فيض العليم ... سورة يوسُف، الآية: 72
قَالُوا نَفْقِدُ صُوَاعَ الْمَلِكِ وَلِمَنْ جَاءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ وَأَنَا بِهِ زَعِيمٌ (72)
قولُهُ ـ تعالى شأْنُهُ: {قَالُوا نَفْقِدُ صُوَاعَ الْمَلِكِ} صُوَاعُ المَلِكِ: صَاعُهُ الذي يَشْرَبُ فِيهِ، ويَكْتَالُ بِهِ للمُمْتَارينَ. قِيلَ: الصُّوَاعُ اسْمٌ، وَالسِّقَايَةُ وَصْفٌ، كَقَوْلِهِمْ: كُوزٌ وَسِقَاءٌ، فَالْكُوزُ اسْمٌ وَالسِّقَاءُ وَصْفٌ. وقد تقدَّمَ لنا تَفصيلٌ في معنى هذه الكَلِمَةِ واشْتِقاقِها.
قولُهُ: {وَلِمَنْ جَاءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ} ومَنْ سيُخرِجُها مِنَ المَكانِ المَخْفِيَّةِ فيهِ أَوْ يَدُلُّ عَلى سارِقِهِا، فَلَهُ مُكافَأَةٌ قَدْرُها وَزْنُ حِمْلِ بَعيرٍ؛ أَيْ: حِمْلُ بَعيرٍ مِنَ المَيْرَةِ والغِذاءِ، أَوْ مِنْ طَعامٍ كَانَ مَعْلُومًا عِنْدَهُمْ، ومتوافقًا عليه، وذلك كَمُكافَأَةٍ لَهُ وزِيادَةً عَلَى اسْتِحْقاقِهِ. وقال رجالُ يوسُفَ معلِّلينَ ذلك لهم: فَلَعَلَّ صُواعَ المَلِكِ قَدْ خُبِّئَتْ في حِمْلِ أَحَدِكُمْ دُونَ علمِهِ أوْ دُونَ قَصْدٍ مِنْهُ ولا يَدْرِي، ولم يوجِّهوا لهم التهمَةَ بالسَرِقةِ بشكلٍ صريحٍ واضِحٍ.
قولُهُ: {وَأَنَا بِهِ زَعِيمٌ} تَأْكيدٌ مِنْ رَئيسِ المُنَادينِ أَنَّهُ الضَّامِنُ لِمَنْ يُخْرِجُ صُواعَ المَلِكِ مِنَ المَكانِ الذي خبِّئتْ فيهِ، ويُحْضِرُها دونَ تَفْتيشٍ أَنْ يَنَالَ جائزَتَهُ، والزَّعِيمُ بِلِسَانِ أَهْلِ الْيَمَنِ: الْكَفِيلُ. وَرَوَى أَبُو عُبَيْدَةَ عَنِ الْكِسَائِيِّ: زَعَمَتْ بِهِ تَزْعُمُ زَعْمًا وَزَعَامَةً. أَيْ كَفَلَتْ بِهِ، وَهَذِهِ الْآيَةُ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْكَفَالَةَ كَانَتْ صَحِيحَةً فِي شَرْعِهِمْ، وَقَدْ حَكَمَ بِهَا رَسُولُ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فِي قَوْلِهِ: ((الزَّعِيمُ غَارِمٌ)) أَخرجهُ الأئمَّةُ: أَحْمَدُ في مُسْنَدِه: (5/267)، وأَبو دَاودَ في سُنَنِهِ، كتاب البُيوع: (3565)، والتِرْمِذِيُّ في سُنَنِهِ، كِتَاب البُيوعِ: (1265)، وابْنُ ماجَهْ وصحّحهُ في بابِ الصَدَقات منْ صحيحِهِ: (2405)، جَمِيعُهم عنْ أبي أُمامَةَ الباهِلِيِّ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ. فَصَحَّتِ الْكَفَالَةُ بِهِ إِلَّا أَنَّ هَذِهِ كَفَالَةُ مَالٍ لِرَدِّ سَرِقَةٍ، وَلَعَلَّ مِثْلَ هَذِهِ الْكَفَالَةِ كَانَتْ تَصِحُّ عِنْدَهُمْ، فهي كَفَالَةٌ بِمَا لَمْ يَجِبْ، لِأَنَّهُ لَا يَحِلُّ لِلسَّارِقِ أَنْ يَأْخُذَ شَيْئًا عَلَى رَدِّ السَّرِقَةِ. وهوَ مِنْ قوْلِ المُؤَذِّنِ، فقد وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ جَريرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبي حَاتِمٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، فِي قَوْلِهِ تعالى: "وَأَنا بِهِ زَعيمٌ" قَالَ: الزَّعيمُ هُوَ الْمُؤَذِّنُ الَّذِي قَالَ: {أَيَّتُها العِيرُ}.
