عنْ مَالكٍ، عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ ـ رضي اللهُ عنْهُ؛ أَنَّهُ قالَ في قَوْلِهِ ـ عَزَّ وجلَّ: "نَرْفَعُ درجات مَّن نَّشَاءُ" قال: بالعِلْمِ.
قولُهُ: {وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ} قالَ الحَسَنُ وقَتادةُ وابْنُ عبَّاسٍ ـ رضي اللهُ عنهم، المعنى: أَنَّ البَشَرَ في العلْمِ درجاتٌ، فكلُّ عالِمٍ فلا بُدَّ مِنْ أَعْلَمَ مِنْهُ، فَإِمَّا مِنَ البَشَرِ، وإِما اللهُ ـ عَزَّ وجَلَّ، ورُويَ أيضًا عَنِ ابْنِ عبَّاسٍ: إِنَّما العليمُ اللهُ، وهوَ فوقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ. وقالَ ابْنُ عطاءٍ السَكَنْدَريُّ، صاحبُ الحكَمِ العطائيَّةِ ـ رضيَ الله عنه، في (التنويرِ في إسقاطِ التدبيرِ): اِعْلَمْ أنَّ العلْمَ حيثُ ما تكرَّرَ في الكتابِ العزيزِ، أو في السُّنَّةِ، فإِنَّما المرادُ به العِلْمُ النافِعُ الذي تُقارنُهُ الخشيةُ، وتكتنِفُه المَخَافةُ. وقال الشيخُ العارفُ أَبو القاسمِ عبْدُ الرحمنِ بْنُ يوسُفَ اللَّجَائيُّ رحِمَهُ اللهُ: إِذا كَمُلَتْ للعبدِ ثلاَثُ خِصَالٍ، وصَدَقَ فيها، تفجَّرَ العْلْمُ مِنْ قَلْبِهِ على لسانهِ، وهي الزُّهْدُ، والإِخلاصُ، والتقوى، قال: ولا مَطْمَعَ في هذَا العلْمِ المذكورِ إِلا بَعْدَ معالجةِ القَلْبِ مِنْ عِلَلِه التي تُشينُه، كالكِبْرِ، والحَسَدِ، والغَضَبِ، والرياءِ، والسُّمْعةِ، والمَحْمَدَةِ، والجاهِ، والشَّرَفِ، وعُلُوِّ المنزلةِ، والطمَعِ، والحِرْصِ، والقَسْوةِ، والمُدَاهَنةِ، والحِقْدِ، والعَدَاوةِ، وكلِّ ما عَدَدْنَاهُ منَ العِلَلِ، وما لم نَعُدَّهُ راجعٌ إِلى أصلٍ واحدٍ، وهو حبُّ الدنيا، لأنَّ حُبَّها عنه يتفرَّعُ كلُّ شرٍّ، وعنه يتشعَّب كلُّ قبيح، فإِذا زالَتْ هذه العِلَلُ ظهر الصِّدْق، والإِخلاص، والتواضُعُ، والحِلْم، والوَرَعِ، والقَنَاعة، والزُّهْد، والصَّبْر، والرِّضا، والأُنْسُ، والمَحَبَّة، والشَّوْق، والتوكُّل، والخَشْية، والحُزْن، وقِصَر الأَمَلِ، وَمِزَاجُ النية بالعمل، فينبُعُ العِلْمُ، وينتفي الجَهْل، ويُضيءُ القَلْبُ بنورٍ إلاهيٍّ، ويتلألأُ الإِيمان، وتوضح المعرفةُ، ويتَّسِعُ اليقينُ، ويَتَقوَّى الإِلهامُ، وتبدو الفِراسَاتُ، ويصفى السرُّ، وتتجلَّى الأسرارُ، وتوجد الفوائدُ. وليس بَيْنَ العبدِ والترقِّي مِنْ سُفْلٍ إِلى عُلْوٍ إِلاَّ حُبُّ الدنيا؛ فإِن الترقِّي يتعذَّر مِنْ أجْل حبِّها؛ لأنها جاذبة إِلى العالَمِ الظُلْمانيِّ، وطِباعُ النفوسِ لذلك مائلةٌ، فإِنْ أردتَّ أنْ تقتفي أثَرَ الذاهِبينَ إِلى الله تعالى، فاسْتَخِفَّ بِدُنياكَ، وانْظُرْها بِعَيْنِ الزَّوالِ، وأَنْزِلْ نَفْسَكَ عِنْدَ أَخْذِ القُوتِ مِنْها مَنْزِلَةَ المُضْطَرِّ إِلى المَيْتَةِ.
