فيض العليم ... سورة يوسف، الآية: 32
قَالَتْ فَذَلِكُنَّ الَّذِي لُمْتُنَّنِي فِيهِ وَلَقَدْ رَاوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ فَاسْتَعْصَمَ وَلَئِنْ لَمْ يَفْعَلْ مَا آمُرُهُ لَيُسْجَنَنَّ وَلَيَكُونًا مِنَ الصَّاغِرِينَ. (32)
قولُهُ ـ تعالى جَدُّهُ: {قَالَتْ فَذَلِكُنَّ الَّذِي لُمْتُنَّنِي فِيهِ} فلَمَّا بُهِتَ النِّسْوَةُ بالنَّظَرِ إِلى يوسُفَ ـ عَلَيْهِ السَّلامُ، وذَهَبَتْ عُقولُهُنَّ، وجَعَلْنَ يُقَطِّعْنَ أَيْديَهُنَّ، قالَتْ: "فَذَلِكُنَّ الَّذِي لُمْتُنَّنِي فِيهِ" أَيْ: حِينَئِذٍ قَالَتْ لَهُنَّ مَا يُعْلَمُ شَرْحُهُ مِنْ قَرِينَةِ الْحَالِ، لِمَا جَاءَ فِي التَّنْزِيلِ مِنْ إِيجَازٍ وَإِجْمَالٍ: إِذَا كَانَ الْأَمْرُ مَا رَأَيْتُنَّ بِأَعْيُنِكُنَّ، وَمَا أَكْبَرْتُنَّ فِي أَنْفُسِكُنَّ، وَمَا فَعَلْتُنَّ بِأَيْدِيكُنَّ، وَمَا قُلْتُنَّ بِأَلْسِنَتِكُنَّ، فَذَلِكُنَّ هُوَ الْأَمْرُ الْبَعِيدُ الْغَايَةِ الَّذِي لُمْتُنَّنِي فِيهِ، وَأَسْرَفْتُنَّ فِي عَذْلِي عَلَيْهِ، قَالَتْ امْرَأَةُ العَزِيزِ ذلك لِلنِّسْوَةِ دِفاعًا عَنْ نَفْسِهَا، فهَذَا هُوَ الغُلاَمُ الذِي لُمْتُنَّنِي فِيهِ لأَنَّنِي شُغِفْتُ بِهِ حُبًّا، أَيْ عَيَّرْتُنَّنَي إِذِ افْتُتِنْتُ بِهِ، وقد رَبَأْتُنَّ بِمَحَلِّي منَ العزيزِ وبِنِسْبَتي إليْهِ ووَضَعْتُنَّ من قَدْرِهِ بأَنَّهُ مِنَ المَمَاليكِ حينَ قُلْتُنَّ "فَتَاها" أَيْ: عبدَها الكَنعاني، وقُلْتُنَّ فِيَّ وفِيهِ ما قُلْتُنَّ. فَمَا هُوَ عِبْرَانِيٌّ أَوْ كَنْعَانِيٌّ مَمْلُوكٌ، وَخَادِمٌ صُعْلُوكٌ، قَدْ شَغَفَ مَوْلَاتَهُ الْمَالِكَةَ لِرِقِّهِ حُبًّا وَغَرَامًا، فَهِيَ تُرَاوِدُهُ عَنْ نَفْسِهِ ضَلَالًا مِنْهَا وَهَيَامًا، بَلْ هُوَ أَكْبَرُ مِنْ ذَلِكَ وَأَعْظَمُ، هُوَ مَلَكٌ رُوحَانِيٌّ، تَجَلَّى فِي شَكْلٍ إِنْسَانِيٍّ، أُوتِيَ مِنْ رَوْعَةِ الْجَمَالِ مَا خَلَبَ أَلْبَابَكُنَّ فِي الْوَهْلَةِ الْأُولَى مِنْ ظُهُورِهِ لَكُنَّ، فَمَا قَوْلُكُنَّ فِي أَمْرِي مَعَهُ وَافْتِتَانِي بِهِ، وَإِنَّمَا تَرَعْرَعَ فِي دَارِي، وَبَلَغَ أَشُدَّهُ وَاسْتَوَى بَيْنَ سَمْعِي وَبَصَرِي، فَأَنَا