الموسوعة القرآنية
فَيْضُ العَليمِ مِنْ مَعاني الذِّكْرِ الحَكيمِ
تفسير ـ أسباب نزول ـ أحكام ـ إعراب ـ تحليل لغة ـ قراءات
اختيار وتأليف:
الشاعر عبد القادر الأسود
الجزءُ الثاني عَشَرَ ـ المُجَلَّدُ الرَّابِع عَشَرَ
ذَلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ وَأَنَّ اللهَ لَا يَهْدِي كَيْدَ الْخَائِنِينَ (52) من سورة يوسُف
قولُهُ ـ تعالى شأْنُهُ: {ذَلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ} قيل: إنَّ ضميرَ الفاعِلِ في "أَخُنْهُ" يعودُ على زُليخا، وعليهِ فالْخِيَانَةُ هنا: هِيَ ما اتَّهَمَتْهُ بِه كَذِبًا مِنْ مُحَاوَلَةِ السُّوءِ مَعَهَا، لِأَنَّ الْكَذِبَ ضِدُّ أَمَانَةِ قَوْلِ الْحَقِّ، وَالتَّعْرِيفُ فِي "الْغَيْبِ" تَعْرِيفُ الْجِنْسِ. فقد تَمَدَّحَتْ نفسَها بِعَدَمِ الْخِيَانَةِ عَلَى أَبْلَغِ وَجْهٍ إِذْ نَفَتِ عنها الْخِيَانَةَ فِي الغِيبِ وَهُوَ حَائِلٌ بَيْنَهُ وَبَيْنَ دِفَاعِهِ عَنْ نَفْسِهِ، وَحَالَةُ الْمَغِيبِ أَمْكَنُ لِمُريدِ الْخِيَانَةِ أَنْ يَخُونَ فِيهَا مِنْ حَالَةِ الْحَضْرَةِ، لِأَنَّ الْحَاضِرَ قَدْ يَتَفَطَّنُ لِقَصْدِ الْخَائِنِ فَيَدْفَعُ خِيَانَتَهُ بِالْحُجَّةِ. وقَالَ الْحَسَنُ وَمُجَاهِدٌ وَقَتَادَةُ وَالضَّحَّاكُ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُم: هَذَا مِنْ قَوْلِ يُوسُفَ ـ عَلَيْهِ السَّلامُ، يَقُولُ: إِنِّي إنَّمَا رَدَدْتُ الرَّسُولَ إلَيْهِ فِي سُؤَالِ النِّسْوَةِ لِيَعْلَمَ الْعَزِيزُ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ وَإِنْ كَانَ ابْتِدَاءُ الْحِكَايَةِ عَنْ الْمَرْأَةِ، فَإِنَّهُ رَدَّ الْكَلَامَ إلَى الْحِكَايَةِ عَنْ قَوْلِ يُوسُفَ ـ عليه السلامُ، لِظُهُورِ الدَّلَالَةِ عَلَى الْمَعْنَى، وذَلِكَ نَحْوُ قولِهِ في سُورَةِ النَّمْلِ: {وكذلك يفعلون} وَقَبْلَهُ حِكَايَةٌ عَنْ الْمَرْأَةِ: {وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِهَا أَذِلَّةً} الآية: 34. وكقولِهِ في سُورةِ الشُعَراءِ: {فمَاذا تَأْمُرونَ} وَقَبْلَهُ حِكَايَةُ قَوْلِ الْمَلَإِ: {يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكم بِسِحْرِهِ} الآية: 35. ذَلِكَ الرَدُّ الذي كانَ مِنْهُ وتَرَكَ الإجابَةَ لِرَسُولِ المَلِكِ؛ حَيْثُ قالَ: {ائْتُونِي بِهِ} لِيَعْلَمَ المَلِكُ أَنَّي لَمْ أَخُنْه بالغَيْبِ؛ في أَهْلِهِ إذا غابَ عَنِّي؛ رَدًّا لِقَوْلِها: {مَا جَزَاءُ مَنْ أَرَادَ بِأَهْلِكَ سُوءً} وتَصْديقًا لقولِهِ؛ حيث قال: {هِيَ رَاوَدَتْنِي