وَفِي الآيةُ شَاهِدٌ لِتَفَاوُتِ النَّاسِ فِي الْعِلْمِ الْمُؤْذِنِ بِأَنَّ عِلْمَ الَّذِي خَلَقَ لَهُمُ الْعِلْمَ لَا يَنْحَصِرُ مَدَاهُ، وَأَنَّهُ فَوْقَ كُلِّ نِهَايَةٍ مِنْ عِلْمِ النَّاسِ. وَالْفَوْقِيَّةُ مَجَازٌ فِي شَرَفِ الْحَالِ، لِأَنَّ الشَّرَفَ يُشَبَّهُ بِالِارْتِفَاعِ. وَعَبَّرَ عَنْ جِنْسِ الْمُتَفَوِّقِ فِي الْعِلْمِ بِوَصْفِ عَلِيمٌ بِاعْتِبَارِ نِسْبَتِهِ إِلَى مَنْ هُوَ فَوْقَهُ إِلَى أَنْ يَبْلُغَ إِلَى الْعَلِيمِ الْمُطْلَقِ سُبْحَانَهُ. وَظَاهِرُ تَنْكِيرِ عَلِيمٌ أَنْ يُرَادَ بِهِ الْجِنْسُ فَيَعُمُّ كُلَّ مَوْصُوفٍ بِقُوَّةِ الْعِلْمِ إِلَى أَنْ يَنْتَهِيَ إِلَى عِلْمِ اللهِ تَعَالَى. فَعُمُومُ هَذَا الْحُكْمِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْمَخْلُوقَاتِ لَا إِشْكَالَ فِيهِ. وَيَتَعَيَّنُ تَخْصِيصُ هَذَا الْعُمُومِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى اللهِ تَعَالَى بِدَلِيلِ الْعَقْلِ إِذْ لَيْسَ فَوْقَ اللهِ عَلِيمٌ. وَقَدْ يُحْمَلُ التَّنْكِيرُ عَلَى الْوَحْدَةِ وَيَكُونُ الْمُرَادُ عَلِيمٌ وَاحِدٌ فَيَكُونُ التَّنْكِيرُ لِلْوَحْدَةِ وَالتَّعْظِيمِ، وَهُوَ اللهُ تَعَالَى فَلَا يَحْتَاجُ إِلَى التَّخْصِيصِ.
قولُهُ تعالى: {فَبَدَأَ بِأَوْعِيَتِهِمْ قَبْلَ وِعَاءِ أَخِيهِ} الفاءُ: هي الفاءُ الفَصِيحَةُ؛ فقد أَفْصَحَتْ عَنْ جَوابِ شَرْطٍ مُقَدَّرٍ بِ: إذا عَرَفْتَ مَا قالَ إِخْوَةُ يُوسُفَ، وأَصْحابُهُ، وأَرَدتَ بَيانَ ما فعَلَ هو بإخوتِهِ فأَقولُ لَكَ: "بَدَأَ بِأَوْعِيَتِهِمْ قَبْلَ وِعَاءِ أَخِيهِ". و "بَدَأَ" فِعْلٌ مَاضٍ مبنيٌّ على الفتحِ الظاهِرِ، وفاعِلُهُ ضَميرٌ مستترٌ فيهِ جوازًا تقديرُهُ "هو" يَعودُ عَلَى "يُوسُف" ـ عليهِ السَّلامُ، وهذه الجُمْلَةُ الفِعْلِيَّةُ في مَحَلِّ النَّصْبِ بالقولِ لِجَوابِ "إذا" المُقَدَّرَةِ، وجُمْلَةُ "إِذا" المُقَدَّرَةِ مُسْتَأْنَفَةٌ لا مَحَلَّ لَهَا مِنَ الإعْرابِ. و "بِأَوْعِيَتِهِمْ" الباءُ حرفُ جَرٍّ مُتَعَلِّقٌ بِ "بَدَأَ" و "أَوْعِيَةِ" مَجْرورٌ بهِ مضافٌ، وضميرُ الغائبينَ "هم" في محلِّ الجرِّ بالإضافةِ إِليْهِ. و "قَبْلَ" منصوبٌ على الظَرْفِيَّةِ الزمانيَّةِ، مُتَعَلِّقٌ بِ "بَدَأَ" وهوَ مُضافٌ، و "وِعَاءِ" مَجرورٌ بالإضافَةِ إِلَيْهِ، وهو مضافٌ، و "أَخِيهِ" مَجرورٌ بالإضافةِ إليْهِ، وعَلامَةُ جَرِّهِ الياءُ لأَنَّهُ مِنَ الأَسماءِ الخَمْسَةِ، وهوَ مُضافٌ أَيْضًا، والهاءُ: ضَميرٌ مُتَّصلٌ بِهِ في مَحَلِّ الجرِّ بالإضافةِ إِلَيْهِ أيضًا.