أُشَاهِدُهُ فِي قُعُودِهِ وَقِيَامِهِ، وَيَقَظَتِهِ وَمَنَامِهِ، وَطَعَامِهِ وَشَرَابِهِ، وَحَرَكَتِهِ وَسُكُونِهِ، وَأَخْلُو بِهِ فِي لَيْلِي وَنَهَارِي، فَأَرَاهُ بَشَرًا سَوِيًّا، إِنْسِيًّا لَا جِنِّيًّا، وَجَسَدًا لَا مَلَكًا رُوحَانِيًّا، فَأَتَرَاءَى لَهُ فِي زِينَتِي، وَأَعْرِضُ عَلَى نَظَرِهِ مَا ظَهَرَ وَمَا خَفِيَ مِنْ مَحَاسِنِي، فَيُعْرِضُ عَنْهَا احْتِقَارًا، فَأَتَصَبَّاهُ بِكُلِّ مَا أَمْلِكُ مِنْ كَلَامٍ عَذْبٍ يَخْلُبُ اللُّبَّ، وَلِينِ قَوْلٍ وَخُشُوعِ صَوْتٍ يُرَقِّقُ الْقَلْبَ، فَلَا يَصْبُو إِلَيَّ، وَأَمُدُّ عَيْنَيَّ إِلَى مَحَاسِنِهِ فِيهِمَا كُلُّ مَا يُكِنُّهُ قَلْبِي مِنْ صَبَابَةٍ وَشَوْقٍ وَخَلَاعَةٍ، مَعَ فُتُورِ جَفْنٍ، وَانْكِسَارِ طَرْفٍ، وَطُولِ تَرْنِيقٍ وَتَحْدِيقٍ، فَلَا يَرْفَعُ إِلَيَّ طَرْفًا، وَلَا يَمِيلُ نَحْوِي عَطْفًا، بَلْ تَتَجَلَّى فِيهِ الرُّوحُ الْمَلَكِيَّةُ بِأَظْهَرِ مَجَالِيهَا، وَالْعِبَادَةُ الْإِلَهِيَّةِ بِأَكْمَلِ مَعَانِيهَا، أَمِثْلُ هَذَا الْمَلَكِ الْقَاهِرِ يُسَمَّى عَبْدًا طَائِعًا؟!.
وَهَا قَدْ رَأَيْتُنَّ جَمَالَهُ بِأَعْيُنِكُنَّ، وَعايَنْتُنَّ بَهَاءَهُ، وقد عَلِمْتُنَّ مَنْ هوَ فمَا قولُكن فِينا؟ وكَيْفَ لاَ يَتَعَلَّقُ قَلْبِي بِهِ وَمِثْلُ هَذَا الجَمَالِ خَلِيقٌ بِأَنْ يُفْتَتَنَ بِهِ. واللَّوْمِ في اللُّغَةِ الوَصْفُ بالقَبيحِ، ونَقيضُهُ الحَمْدُ، أيْ: الثَّنَاءُ بالحَسَنِ. فالْخِطَابُ للنِّسْوَةِ، والإشارةُ إلى يوسُفَ ـ عَلَيْهِ السَّلامُ، قالَ ابْنُ الأَنْباريِّ: أَشَارَتْ بِذلِكَ إِلى يُوسُفَ بَعْدَ انْصِرافِهِ مِنَ المَجْلِسِ.
قولُهُ: {وَلَقَدْ رَاوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ فَاسْتَعْصَمَ} حَسْبَمَا قُلْتُنَّ وسَمِعْتُنَّ. لقد باحَتْ لَهُنَّ إذًا بِبَقِيَّةِ سِرِّها، واعْتَرَفَتْ لَهُنَّ بِأَنَّهَا رَاوَدَتْهُ فِعْلًا عَنْ نَفْسِهِ، وَلَكِنَّهُ أَبَى وامْتَنَعَ امْتِنَاعًا شَدِيدًا، وذلك بَعدَمَا أَقامَتْ عَلَيْهِنَّ الحُجَّةَ وأَوْضَحَتْ لَهُنَّ عُذْرَها وَقَدْ أَصَابَهُنَّ مِنْ قِبَلِهِ ـ عَلَيْهِ السَّلامُ، ما أَصَابَها.
