فيض العليم ... سورة يوسف، الآية: 27
وَإِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ فَكَذَبَتْ وَهُوَ مِنَ الصَّادِقِينَ (27)
قولُهُ ـ تعالى شَأْنُهُ: {وَإِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ} أي قالَ الشاهِدُ: وَإِنْ كَانَ قَمِيصُ يُوسُفَ ـ عليهِ السلامُ، قد تَمَزَّقَ "قُدَّ" مِنَ الخَلْفِ "مِنْ دُبُرٍ" ذلك لأنَّهُ يَدُلُّ حينَها عَلى أَنَّها تَبِعَتْهُ فاجْتَذَبَتْ ثوبَهُ لتُمسكَ به وتمنعَهُ من الخروج فَقَدَّتِ القَمِيصَ ومزَّقتْهُ.
قولُهُ: {فَكَذَبَتْ وَهُوَ مِنَ الصَّادِقِينَ} فَيَكُونُ عند ذلك هُوَ الصَّادِقَ وَهِيَ الكَاذِبَةَ، لأَنَّهَا تَكُونُ هِيَ التِي لَحِقَتْ بِهِ، وَهُوَ هَارِبٌ مِنْهَا، فَجَذَبَتْهُ مِنْ قَمِيصِهِ مِنَ الخَلْفِ فَتَمَزَّقَ، فَيَصِحُّ مَا قَالَهُ يُوسُفُ. وهذه الجُمْلَةُ مُبَيِّنَةٌ لِفِعْلِ "شَهِدَ" مِنَ الآيةِ التي قَبْلَ هذه الآية.
قولُهُ تَعالى: {وَإِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ} إِنْ: حرفُ شرطٍ جازِمٌ، و "كان" فعلٌ ماضٍ ناقِصٌ، و "قميصُه" اسْمُ "كان" مرفوعٌ وهو مضافٌ، والهاءُ: ضميرٌ متَّصلٌ به في محلِّ الجرِّ بالإضافةِ إليْهِ. وقدْ تَقَدَّمَ الخِلافُ في "كانَ" الواقعةِ في حَيِّزِ الشَّرْطِ: هَلْ تَبْقى عَلى مَعْناها مِنْ المُضِيِّ كما ذَهَبَ إليهِ أبو العبَّاسِ المُبَرِّدُ، أَمْ أنَّها تَنْقَلِبُ إلى الاسْتِقْبالِ كَسائِرِ الأَفْعالِ، وأَنْ المَعْنَى عَلى التَبْيينِ؟. و "قُدَّ" فعلٌ ماضٍ مبنيٌّ للمجهول أَو نقولُ مبنيٌّ للمفعولِ به، أو مُغيَّرُ الصِيغةِ، وهو مبنيٌّ على الفتحِ، ونائبُ فاعِلِهِ الذي هو في الأصلِ مفعولُهُ، ضميرٌ مستترٌ فيهِ جوازًا تقديرُهُ "هو" يعودُ على القميصِ. و "منْ دُبُرٍ" جارٌّ ومجرورٌ متعلِّقٌ بِ "قُدَّ". وأمَّا تَنْكيرُ "قُبُل" و "دبر" فإنَّ المَعْنَى: مِنْ جهةٍ يُقالُ لَها "قُبُل" ومِنْ جِهَةٍ يُقالُ لَها "دُبُر" وإنَّما جُمِعَ بَيْنَ "إنْ" التي للاسْتِقْبالِ، وبَيْنَ "كانَ" التي للمُضيِّ لأنَّ المَعْنَى أَنْ يُعْلَمَ أَنَّهُ كانَ قَمِيصُهُ قد "قُدَّ". وجُمْلَةُ "قُدَّ" في مَحَلِّ النَّصْبِ خبرًا ل "كَانَ".