قولُهُ: {ثُمَّ اسْتَخْرَجَهَا مِنْ وِعَاءِ أَخِيهِ} ثُمَّ: حَرْفُ عَطْفٍ. و "اسْتَخْرَجَهَا" فعلٌ ماضٍ مبنيٌّ على الفَتْحِ، وفاعِلُهُ ضَميرٌ مُستترٌ فيه جوازًا تقديرُهُ "هو" يَعودُ عَلَى يوسُفً ـ عليهِ السَّلامُ، والهاءُ ضميرٌ متَّصلٌ بهِ يعودُ في محَلِّ نَصْبِ مفعولِهِ. و "مِنْ" حرفُ جَرٍّ مُتَعَلِّقٌ بِ "استخراج"، و "وِعَاءِ" مَجْرورٌ بحرْفِ الجرِّ مُضافٌ، و "أَخِيهِ" مَجرورٌ بالإضافَةِ إليْهِ، وعلامةُ جرِّهِ الياءُ لأنَّهُ من الأسماءِ الخَمْسَةِ، وهو مضافٌ أيضًا، والهاءُ ضميرٌ متَّصلٌ بهِ مي محلِّ جرِّ مضافٍ إليهِ. وجُمْلَةُ "استخرج" الفِعْلِيَّةُ مَعْطوفَةٌ عَلَى جُمْلَةِ "بَدَأَ" على كونِها مقولَ القولِ لجوابِ "إذا" المُقدَّرةِ، لا محلَّ لها منَ الإعرابِ.
قولُهُ: {كَذَلِكَ كِدْنَا لِيُوسُفَ} كَذَلِكَ: الكافُ حرفُ جرٍّ وتشبيهٍ متعلِّقٌ بِصفةٍ لِمَصْدَرٍ مَحْذوفٍ مَعْمُولٍ لِمَا بَعْدَهُ، و "ذا" سمُ إشارةٍ مبنيٌّ في محلِّ الجر بحرفِ الجَرِّ، واللامُ للبعدِ، والكافُ للخطابِ. و "كِدْنَا" فعلٌ ماضٍ مبنيٌّ على السكونِ لاتِّصالِهِ بضميرِ رفعٍ متحرِّكٍ هو "نا" الجماعة، و "نا" الجماعةِ ضميرٌ متَّصلٌ في محلِّ الرفعِ فاعلٌ. و "لِيُوسُفَ" اللامُ حَرْفُ جَرٍّ مُتَعَلِّقٌ بالفعلِ، وهي هنا للنَّفْعِ وليستْ كالتي في قولِهِ تِعَالى: {فَيَكِيدُواْ لَكَ كَيْدًا} الآيةَ الخامِسَةَ منْ هَذِهِ السُّورَةِ المُباركةِ، فإنَّها هناك للضَّرَرِ عَلى ما هوَ الاسْتِعْمالُ الشائعُ. و "يوسُفَ" اسمٌ مجرورٌ بحرفِ الجرِّ، وعلامةُ جرِّهِ الفتْحةُ نيابةً عن الكسرةِ لأنَّهُ ممنوعٌ منَ الصرفِ بالعلَميَّةِ والعُجمةِ، والتَّقديرُ: كِدْنَا لِيُوسُفُ كَيْدًا مِثْلَ ذَلِكَ الكَيْدِ المَذْكورِ، والجُمْلَةُ في مَحَلِّ النَّصْبِ بالقولِ لِجَوابِ إِذا المُقَدَّرَةِ.