قولُهُ: {وَلَئِنْ لَمْ يَفْعَلْ مَا آمُرُهُ} أي: أُقْسِمُ لَكُنَّ آكَدَ الْأَيْمَانِ، وَلِتَسْمَعَ ذَلِكَ مِنْهُ الْأُذُنَانِ، إنْ لم يَفْعَلْ ما آمُرُ بِهِ فيما سَيَأْتي مَا لَم يَفْعَلْه فيما مَضَى، قَالَتْ ذَلِكَ بِمَسْمَعٍ مِنْهُ إِرْهَابًا لَهُ. وذلكَ بَعْدَ أَنِ اعْتَرَفَتْ لَهُنَّ أَوَّلًا بِما كُنَّ يَسْمَعْنْهُ مِنْ مُراوَدَتِها لَهُ، وأَكَّدَتْهُ إِظْهارًا لابْتِهاجِها بِذَلِكَ، زادتْ عَلَيْهِ أَنَّها مُصِرَّةُ على ما تريدُهُ مِنْهُ، مُسْتَمِرَّةٌ عَلى مَا كانَتْ عَلَيْهِ، غيرُ مَصروفَةٍ عَنْهُ بِلَوْمِ عَذولٍ، ولا بِإِعْراضِ حَبيبٍ.
قولُهُ: {لَيُسْجَنَنَّ وَلَيَكُونًا مِنَ الصَّاغِرِينَ} وفي مَعْرِضِ إصْرارِها عَلَى تَنْفيذِ رَغْبَتِها تِلْكَ أَكَّدَتْ أَمامَ النِّسْوَةِ بأَنَّهُ إِذَا لَمْ يَفْعَلْ مَا أَمَرَتْهُ بِهِ، وَيَخْضَعْ لأَرَادَتِهَا، وَإِذَا لَمْ يَسْتَجِبْ لِرَغْبَتِهَا، فَإِنَّهُ سَيُسْجَنُ وَسَيَكُونُ مِنَ المَنْبُوذِينَ المُسْتَكِينِينَ الأَذِلَّاءِ. وقد عَبَّرَتْ عَنْ مُراوَدَتِها لَيوسُفَ ـ عليهِ السلامُ، عَنْ نَفْسِهِ بالأَمْرِ إِظْهارًا لِجَرَيانِ حُكومَتِها عَلَيْهِ، واقْتِضَاءً للامتِثالِ بِأَمْرِها. وآثَرَتْ بِنَاءَ الفِعْلِ للمَفْعُولِ جَرْيًا عَلَى رَسْمِ المُلُوكِ، أَوْ إِيهامًا لِسُرْعَةِ تَرَتُّبِ ذَلِكَ عَلى عَدَمِ امْتِثالِهِ لأَمْرِها كَأَنَّهُ لا يَدْخُلُ بَيْنَهُما فِعْلُ فاعِلٍ.
قولُهُ تعالى: {قَالَتْ فَذَلِكُنَّ الَّذِي لُمْتُنَّنِي فِيهِ} قَالَتْ: فعلٌ ماضٍ مبنيٌّ على الفتحِ، والتاءُ الساكنةُ لتأنيثِ الفاعل. وفاعِلُهُ ضَميرٌ مستتِرٌ فيهِ جوازًا تقديرُهُ "هي" يَعودُ عَلَى "زُلَيْخا"، والجُمْلَةُ مُسْتَأْنَفَةٌ لا محلَّ لها مِنَ الإعرابِ. و "فَذَلِكُنَّ" الْفَاءُ: هي الْفَصِيحَةُ، أَيْ: إِذا كَانَ هَذَا كَمَا زَعَمْتُنَّ مَلَكًا فَهُوَ الَّذِي بَلَغَكُنَّ خَبَرُهُ فَلُمْتُنَّنِي فِيهِ. و "ذلكن" ذا: اسمُ إشارةٍ مبنيٌّ على السكونِ في محلِّ الرفعِ بالابتداءِ، واللامُ للبعدِ، والكاف للخطابِّ والنونُ للنِّسْوَةِ. و "الَّذِي" اسمٌ موصولٌ مبنيٌّ على السكونِ في محلِّ الرَّفعِ خبرُ المبتدَأِ. و "لُمْتُنَّنِي" فعلٌ ماضٍ مبنيٌّ على السكونِ لاتِّصالِهِ بضميرِ رفعٍ متحرِّكٍ هو نونُ النِسّْوَةِ، ونونُ النِّسْوَةِ: ضميرٌّ متَّصلٌ بهِ مبنيٌّ على الفتحِ في محلِّ رفعِ فاعِلِهِ، وياءُ المتكلِّمِ ضميرٌ متَّصلٌّ به مبنيٌّ على السكونِ في محلِّ نَصْبِ مَفْعولٍ بِهِ والنونُ للوقاية. و "فِيهِ" فِي: حَرْفُ جَرٍّ لِلتَّعْلِيلِ، كما هو في قولِهِ ـ صلَّى اللهُ عليه وسَلَّمَ: ((دَخَلَتِ امْرَأَةٌ النَّارَ فِي هِرَّةٍ)) أي بسبَبِ هُرَّةٍ، وهو مُتَعَلِّقٌ بِالفعلِ "لُمْتُنَّنِي". وَهُنَالِكَ والهاءُ: ضميرٌ متَّصلٌ به في محلِّ الجرِّ بهِ، وثمَّةَ مُضَافٌ مَحْذُوفٌ، وَالتَّقْدِيرُ: فِي شَأْنِهِ أَوْ فِي مَحَبَّتِهِ. وهوَ العائدُ عَلَى المَوْصولِ، والجُمْلَةُ الفِعْلِيَّةُ صِلَةُ المَوْصُولِ، وجُمْلَة "ذا الذي" الاسْمِيَّةُ في مَحَلِّ النَّصْبِ، بالقوْل لِجَوابِ إِذا المُقَدَّرَةِ، وجُمْلَةُ إذَا المُقَدَّرَةِ في مَحَلِّ النَّصْبِ مَقولُ "قَالَتْ". وقد أَشَارَتْ إِلَيْهِ إِشارَةَ البَعيدِ وإِنْ كانَ قريبًا أَوْ حاضِرًا تَعْظيمًا لَهُ ورَفْعًا مِنْه لِتُظْهِرَ عُذْرَها في شَغَفها به. وقد جَوَّزَ ابْنُ عَطِيَّةَ أَنْ يَكونَ في اسمِ الإشارةِ "ذلك" إِشارةٌ إلى حُبِّ يُوسُفَ ـ عَلَيْهِ السَّلامُ، والضَّميرُ في "فِيهِ" عائدٌ عَلَى الحُبِّ، فَيَكونُ "ذلك" إِشارةً إلى غائبٍ. ويَعني بالغائبِ البَعيدَ، وإِلَّا فالإِشارَةُ لا تَكُونُ إِلَّا لِحاضِرٍ مُطْلَقًا.
قولُهُ: {وَلَقَدْ رَاوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ فَاسْتَعْصَمَ} الواوُ: عاطِفَةٌ. واللامُ: مُوَطِّئَةٌ للقَسَمِ. و "قد" حَرْفُ تَحْقيقٍ. و "رَاوَدْتُهُ" فعلٌ ماضٍ مبنيٌ على السكون لاتِّصالِهِ بضمير رفعٍ متحرِّكٍ هو تاءُ الفاعلِ، وتاءُ الفاعِلِ ضميرٌ متَّصلٌ به في محلِّ رفعِ فاعلِهِ، والهاءُ: ضميرٌ متَّصلٌ به في محلِّ نصبِ مفعولِهِ. و "عَنْ نَفْسِهِ" حرفُ جرٍّ متعلِّقٌ بالفعلِ "راودْتُ"، و "نفسِهِ" مجرورٌ بحرفِ الجرِّ مضافٌ، والجُملةُ الفعليَّةُ جوابٌ للقَسَمِ المَحْذوفِ، وجملةُ القَسَمِ في مَحَلِّ النَّصْبِ عطْفًا على جملةِ قولِهِ: "فَذَلِكُنَّ". و "فَاسْتَعْصَمَ" الفاءُ: عاطفةٌ. و "اسْتَعْصَمَ" فعلٌ ماضٍ مبنيٌّ على الفتحِ، وفاعلُهُ ضميرٌ مستترٌ فيه جوازًا تقديرُهُ: "هو" يَعودُ على يوسُفَ ـ عليه السلامُ، والجملةُ معطوفة على جملة "رَاوَدْتُ" على كونِها في محلِّ النَّصبِ. وَ "اسْتَعْصَمَ" مُبَالَغَةٌ فِي عَصَمَ نَفْسَهُ، ويدلُّ على الامتناع البليغ والتحفُّظِ الشديدِ، كأنه في عِصْمةٍ وهو يجتهدُ في الاستزادةِ منها، ونحو: استمسك واستوسع الفَتْقُ، استجمع الرأيَ، واستفحل الخطبُ، فَالسِّينُ وَالتَّاءُ لِلْمُبَالَغَةِ، مِثْلَ: اسْتَمْسَكَ وَاسْتَجْمَعَ الرَّأْيَ وَاسْتَجَابَ. وقيلَ إنّها ليست على بابها مِن الطلب، بل استفعل هنا بمعنى افتعل، فاستعصم واعتصم واحد.
