يض العليم ... سورة يوسف الآية: 48
ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ سَبْعٌ شِدَادٌ يَأْكُلْنَ مَا قَدَّمْتُمْ لَهُنَّ إِلَّا قَلِيلًا مِمَّا تُحْصِنُونَ (48)
قولُهُ ـ تعالى شأْنُهُ: {ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ سَبْعٌ شِدَادٌ} ثُمَّ تَأْتِي بَعْدَ هذِهِ السِّنِينَ، مِنَ الخِصْبِ وَالخَيْرِ، سَبْعُ سِنِينَ فِي الجَدْبِ وَالشِّدَّةِ، أَيْ: سَبْعٌ ذاتُ شِدَّةٍ وجُوعٍ، يَزْرَعُونَ فِيهَا وَلاَ يَحْصُدُونَ غَلَّةً. ووَصْفُ سِنِيِّ الجَدْب بِالشِّدَّةِ مَجَازٌ عَقْلِيٌّ. وَأَخرَجَ ابْنْ أَبي حَاتِمٍ عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، أَنَّ يُوسُفَ ـ عَلَيْهِ السَّلَامُ، فِي زَمَانِهِ كَانَ يُصْنَعُ لِرَجُلٍ طَعَامُ اثْنَيْنِ فَيُقَرِّبُهُ إِلَى الرَّجُلِ فَيَأْكُلُ نِصْفَهُ ويَدَعُ نِصْفَهُ، حَتَّى إِذا كَانَ يَوْمًا قرَّبهُ لَهُ فَأَكَلَهُ فَقَالَ لَهُ يُوسُفُ ـ عَلَيْهِ السَّلَامُ: هَذَا أَوَّلُ يَوْمٍ مِنَ السَّبْعِ الشِّدادِ.
قولُهُ: {يَأْكُلْنَ مَا قَدَّمْتُمْ لَهُنَّ} تَسْتَهْلِكُ هَذِهِ السِّنُونَ السَّبْعُ الشِّدَادُ مَا جَمَعُوهُ فِي سِنِيِّ الخَصْبِ، يَأْكُلْنَ ما قَدَّمْتُمْ لَهُنَّ أَيْ: يَأْكُلُ أَهْلُهُنَّ ما ادَّخَرْتمْ لأَجْلِهِنَّ. فأَسْنَدَ الأَكْلَ إلى السِّنينَ مَجازًا تَطْبِيقًا بَيْنَ المُعَبِّرِ والمُعَبَّرِ بِهِ. مِنْ حَيْثُ أَنَّهُ يُؤْكَلُ فِيها، وإنَّمَا قالَ للسِّنينَ "يَأْكُلْنَ" لِوُقوعِ الأَكْلِ فِيها، كَمَا قَالَ في سُورَةِ يُونُسَ ـ عليه السَّلامُ: {وَالنَّهارَ مُبْصِرا} الآية: 67. وكما تَقولُ العَرَبُ: (قدْ أَكَلَ السَّيْرُ لَحْمَ النَّاقة)، وهُمْ يَعْنُونَ: ذَهَبَ بِهِ وأَفْنَاهُ. وقال ذُو الرّمَّةِ:
وقد أَكَلَ الوجِيفُ بكلّ خَرْق .................................... عرائِكَهَا وهُلِّلَت الحُرُومُ
وَقد أَطْلَقَ الْأَكْلَ فِي قَوْلِهِ: "يَأْكُلْنَ" عَلَى الْإِفْنَاءِ، كَما هو فِي قَوْلِهِ تعالى: {وَلا تَأْكُلُوا أَمْوالَهُمْ إِلى أَمْوالِكُمْ} الآية: 2، مِنْ سورةِ النِّساءِ. وَإِسْنَادُهُ بِهَذَا الْإِطْلَاقِ إِلَى السِّنِينَ إِسْنَادُ مَجَازٍ عَقْلِيٍّ، لِأَنَّهُنَّ زَمَنُ وُقُوعِ الْفَنَاءِ.
قولُهُ: {إِلَّا قَلِيلًا مِمَّا تُحْصِنُونَ} إِلاَّ القَلِيلَ الذِي أَحْصَنُوهُ، وَاحْتَاطُوا لَهُ. وخَزَنُوهُ وخَبَّؤُوهُ للزِّراعَةِ والبِذْرِ. فَمَعْنَى تُحْصِنُونَ تُحْرِزُونَ وَتُخْبِئُونَ، وهوَ مَأْخُوذٌ مِنَ الْحِصْنِ وَهُوَ الْحِرْزُ وَالْمَلْجَأُ. وَالْإِحْصَانُ: الْإِحْرَازُ وَالِادِّخَارُ، أَيِ الْوَضْعُ فِي الْحِصْنِ وَهُوَ الْمَطْمُورُ. وَالْمَعْنَى: أَنَّ تِلْكَ السِّنِينَ الْمُجْدِبَةَ يَفْنَى فِيهَا مَا ادُّخِرَ لَهَا إِلَّا القَلِيلَ مِنْهُ يُحفَظُ فِي الْأَهْرَاءِ، في سُنْبُلِهِ. وَفي هَذَا تَحْرِيضٌ عَلَى اسْتِكْثَارِ الِادِّخَارِ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ، وَابْنُ جَريرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبي حَاتِمٍ وَأَبُو الشَّيْخِ عَنْ قَتَادَةَ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، فِي قَوْلِهِ: "يأكلن مَا قدمتم لَهُنَّ" يَقُول: يَأْكُلْنَ مَا كُنْتُم اتَّخَذْتمْ فِيهِنَّ مِنَ الْقُوتِ "إِلَّا قَلِيلا مِمَّا تحصنونَ" أَيْ مِمَّا تَدَّخِرونَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَريرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبي حَاتِمٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا، فِي قَوْلِهِ "مِمَّا تُحْصِنُونَ" يَقُولُ: تَخْزُنُون.