قولُهُ: {مَا كَانَ لِيَأْخُذَ أَخَاهُ فِي دِينِ الْمَلِكِ} مَا: نافيَةٌ لا عَمَلَ لها. و "كاَنَ" فعلٌ ماضٍ ناقصٌ، واسْمُها ضَميرٌ مستترٌ فيه جَوازًا، تقديرُهُ "هو" يَعودُ عَلى "يوسفَ". و "لِيَأْخُذَ" اللامُ: حَرْفُ جَرٍّ وجُحُودٍ، و "يَأْخُذَ" فِعْلٌ مضارعٌ مَنْصوبٌ بِ "أَنْ" مُضْمَرَةٍ وُجُوبًا بَعْدَ لامِ الجُحُودِ، وفاعِلُهُ ضميرٌ مستترٌ فيهِ جوازًا تقديرُهُ "هو" يعودُ على "يوسُفُ" عليهِ السلامُ، و "أَخاهُ" مَفْعولٌ بهِ منصوبٌ وعلامةُ نَصبِهِ الألفُ لأنَّهُ مِنَ الأسماءِ الخمسَةِ، وهو مُضافٌ، والهاءُ ضميرٌ متّصلٌ بهِ في محلِّ الجرِّ بالإضافةِ إليْهِ. والمَصْدَرُ المُؤَوَّلُ منْ "أَنْ يَأْخُذَ" في مَحَلِّ الجَرِّ بلامِ الجحودِ مُتَعَلِّقٌ بِمَحْذوفِ خَبَرِ "كانَ" عَلَى مَذْهَبِ البَصْرِيِّينَ والتَقْديرُ: ما كانَ يُوسُفُ مُريدًا لأَخْذِ أَخِيهِ في دِينِ المَلِكِ، ومُتَمَكِّنًا مِنْهُ في حُكْمِهِ، وهذِهِ الجُمْلَةُ تَعْليقٌ لِمَا صَنَعَهُ اللهُ لِيُوسُفَ مِنَ الكَيْدِ، أَوْ تَفْسيرٌ لَهُ. و "فِي" حرفُ جَرٍّ مُتَعَلِّقٌ ب "يأخُذَ"، و "دِينِ" مجرورٌ بهِ مضافٌ، و "الْمَلِكِ" مجرورٌ بالإضافةِ إليهِ، وهذه الجُمْلَةُ الفِعْلِيَّةِ صِلَةُ "أَنَّ" المُضْمَرَةِ لا محلَّ لها مِنَ الإعرابِ.
قولُهُ: {إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللهُ} إِلَّا: أَداةُ اسْتِثْنَاءٍ مُفرَّغٍ مِنْ أَعَمِّ الأَحْوالِ العامة، والتَّقْديرُ: ما كانَ لِيَأْخُذَهُ في كلِّ حالٍ إِلَّا في حالِ الْتِباسِهِ بِمَشِيئَةِ اللهِ، أَيْ إِذْنِهِ في ذَلِكَ. وقِيلَ: إنَّهُ اسْتِثْنَاءٌ مُنْقَطِعٌ تَقْديرُهُ: ولكنْ بِمَشيئَةِ اللهِ أَخَذَهُ في دِينَ غَيْرِ المَلِكِ، وهوَ دِينُ آلِ يَعْقوبَ ـ عليهِ السلامُ. و "أَنْ" حرفٌ نَاصِبٌ، و "يَشَاءَ" فِعْلٌ مُضارعٌ منصوبٌ ب "أن" ولفظُ الجلالةِ "اللهُ" فاعِلٌ مرفوعٌ، والجُمْلَةُ الفعليَّةُ هذِهِ في تَأْويلِ مَصْدَرٍ مَجرورٍ بإضافَةِ مُسْتَثْنَى المَحذوفِ إِلَيْهِ، والتَقديرُ: ما كانَ لِيَأْخُذَ أَخْاهُ في دِينِ المَلِكِ في حالٍ مِنَ الأَحْوالِ إِلَّا حالَ مَشيئَةِ اللهِ ـ سُبْحانَهُ وتَعَالى.