قولُهُ: {وَلَئِنْ لَمْ يَفْعَلْ مَا آمُرُهُ} الواوُ: عاطفة. واللام: موطئة للقسم. و "إنْ" حرف شرط جازم. و "لَمْ" حرف نفي وجزم، و "يَفْعَلْ" فعلٌ مضارعٌ مجزومٌ ب "لم"، وفاعلُهُ ضميرٌ مستترٌ فيه جوازًا تقديرُهُ "هو" يعودُ على يوسُفَ ـ عَلَيْهِ السَّلامُ، وهذِهِ الجُملَةُ الفعليَّةُ في محلِّ الجَزْمِ بـ "إنْ" الشرطيَّةِ على أنَّها فعلُ شرطٍ لها. و "مَا" مَوْصولَةٌ، أَو نَكرةٌ موصوفةٌ مبنيَّةٌ على السكونِ في محل النَّصبِ مفعولٌ بهِ. و "آمُرُهُ" فِعلٌ مُضارعٌ مرفوعٌ لِتَجَرُّدِهِ مِنَ النَّاصِبِ والجازمِ، وفاعلُهُ ضميرٌ مُسْتَتِرٌ فِيهِ وُجوبًا تَقْديرُهُ "أَنَا" يَعودُ عَلى "زُلَيْخا"، والهاءُ: ضميرٌ مُتَّصلٌ به في محلِّ النَّصبِ مفعولٌ بهِ، وهذِهِ الجٌملةُ الفعليَّةُ صِلَةٌ لـ "ما" فلا محلَّ لها، أَوْ صِفَةٌ لَها في محلِّ النصْبِّ، وجوابُ الشَّرْطِ محذوفٌ دَلَّ عَلَيْهِ جَوابُ القَسَمِ والتقديرُ: ولَئِنْ لَّمْ يَفْعَلْ ما آمُرُهُ يُسْجَنُ، وجُمْلَة الشَّرْطِ مُعْتَرِضَةٌ بَيْنَ القَسَمِ وَجَوابِهِ فلا محلَّ لها مِنَ الإعراب. ويجوزُ أنْ تكونَ "ما" مصدريَّةً. والهاءُ في "آمُرُه" تَحْتَملُ العَوْدُ عَلَى "ما" المَوْصولَةِ إذا جَعَلْناها بِمَعنى "الذي". أو تَعودُ عَلَى يُوسُفَ ـ عليهِ السلامُ. ولم يُجَوِّزِ الزَّمَخْشَريُّ عَوْدَها على يُوسُفَ إِلَّا إذا جُعِلَتْ "ما" مَصْدَرِيَّةً، فإنَّه قال: فإنْ قلتَ: الضَّميرُ في "آمُرُهُ" راجعٌ إلى المَوْصولِ أَمْ إلى يُوسُفَ؟ قلتُ: بَلْ إلى المَوْصولِ والمَعْنَى: ما آمُرُ بِهِ فَحَذَفَ الجارَّ كَمَا في قولِهِ: (أَمَرْتُكَ الخيرَ). ويجوزُ أَنْ تُجْعَلَ "ما" مَصْدَرِيَّةً فَيَعودُ عَلى يُوسُفَ، ومَعْنَاهُ: ولَئِنْ لَمْ يَفْعَلْ أَمْري إيَّاهُ، أَيْ: مُوْجِبَ أَمْرِي ومُقْتَضاهُ. وعَلى هذا فالمَفْعُولُ الأَوَّلُ مَحْذوفٌ تقديرُهُ: ما آمُرُهُ بِهِ وهوَ ضَميرُ يُوسُفَ ـ عليهِ السَّلامُ. وَحُذِفَ عَائِدُ صِلَةِ "مَا آمُرُهُ" وَهُوَ ضَمِيرٌ مَجْرُورٌ بِالْبَاءِ عَلَى نَزْعِ الْخَافِضِ ك: أَمَرْتُكَ الْخَيْرَ.