قولُهُ تعالى: {ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ سَبْعٌ شِدَادٌ} ثُمَّ: حَرْفُ عَطْفٍ. و "يَأْتِي" فعلٌ مُضارِعٌ مَرْفوعٌ لتجرُّدِهِ منَ الناصِبِ والجازمِ، وعلامةُ رفعِهِ ضمةٌ مقدَّرةٌ على آخرِهِ لثقلِ ظهورها على الياءِ. "مِنْ" حرفُ جرٍّ مُتَعَلِّقٌ بِـ "يَأْتِي". "بعدِ" مجرورٌ بِ "مِنْ" مُضافٌ، و "ذَلِكَ" ذا: اسْمُ إشارةٍ مبنيٌّ على السكونِ في محلِّ الجرِّ بالإضافةِ إليهِ، واللامُ للبُعدِ والكافُ للخطاب. و "سَبْعٌ" فاعلٌ مرفوعٌ. و "شِدَادٌ" صِفَةٌ أُولَى لِ "سبع". وجُمْلَةُ "يَأْتِي" في مَحَلِّ النَّصْبِ عَطْفًا عَلَى جُمْلَةِ "تَزْرَعُونَ" عَلَى كَوْنِها مَقولَ {قَالَ}. وقد حُذِفَ المُمَيِّزُ (سنين) وهوَ المَوْصوفُ لِدَلالَةِ ما تقدَّم عَلَيْهِ.
قولُهُ: {يَأْكُلْنَ ما قَدَّمْتُمْ لهُنَّ} فِعْلٌ مضارعٌ مبنيٌّ على السكونِ لاتِّصالِهِ بِنُونِ النِّسوةِ، وهوَ ضميرٌ متَّصلٌ به في محلِّ رفعِ فاعلٍ، وجُمْلَةُ "يأكلنَ" في محلِّ الرفعِ صِفَةٌ ثانيةٌ لـِ "سَبْعٌ" ولَكِنَّها صِفَةٌ سَبَبِيَّةٌ، و "مَا" اسمٌ موصولٌ مبنيٌّ على السكونِ في محلِّ النَّصْبِ مفعولٌ بِهِ، أَوْ هي نَكِرةٌ مَوْصوفَةٌ في مَحَلِّ النَّصْبِ مَفْعولٌ به أَيضًا ل "يَأْكُلْنَ". و "قَدَّمْتُمْ" فعلٌ ماضٍ مَبْنيٌّ عَلى السكونِ لاتِّصالِهِ بتاء الفاعلِ، وهي ضميرٌ متَّصلٌ في محلِّ رفعٍ فاعلٌ، والميمُ علامةُ جمعِ المذكَّر. و "لَهُنَّ" جارٌّ ومجرورٌ مُتعلِّقٌ بِهِ، والجملةُ صِلَةٌ لـ "ما" الموصولةِ فلا محلَّ لها، أَوْ صِفَةٌ لَها في محلِّ النصبِ، والعائدُ، أَوِ الرابطُ مَحْذوفٌ تَقديرُهُ: مَا قَدَّمْتُموهُ لَهُنَّ.
قولُهُ: {إلَّا قَلِيلًا مِمَّا تُحْصِنُونَ} إلَّا: أَدَاةُ اسْتِثْناءٍ. و "قَلِيلًا" مستثنى ب "إلَّا" مَنْصوبٌ. و "مِمَّا" منْ: حرفُ جَرٍّ مُتَعَلِّقٌ بِصِفَةٍ لـِ "قَلِيلًا" و "ما" اسمٌ موصولٌ، أَوْ نَكِرَةٌ مَوْصُوفةٌ، مبنيٌّ على السكونِ في مَحَلِّ الجَرِّ بحرفِ الجَرِّ. و "تُحْصِنُونَ" فعلٌ مُضارعٌ مرفوعٌ لتجرُّدِهِ مِنَ الناصِبِ، وعلامةُ رفعهِ ثباتُ النونِ في آخِرهِ لأنَّهُ مِنَ الأفعال الخمسةِ، وواوُ الجماعةِ ضميرٌ متَّصلٌ بهِ مبنيٌّ على السُّكونِ في محلِّ رفعِ فاعِلِهِ، والجُمْلَةُ هَذِهِ في مَحَلِّ النَّصْبِ صِلَةٌ لـِ "ما" فلا محلَّ لها من الإعراب، أَوْ صِفَةٌ لَها في محلِّ الجَرِّ، والعائدُ، أَوِ الرّابِطُ مَحذوفٌ والتقديرُ: تُحْصِنُونَهُ.