قولُهُ: {نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ} نَرْفَعُ: فعلٌ مُضارِعٌ مرفوعٌ لِتَجَرُّدِهِ مِنَ النَّاصِبِ والجازمِ، وفاعِلُهُ ضَميرٌ مُسْتَتِرٌ فيهِ وُجوبًا تَقْديرُهُ "نحنُ" يَعودُ عَلَى "اللهُ" تعالى، والجُمْلَةُ في مَحَلِّ النَّصْبِ بالقولِ لِجَوابِ "إذا" المُقَدَّرَةِ. و "دَرَجَاتٍ" فيها خمسةُ أوجُهٍ أَحَدُها: أَنَّها مَنْصُوبَةٌ عَلى الظَّرْفِيَّةِ المكانِيَّةِ أَوِ الاعتباريَّةِ، و "مَنْ" مَفْعولُ "نرفعُ" أَيْ: نَرْفَعُ مَنْ نَشَاءُ مَرَاتِبَ ومَنَازِلَ. وثانيها: أَنَّهُ مَفْعولٌ ثانٍ قُدِّمَ عَلى الأَوَّلِ، وذَلِكَ بتَضمينِ "نَرْفَعُ" مَعْنَى فِعْلٍ يَتَعَدَّى لاثْنَيْنِ كَ "يُعْطي" مَثَلًا، أَيْ: نُعْطِي، بالرَّفْعِ مَنْ نَشَاءُ رَفْعَهُ دَرَجَاتٍ، أَيْ: رُتَبًا، وتكونُ الدَّرَجَاتُ هِيَ المَرْفُوعةَ كَقَوْلِهِ تعالى في سورةِ غافر: {رَفِيعُ الدَّرَجاتِ} الآية: 15، وفي الحَديثِ الشريفَ قولُهُ ـ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ: ((اللهُمَّ ارْفَعْ دَرَجَتَهُ في عِلِّيِينَ)). فإذا رُفِعَتِ الدَّرَجَةُ فَقَدْ رُفِعَ صاحِبُها. ثالثُها: أَنَّهُ مَنْصوبٌ عَلَى التَّمْيِيزِ، ويَكونُ مَنْقولًا مِنَ المَفْعولِيَّةِ، فَيَؤُولُ إِلى قِراءَةِ الجَمَاعَةِ إذِ الأَصْلُ: "نَرْفَعُ دَرَجَاتِ مَّن نَّشَاءُ" بإِضافةِ "درجاتِ" إلى "مَنْ" ثمَّ حُوِّلَ كَقَوْلِهِ تعالى في سورةِ القَمَرِ: {وَفَجَّرْنَا الأَرْضَ عُيُونًا} الآية: 12، أَيْ: وفجَّرْنا عُيونَ الأَرْضِ. الرابعُ: أنَّهُ نَصْبٌ بنزعِ الخافضِ على تقدير حرفِ جَرٍّ، أيْ: نرفعُ مَنْ نشاءُ إِلى درجاتٍ أَوْ إلىَ مَنَازِلَ. والخامِسُ: أَنَّهُ نَصْبٌ عَلى الحالِ، وذلك عَلَى تقديرِ مُضافٍ، أَيْ: نرفعُ ذوي درجاتٍ. وهو كقولِهِ تَعَالى في سورةِ الأنْعامِ: {وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ} الآية: 165، وكقولِهِ في سورة الزُخرُفِ: {وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِّيَتَّخِذَ بعضهم بعضًا سُخريَّةً} الآية: 32، وكقولِهِ في الآية: 253، مِنْ سُورَةِ البَقَرَةِ: {وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مريمَ البَيِّناتِ}. وجُمْلَةُ "نَشَاءُ" صِلَةُ "مَنْ" المَوْصُولَةْ، والتقديرُ: نَرْفَعُ مَنْ نَشَاءُ رَفْعَهُ مِنْ عِبادِنَا في دَرَجاتٍ.