قولُهُ: {فكَذَبَتْ وَهُوَ مِنَ الصَّادِقِينَ} فَكَذَبَتْ: الفاءُ رابطةٌ لجواب الشرطِ، و "كَذَبَتْ" فعلٌ ماضٍ مبنيٌّ على الفتحِ في محلِّ الجزمِ جوابُ الشَّرْطِ، والتاءُ لتأنيثِ الفاعلِ، والفاعلُ ضميرٌ مستترٌ جوازًا تقديرُهُ "هي" يعودُ على "زُليخة". والجملة الشَرْطِيَّةُ في محَلِّ النَّصبِ عطوفًا عَلى جُمْلَةِ الشرط الأولى. و "وَهُوَ" الواوُ عاطفةٌ و "هو" ضميرٌ منفصلٌ مبنيٌّ على الفتحِ في محلِّ الرفعِ بالابْتَدَاء مَعْطوفٌ على جملة :كذبت". وقوله: "فَكَذَبَتْ" و "فَصَدَقتْ" على إِضْمارِ "قد" لأنَّها تُقَرِّبُ الماضيَ مِنَ الحالَةِ، هذا إذا كان الماضي مُتَصرِّفًا، أمَّا إذا كان جامدًا فلا يحتاج إلى "قد" لا لَفظًا ولا تقديرًا. و "مِنَ الصادقين" جارٌّ ومجرورٌ في محلِّ رفعِ خبرِ المُبتَدأِ "هو" وعلامةُ الجرِّ الياءُ لأنَّه جمعُ المُذكَّرِ السَّالِمُ والنونُ عوَضٌ عن التنوين في الاسمِ المفرد.
قَرَأَ العامَّة: {مِنْ دُبُرٍ} و {مِن قُبُلٍ} بِضَمَّتَيْنِ وبِالجرِّ والتَنْوين، بمعنى "مِنْ خلفٍ" و "من قُدَّام" أَيْ: مِنْ خلفِ القَميصِ ومن قُدَّامِهِ، أَوْ من خلفِ يوسف ومن قُدَّمِهِ. وقرأَ الحَسَنُ وأَبو عَمْرٍو في رِوَايَةٍ بِتَسْكينِ العَيْنِ تَخْفيفًا، وهيَ لُغَةُ الحِجازِ وأَسَدٍ. وقرَأَ ابْنُ يَعْمُر وابْنُ أَبي إِسحاقَ والعُطارِدِيُّ والجارودُ "مِنْ قُبُلُ" و "مِنْ دُبُرُ" بِثَلاثِ ضَمَّاتٍ، ورُوِيَ عنِ الجارودِ وابْنِ أَبي إسحاقَ وابنِ يَعْمُرَ أَيضًا أنَّهم قرؤوا "من قُبْلُ" و "من دُبْرُ" بِسُكونِ العين وبنائهما على الضَم، ووجْهُ ضمِّهِما أَنهم جعلوهما ك "قَبْلُ" و "بَعْدُ" في بنائهما على الضَّمِ عِنْدَ قَطْعِهِما عَنِ الإِضافة، فجعلوهما غايةً، ومعنى الغايةِ أَنْ يُجْعَلَ المُضافُ غايةَ نفسِهِ بعدما كان المُضافُ إِلَيْهِ غايَتَه، والأصلُ إعرابُهما لأنَّهما اسمانِ متمكِّنانِ ولَيْسا بِظَرْفَيْن. قال أَبو حاتم: وهذا رَدِيءٌ في العَرَبِيَّةِ، وإنَّما يَقَعُ هذا البناءُ في الظروف.
وقرأ ابْنُ أَبي إِسْحاقَ "مِنْ قُبُلَ" و "مِنْ دُبُرَ" بالفتح كأنَّه جعلهُما عَلَميْن للجِهَتَيْنِ، فَمَنْعُهما الصَّرْفَ للعَلَمية والتأنيث. وَرَوَى مَحْبُوبٌ عَنْ أبي عمرو "مِنْ قُبُلِ" و "مِنْ دُبُرِ" مخفَّفانِ مَجْرورانِ.