عَنْ نَفْسِي}. أَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، فِي قَوْلِهِ: "ذَلِك ليعلم أَنِّي لم أخنه بِالْغَيْبِ" قَالَ: هُوَ قَولُ يُوسُفَ لِمَليكِهِ حِينَ أَرَاهُ اللهُ عُذْرَهُ. وَأَخرجَ أَبُو عُبَيْدٍ، وَابْنُ جَريرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، عَنِ ابْنِ جُرَيجٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، قَالَ: أَرَادَ يُوسُفُ ـ عَلَيْهِ السَّلَام، الْعُذْرَ قبلَ أَنْ يَخْرُجَ مِنَ السِّجْنِ فَقَالَ: {ارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ فَاسْأَلْهُ مَا بَالُ النِّسْوَةِ اللَّاتِي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ إِنَّ رَبِّي بِكَيْدِهِنَّ عَليمٌ} الآيَة: 50، السابِقَةِ. و "ذَلِك ليعلم أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ" قَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ: وَبَيْنَ هَذَا وَبَينَ ذَلِكَ مَا بَينَه، قَالَ: وَهَذَا مِنْ تَقْدِيمِ الْقُرْآنِ وتَأْخيرِهِ. وأَبْعَدَ مَنْ قالَ مِنْ أَهْلِ التَأْويلِ: ذَلِكَ لِيَعْلَمَ اللهُ أَنِّي لَمْ أَخُنْ الزَّوْجَ بالغَيْبِ، لأَنَّ يُوسُفَ يَعْلَمُ أَنَّ اللهَ تَعَالَى قَدْ عَلِمَ مِنْهُ ذَلِكَ.
قولُهُ: {وَأَنَّ اللهَ لَا يَهْدِي كَيْدَ الْخَائِنِينَ} وعَطْفٌ عَلَى لِيَعْلَمَ، ومَعْنَى لَا يَهْدِي كَيْدَ الْخائِنِينَ لَا يُنَفِّذُهُ وَلَا يُسَدِّدُهُ. أَيْ وَلِأَنَّ اللهَ لَا يَهْدِي كَيْدَ الْخَائِنِينَ. وَهُوَ عِلَّةٌ ثَانِيَةٌ لِإِصْدَاعِهَا بِالْحَقِّ، وَالْخَبَرُ مُسْتَعْمَلٌ هنا فِي لَازِمِ الْفَائِدَةِ، وَهُوَ كَوْنُ الْمُتَكَلِّمِ عَالِمًا بِمَضْمُونِ الْكَلَامِ، لِأَنَّ عِلَّةَ إِقْرَارِهَا هُوَ عِلْمُهَا بِأَنَّ اللهَ لَا يَهْدِي كَيْدَ الْخَائِنِينَ. فَأُطْلِقَتِ الْهِدَايَةُ الَّتِي هِيَ الْإِرْشَادُ إِلَى الطَّرِيقِ الْمُوَصِّلَةِ عَلَى تَيْسِيرِ الْوُصُولِ، وَأُطْلِقَ نَفْيُهَا عَلَى نَفْيِ ذَلِكَ التَّيْسِيرِ، أَيْ إِنَّ سُنَّةَ اللهِ فِي الْكَوْنِ جَرَتْ عَلَى أَنَّ فُنُونَ الْبَاطِلِ وَإِنْ رَاجَتْ أَوَائِلُهَا لَا تَلْبَثُ أَنْ تَنْقَشِعَ، قال تعالى في الآية: 18، مِنْ سُورَةِ الأَنْبِياءِ: {بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْباطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذا هُوَ زاهِقٌ}. والكيدُ: التدبيرُ في الخفاءِ بِقَصْدِ إِيقاعِ الأَذَى بالمَكيدِ لَهُ. واللهَ لَا يَهْدِي الْخَائِنِينَ بِكَيْدِهِمْ.