قولُهُ: {لَيُسْجَنَنَّ وَلَيَكُونًا مِنَ الصَّاغِرِينَ} اللامُ: مُوَطِّئَةٌ للقَسَمِ مُؤَكِّدَةٌ للأُولى. و "يسجنن" فعلٌ مُضارِعٌ مُغَيَّرُ الصِيغَةِ أو نقولُ مبنيٌّ للمجهولِ، في محلِّ الرَّفع، مبْنِيٌّ عَلى الفَتْحِ لاتِّصالِهِ بِنُونِ التَّوْكيدِ الثَّقيلَةِ، ونائِبُ فاعِلِهِ ضَميرٌ مستترٌ فيهِ جوازًا تقديرُهُ "هو" يَعودُ عَلَى يُوسُفَ ـ عليهِ السلامُ، والجُمْلَةُ جَوابُ القَسَمِ لا مَحَلَّ لَهَا مِنَ الإعْرابِ، وجُمْلَةُ القَسَمِ في مَحَلِّ النَّصْبِ عطْفًا على جُمْلَةِ القَسَمِ الأَوَّلِ، عَلَى كَونِهِ مَقولًا لِـ "قالت". و "وَلَيَكُونًا" الواوُ: عاطِفَةٌ. واللامُ: مُوَطِّئَةٌ للقَسَمِ. و "يكونًا" فعلٌ مُضارِعٌ ناقِصٌ في مَحَلِّ الرَّفْعِ مَبْنِيٌّ عَلَى الفَتْحِ، لاتِّصالِهِ بِنُونِ التَوْكِيدِ الخَفيفَةِ المُنْقَلِبَةِ أَلِفًا للتَّخْفيفِ، واسْمُ "يكون" ضَميرٌ مستترٌ جوازًا تقديرُه "هو" يعودُ على يُوسُفَ. و "مِنَ" حرفُ جَرٍّ متعلِّقٌ بخبرِها، و "الصَّاغِرِينَ" مَجْرورٌ بِهِ وعلامةُ جَرِّهِ الياءُ لأنَّهُ جمعُ المُذكَّرِ السالمُ، والنونُ عِوَضٌ عنِ التنوينِ في الاسمِ المُفْرَدِ، والجُمْلَةُ جَوابُ القَسَمِ لا مَحَلَّ لَهَا مِنَ الإعْرابِ، وجُمْلَةُ القَسَمِ مَعْطوفَةٌ عَلَى جُمْلَةِ القَسَمِ في قولِهِ: "لَيُسْجَنَنَّ".
قرَأَ العامَّةُ: {وليكونًا} بِتَخْفيفِ نُونِ "ولَيَكونَنْ"، ويَقِفون عَلَيْها بالأَلِفِ إِجْراءً لَهَا مُجْرَى التَنْوينِ، ولِذَلِكَ يَحْذفونَها بَعْدَ ضَمَّةٍ أَوْ كَسْرَةٍ نَحْوَ: (هلْ تَقومونَ) و (هَلْ تَقومينَ) في: (هلْ تَقُومُن) و (هَلْ تَقومِن)، والنونُ المَوْجودَةُ في الوَقْفِ نُونُ الرَّفْعِ رَجَعُوا بِها عِنْدَ عَدَمِ مَا يَقْتَضي حَذْفَها. وقَرَأَتْ فِرْقَةٌ بِتَشْديدِهَا، وفيها مُخالَفَةٌ لِسَوادِ المُصْحَفِ لِكَتْبِها فيهِ أَلِفًا، لأَنَّ الوَقْفَ عَلَيْها كَذلِكَ كَقَوْلِ الأَعْشَى:
وَذَا النُّصُبَ المَنْصُوبَ لا تَقْربَنَّه ......... ولا تَعْبُدِ الشَّيْطانَ واللهَ فاعْبُدا
أي: فاعبدَنْ فَأَبْدَلها أَلفًا، وهو أَحَدُ الأَقوالِ في قولِ امْرِئِ القَيْسِ:
(قِفا نَبْكِ ...) وأجرى الوَصْلَ مُجْرَى الوقفِ. وكَانَ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ يَقِفَانِ عَلَى وَلَيَكُونًا بِالْأَلِفِ، وكذلك قولُهُ تعالى في سُورةِ العَلَقِ: {لَنَسْفَعًا بالناصِيَةِ} الآية: 15.