قولُهُ: {وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ} الوَاوُ: للعطفِ، و "فَوْقَ" منصوبٌ على الظرفيَّةِ المكانيَّةِ أَوِ الاعْتِبَارِيَّةِ، متعلِّقٌ بخبرٍ مُقدَّمٍ، وهو مضافٌ، و " كُلِّ" مَجرورٌ بالإضافَةِ إِلَيْهِ، و "ذِي" مجرورٌ بالإضافةِ إليهِ، وعلامةُ جَرِّهِ الياءُ لأنَّهُ مِنَ الأَفعالِ الخمسةِ، و "عِلْمٍ" مَجرورٌ ضافٌ إليْهَ أيضًا، و "عَلِيمٌ" مُبْتَدَأٌ مُؤَخَّرٌ مرفوعٌ، والجُمْلَةُ في مَحَلِّ النَّصْبِ بالقولِ لِجَوابِ إِذا المُقَدَّرَةِ.
قرأ العامَّةُ: {وِعاءِ} بِكَسْرِ الواوِ، وَقَرَأَ الحَسَنُ بِضَمِّها، وَهِيَ لُغَةٌ نُقِلَتْ عَنْ نافِعٍ أَيْضًا. وَقَرَأَ سَعيدُ بْنُ جُبَيْرٍ "مِنْ إعاءِ" بِإِبْدالِ الواوِ هَمْزَةً، وهيَ لُغَةٌ هُذَيْلِيَّةٌ: يُبْدِلونَ مِنَ الواوِ المَكْسُورةِ أَوَّلَ الكَلِمَةِ هَمْزَةً فَيَقولونَ: إِشاحَ في: وشاحٍ، وإِسادة في: وِسادة، وإِعاء، في وِعاء.
قرأَ العامَّةُ: {نَرْفَعُ دَرَجَاتِ مَنْ نَّشَاءُ}، وقَرَأَ يَعْقوبُ "يرفعُ" بالياء مِنْ تحت في "يَرْفَعُ" و "يَشاءُ"، والفاعِلُ هو اللهُ تَعَالى: وقرَأَ عِيسى وأهلُ البصرةِ "نَرْفعُ" بالنُّونِ و "درجاتٍ" مُنَوَّنَةً، و "يشاءُ" بالياءِ. وتوجيهُها: أَنَّهُ الْتَفَتَ في قولِه "يشاء" مِنَ التَكَلُّمِ إِلى الغَيْبَةِ، والمُرادُ واحدٌ. وهِيَ قِراءةٌ مرغوبٌ عَنْها، وإنْ لَمْ يِمْكِنْ إِنْكارُها.
قرَأَ العامَّةُ: {وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ}، وقَرَأَ عَبْدُ اللهِ بْنُ مَسْعودٍ "وفوْقَ كُلِ ذِي عالِم" وفيها ثلاثةُ أَوْجُهٍ، أَحَدُهَا: أَنْ يَكونَ "عالم" هُنَا مَصْدَرًا، قالوا: مِثْل "الباطل" فإنَّهُ مَصْدرٌ، فهي كالقِراءَةِ المَشْهورَةِ. الثاني: أَنَّ ثَمَّ مُضافًا مَحْذوفًا تَقْديرُهُ: وَفوقَ كُلِّ ذِي مُسَمَّى عَالمٍ، ومنه قَوْلُ لَبيدِ بْنِ ربيعةَ:
إلى الحَوْلِ ثُمَّ اسْمُ السَّلاَمِ عَليْكُما ... ومَنْ يَبْكِ حوْلًا كاملًا فَقَدِ اعْتَذَرْ
أَيْ: مُسَمَّى السَّلامِ. الثالثُ: أَنَّ "ذو" زائدةٌ، كَما هي في قَوْلِ الكُمَيْتِ الأسديِّ:
إِلَيْكُمْ ذَوِيْ آلِ النَّبِيِّ تَطَلَّعَتْ ............ نَوَازعُ مِنْ قَلْبِيْ ظِمَاءٌ وَأَلْبُبُ