قولُهُ تعالى: {ذَلِك لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ} ذَلِكَ: ذا: اسْمُ إِشارةٍ مبنيٌّ على السكونِ في محلِّ الرفعِ، مُبْتَدَأٌ، وخَبَرُهُ مَحْذوفٌ، أَيْ: ذَلِكَ الذي صَرَّحْتُ بِهِ عَنْ بَراءَتِهِ أَمْرٌ مِنَ اللهِ لا بُدَّ مِنْهُ، أَوْ هو خبرُ مُبْتَدَأٍ مُضْمَرٍ، أَيْ: الأَمْرُ ذَلِكَ. واللامُ للبُعْدِ، والكافُ للخِطابِ. و "لِيَعْلَمَ" اللامُ: حَرْفُ جَرٍّ وتَعْليلٍ. مُتَعَلِّقٌ بِمُضْمَرٍ، أَيْ: أَظْهَرَ اللهُ ذَلِكَ لِيَعْلَمَ، أَوْ هو مُتَعَلِّقٌ بِخَبَرِ "ذا" المحذوفِ كما تقدَّمَ، و "يَعْلَمَ" فِعْلٌ مُضارِعٌ مَنْصوبٌ بِأَنْ مُضْمَرَةٍ جَوَازًا بَعْدَ لامِ كَيْ، وفاعِلُهُ ضَميرٌ مُسْتترٌ فيهِ جوازًا تقديرُهُ "هو" يَعودُ عَلَى يُوسُفَ، وذلك عَلَى قولِ مَنْ قالَ بِأَنَّهُ مِنْ كَلامِ زُليخا، وهوَ الظاهِرُ مِنَ السِّياقِ، أَوْ يَعُودُ عَلى العَزيزِ إذا قُلْنَا: إِنَّهُ مِنْ كَلامِ يُوسُفَ، والجُمْلَةُ الفِعْلِيَّةُ مَعَ "أَنْ" المُضْمَرَةِ في تَأْويلِ مَصْدَرٍ مَجْرورٍ باللامِ، تَقْديرُهُ: لِعِلْمِ يُوسُفَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بالغَيْبِ. والجارُّ والمَجْرورُ مُتَعَلِّقٌ بِمَحْذوفِ خَبَرِ المُبْتَدَأِ، ذَلِكَ الاعْتِرافُ كائنٌ مِنِّي لِكَيْ يَعْلَمَ يُوسُفُ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بالغَيْبِ. و "أَنِّي" حرفٌ ناصِبٌ ناسِخٌ مشَبَّهٌ بالفِعلِ للتأكيدِ، وياءُ المُتَكَلِّمِ ضميرٌ متَّصلٌ به مبنيٌّ على السُّكونِ في محلِّ نَصْبِ اسْمِهِ. و "لَمْ" حَرْفُ جَزْمٍ ونَسْخٍ وقلبٍ، و "أَخُنْهُ" فِعْلٌ مُضارعٌ مَجْزومٌ بِ "لَمْ" والهاءُ ضَميرٌ مُتَّصِلٌ بِهِ في مَحَلِّ نَصْبِ مَفْعُولِهِ، وفاعِلُهُ ضَميرٌ مُسْتَتِرٌ فيهِ وُجوبًا تَقديرُهُ "أَنَا" يَعُودُ عَلَى زُلَيْخا، أَوْ عَلَى يُوسُفَ ـ عَلَيْهِ السَّلامُ، والجُمْلَةُ في مَحَلِّ الرَّفْعِ خَبَرُ "أَنَّ" وجُمْلَةُ "أَنَّ" في تَأْويلِ مَصْدَرٍ سَادٍّ مَسَدَّ مَفْعُولَيْ "عَلِمَ" تَقْديرُهُ: ذَلِكَ لِيَعْلَمَ يُوسُفُ عَدَمَ خِيانَتي إِيَّاهُ في الغَيْبِ. و "بِالْغَيْبِ" جارٌّ ومَجْرورٌ إِمَّا حَالٌ مِنْ فاعِلِ "أَخُنْهُ" تَقديرُهُ: حَالَةَ كَوْني غَائِبًا عَنْ عَيْنَيْهِ، أَوْ مِنَ المَفْعُولِ تَقديرُهُ: حَالَةَ كَوْنِهِ غَائِبًا عَنْ عَيْنِيَّ، ويَجوزُ أَنْ تَكونَ الباءُ ظَرْفِيَّةً مُتَعَلِّقَةً بِـ "أَخُنْهُ"؛ أَيْ: لَمْ أَخُنْهُ في مَكانِ الغَيْبِ.