وَأخرج ابْنُ جريرٍ، وَابْنِ الْمُنْذرِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ـ رَضِي اللهُ عَنْهُمَا، فِي قَوْلِهِ تعالى: "وَأَنا بِهِ زعيمٌ"، قَالَ: كَفِيلٌ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَريرٍ، عَنْ سَعيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، وَمُجاهِدٍ، وَقَتَادَةَ، وَالضَّحَّاكِ، مِثْلَهُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ الْأَنْبَارِيِّ فِي (الْوَقْفِ والابْتِداءِ) له، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا، أَنَّ نَافِعَ بْنَ الْأَزْرَقِ قَالَ لَهُ: أَخْبِرْنِي عَنْ قَوْلِهِ تعالى: "وَإِنَّا بِهِ زعيمٌ"، مَا الزَّعيمُ؟ قَالَ: الْكَفِيلُ. ومن ذلكَ قَولُ فَرْوَةَ بْنِ مُسَيْكٍ:
أَكونُ زَعِيمَكم فِي كُلِّ عَامٍ ................. بِجَيْشٍ جَحْفَلٍ لَجِبٍ لَهَامِ
قولُهُ تَعَالَى: {قَالُوا نَفْقِدُ صُوَاعَ الْمَلِكِ} قَالُوا: فعْلٌ ماضٍ مَبْنِيٌّ عَلَى الضَّمِّ لاتِّصالِهِ بِوَاوِ الجَمَاعَةِ، وواوُ الجَمَاعَةِ ضَمِيرٌ مُتَّصِلٌ بِهِ مَبْنِيٌّ عَلى السُّكونِ في محلِّ رَفعِ فاعلِهِ، والأَلِفُ فارقةٌ. والجُمْلَةُ مُسْتَأْنَفَةٌ، اسْتِئْنافًا بيانيًّا لا مَحَلَّ لها مِنَ الإعرابِ. و "نَفْقِدُ" فعلٌ مضارعٌ مرفوعٌ لتجرُّدِهِ منَ الناصِبِ والجازِمِ، وفاعلُهُ ضَميرٌ مستترٌ فيهِ وُجوبًا تقديرُهُ: "نحن" يَعودُ عَلى أَصحابِ يُوسُفَ ـ عَلَيْهِ السَّلامُ، مِنْ عُمَّالِهِ وموظَّفيهِ، و "صُوَاعَ" مَفْعولٌ بِهِ منصوبٌ وهو مضافٌ، و "الْمَلِكِ" مجرورٌ بالإضافةِ إليه، والجملةُ في مَحَلِّ النَّصْبِ بِ "قَالُوا".
قولُهُ: {وَلِمَنْ جَاءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ} الوَاوُ: للعطفِ، و "لِ" حرفِ جَرٍّ متَعلِّقٌ بخبرٍ مقدَّمٍ، و "مَنْ" اسمٌ موصولٌ مبنيٌّ على السُّكونِ في مَحَلِّ الجَرِّ بِحَرْفِ الجَرِّ. و "جَاءَ" فعلٌ ماضٍ مبنيٌّ على الفتحِ، وفاعلُهُ ضَميرٌ مُستترٌ فيهِ جوازًا تقديرُهُ "هو" يَعودُ عَلى "مَنْ". و "بِهِ" الباءُ حرفُ جرٍّ مُتَعَلِّقٌ بِ "جَاءَ" والهاءُ ضميرٌ متَّصلٌ بهِ في محلِّ الجرِّ بحرفِ الجَرِّ، والجُمْلَةُ صِلَةُ الاسمِ الموصولِ "مَنْ". و "حِمْلُ" مُبْتَدَأٌ مُؤَخَّرٌ مرفوعٌ، وهو مضافٌ، و "بَعِيرٍ" مجرورٌ بالإضافةِ إليه، وهذه الجُمْلَةُ الاسْمِيَّةُ في مَحَلِّ النَّصْبِ ب "قَالُوا".