قولُهُ: {وَأَنَّ اللهَ لا يَهْدِي} الواوُ حرفُ عطفٍ، و "أَنَّ" حَرْفٌ نَاصِبٌ ناسِخٌ مُشَبَّهٌ بالفِعْلِ للتَأْكيدِ، ولفظُ الجلالةِ "اللهَ" اسْمُهُ مَنْصوبٌ بِهِ. "لَا" نافيةٌ لا عَمَلَ لها، و "يَهْدِي" فعْلٌ مضارعٌ مرفوعٌ لتجرُّدِهِ مِنَ الناصِبِ والجازِمِ، وعلامةُ رَفعِهِ الضمَّةُ المُقدَّرةُ على آخرِهِ، لِثِقَلِ ظهورِها على الياءِ، وفاعِلُهُ ضَميرٌ مُسْتَترٌ فيهِ جَوازًا تقديرُهُ "هو" يَعودُ على اللهِ تعالى، و "كَيْدَ" مَفْعولٌ بِهِ منصوبٌ، وهوَ مُضافٌ، و "الْخَائِنِينَ" مضافٌ إِلَيْهِ مجرورٌ وعلامَةُ جرِّهِ الياءُ لأَنَّهُ جمعُ، والجُمْلَةُ في مَحَلِّ الرَّفْعِ خَبَرُ "أَنَّ"، وجُمْلَةُ "أَنَّ" مَعْطُوفَةٌ عَلى جُمْلَةِ "أَنَّ" المَذْكورَةِ قَبْلَها عَلَى كَوْنِها في تَأْويلِ مَصْدَرٍ سَادٍّ مَسَدَّ مَفْعُولَيْ "عَلِمَ" والتَقديرُ: ذَلِكَ الاعْتِرافُ لِيَعْلَمَ يُوسُفُ عَدَمَ خِيَانَتي إِيَّاهُ، في الغَيْبِ، وعَدَمَ هِدايَةِ اللهِ تَعَالى كَيْدَ الخَائنينَ؛ أَيْ: عَدَمَ إِتْمامِهِ لَهُم مُرادَهمْ مِنَ الكَيْدِ والمَكْرِ. إِلى قولِهِ: {وَأَنَّ اللهَ لَا يَهْدِي كَيْدَ الْخَائِنِينَ} مقول مَحْكِيٌّ لِـ "قَالَ".
تمَّ بفيضِ اللهِ وفضلِهِ الجزءُ الثاني عشرَ منْ هذه الموسوعةِ القرآنيَّةِ المُسمَّاتِ (فيض العليم من معاني الذكرِ الحكيمِ، وذلك عصْرَ الرابعِ مِنْ شهرِ ذي القِعْدَةِ سَنَةَ أَرْبَعِ مِئْةٍ وسَبْعٍ وثلاثينَ بعدَ الأَلْفِ لهجرةِ النبيِّ الكريم سيدنا وسنَدِنا محمَّدٍ ـ صَلى اللهُ عليهِ وسلَّمَ، الموافقُ للسابعِ مِنْ الشهر الثامن سَنَةَ ألفينِ وسِتَّ عَشْرَةَ لميلادِ سيدنا عيسى بنِ مريم ـ عليه السلامُ. ويليهِ ـ إنْ شاء اللهُ الجزءُ الثالث عشرَ بتوفيقه سبحانه ومَددِهِ