قولُهُ: {وَأَنَا بِهِ زَعِيمٌ} الوَاوُ: للاستِئنافِ، و "أَنَا" ضميرٌ مُنْفَصِلٌ لِجَمَاعَةِ المُتَكَلِّمينَ، مَبْنِيٌّ عَلَى السُّكونِ في محلِّ الرفعِ بالابْتِداء. و "بِهِ" "بِهِ" الباءُ حرفُ جرٍّ مُتَعَلِّقٌ بِالخَبَرِ "زَعيمٌ"، والهاءُ ضميرٌ متَّصلٌ بهِ في محلِّ الجرِّ بحرفِ الجَرِّ، و "زَعِيمٌ" خَبَرُ المُبْتَدَأِ مرفوعٌ، والجُمْلَةُ في مَحلِّ النَّصْبِ ب "قَالُوا".
قرَأَ العامَّةُ: {صُواعَ} بِزِنَةِ "غُرابٍ"، والعَيْنُ مُهْمَلَةٌ. وَقَرَأَ سعيدُ بْنُ جُبَيْرٍ، والحَسَنُ ـ رضي اللهُ عنهما، كَذَلِكَ إِلَّا أَنَّه بالْغَيْنِ مُعْجَمَةً. فقد أَخْرَجَ أَبُو عُبَيْدٍ، وَابْنُ جَريرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ، عَنْ سَعيدِ بْنِ جُبَيْرٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، أَنَّهُ كَانَ يقْرَأُ "نَفْقُدُ صُواعَ الْمَلِكِ" بِضَمِّ الصَّادِ مَعَ الْأَلِفِ. وقَرَأَ يَحْيَى بْنُ يَعْمُرَ كَذلِكَ أيضًا، إِلَّا أَنَّهُ حَذَفَ الأَلِفَ وسَكَّنَ الواوَ، وقَرَأَ زَيْدُ بْنُ عَلِيٍّ "صَوْغ" كَذَلِكَ، إِلَّا أَنَّهُ فَتَحَ الصّادَ جَعَلَهُ مَصْدَرًا لِ "صاغ" "يَصُوغُ"، والقِراءَتانِ قَبْلَهُ مُشْتَقَّتانِ مِنْهُ، وهوَ واقعٌ مَوْقِعَ مَفْعولٍ، أَيْ: مَصُوغُ المَلِكِ. وَقَرَأَ أَبو حَيَوَةَ، وابْنُ جُبَيْرٍ، والحَسَنُ في رِوايَةٍ عَنْهم، "صِواعَ" كالعامَّة إلَّا أَنَّهم كَسَروا الفاءَ. وقَرَأَ أَبو هُرَيْرَةَ، ومُجاهِدٌ ـ رضي اللهُ عنهما، "صَاعَ" بِزِنَةِ "باب"، وألِفُهُ كَأَلِفِهِ في كونِها مُنْقَلِبَةً عَنْ واوٍ مَفْتُوحَةٍ. فَقد أَخْرَجَ سَعيدُ بْنُ مَنْصُورٍ، وَابْنُ الْأَنْبَارِيِّ، عَنْ أَبي هُرَيْرَةَ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، أَنَّهُ كَانَ يَقْرَأُ "صَاعَ الْمَلِكِ". وَقَرَأَ أَبو رَجَاءٍ "صَوْعَ" بِزِنَةِ "قَوْسٍ". فَقد أَخْرَجَ ابْنُ الْأَنْبَارِيِّ عَنْ أَبي رَجَاءٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، أَنَّهُ قَرَأَ "نَفْقد صَوْعَ الْمَلِكِ" بِعَيْنٍ غَيْرِ مُعْجَمَةٍ وصَادٍ مَفْتُوحَةٍ. وقَرَأَ عَبْدُ اللهِ بْنُ عَوْنٍ كَذَلِكَ إِلَّا أَنَّه ضَمَّ الفاءَ فهَذِهِ ثَمَانِ قِراءاتٍ مُتَواتِرُها واحِدَةٌ. وَأَخْرَجَ أَيضًا عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَوْنٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، أَنَّهُ كَانَ يقْرَأُ "صُوْعَ الْمَلِكِ" بَصَادٍ مَضْمُومَةٍ. وَأَخْرَجَ أيضًا عَنْ سَعيدِ بْنِ جُبَيْرٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، أَنَّهُ كَانَ يَقْرَأُ "صِياعَ الْمَلِكِ" أيضًا.