فيض العليم .... سورة يوسف، الآية:4
إِذْ قالَ يُوسُفُ لِأَبِيهِ يا أَبَتِ إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَبًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي ساجِدِينَ
(4)
قولُهُ ـ تعالى شَأْنُهُ: {إِذْ قالَ يُوسُفُ لِأَبِيهِ يا أَبَتِ} يُوسُفُ: اسْمٌ عِبْرَانِيٌّ. وَهُوَ يُوسُفُ بْنُ يَعْقُوبَ بْنِ إِسْحَاقَ وأُمُّهُ رَاحِيلَ. وَهُوَ أَحَدُ الْأَسْبَاطِ الَّذِينَ تَقَدَّمَ ذِكْرُهُمْ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ. وأَخْرَجَ الإمامانِ أَحْمَدُ وَالْبُخَارِيُّ عَن ابْنِ عُمَرَ ـ رَضِي اللهُ عَنْهُما، أَنَّ رَسُولَ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: ((الْكَرِيمُ ابْنُ الْكَرِيم ابْنُ الْكَرِيمِ ابْنُ الْكَرِيمِ: يُوسُفُ بْنُ يَعْقُوبَ بْنِ إِسْحَقَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ)) ـ عَلَيْهِم الصَّلَاة وَالسَّلَام.
وَكَانَ يُوسُفُ أَحَبَّ أَبْنَاءِ يَعْقُوبَ إِلَيْهِ، وَكَانَ فَرْطُ مَحَبَّةِ أَبِيهِ إِيَّاهُ سَبَبَ غَيْرَةِ إِخْوَتِهِ مِنْهُ، فَكَادُوا لَهُ مَكِيدَةً سَيَأْتي ذِكْرُها مُفَصَّلًا غيرَ بعيدٍ إنْ شاءَ اللهُ.
وابْتِدَاءُ قِصَّةِ يُوسُفَ ـ عَلَيْهِ السَّلَامُ، بِذِكْرِ رُؤْيَاهُ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ اللهَ تعالى هيّأَ نَفْسَ يوسُفَ للنُّبوَّةِ، فَابْتَدَأَهُ بِالرُّؤْيَا الصَّادِقَةِ، كَمَا جَاءَ فِي حَدِيثِ السيِّدَةِ عَائِشَةَ أُمِّ المُؤمِنينَ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْها: (أَوَّلُ مَا بُدِئَ بِهِ رَسُولُ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، مِنَ الْوَحْيِ الرُّؤْيَا الصَّادِقَةُ فِي النَّوْمِ، فَكَانَ لا يَرَى رُؤْيَا إِلَّا جَاءَتْ مِثْلَ فَلَقِ الصُّبْحِ ...) أَخرجَهُ أَحْمَدُ في مُسْنَدِهِ: (51/203)، البخاريُّ في الصَّحيح: (21/329)، ومُسلمٌ في صحيحهِ: (1/381)، والواحدِيُّ في الوسيطِ: (4/527)، والطبَرِيُّ في جامِعِ البَيانِ: (24/520). وَفِي ذَلِكَ تَمْهِيدٌ لِلْمَقْصُودِ مِنَ الْقِصَّةِ وَهُوَ تَقْرِيرُ فَضْلِ يُوسُفَ ـ عَلَيْهِ السَّلَامُ، مِنْ طَهَارَةٍ وَزَكَاءِ نَفْسٍ وَصَبْرٍ. فَذَكَرَ هَذِهِ الرُّؤْيَا فِي صَدْرِ الْقِصَّةِ كَالْمُقَدِّمَةِ وَالتَّمْهِيدِ لِلْقِصَّةِ الْمَقْصُودَةِ.
وَفِي الْحَدِيثِ: ((لَمْ يَبْقَ مِنَ الْمُبَشِّرَاتِ إِلَّا الرُّؤْيَا الصَّالِحَةَ يَرَاهَا الْمُسْلِمُ أَوْ تُرَى لَهُ)) ، أَخرجَهُ الإمامُ أحمد في مسندِهِ: (6/445) من أبي الدرداءِ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، وأَخْرَجَه سَعيدُ بْنُ مَنْصورٍ، وابْنُ أَبي شَيْبَةَ، ومسلم، وأَبو داوودَ، والنَّسائيُّ، والترمذيُّ، وابنُ خزيمةَ، وابْنُ ماجَةَ، وابْنُ مِرْدُوَيْهِ، عَنِ ابْنِ عبَّاسٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُما. وَالِاعْتِدَادُ بِالرُّؤْيَا مِنْ قَدِيمِ أُمُورِ النُّبُوءَةِ. وَقَدْ جَاءَ فِي التَّوْرَاةِ أَنَّ اللهَ خَاطَبَ إِبْرَاهِيمَ ـ عَلَيْهِ السَّلَامُ، فِي رُؤْيَا رَآهَا وَهُوَ فِي طَرِيقِهِ بِبِلَادِ شَالِيمَ بَلَدٌ مَلْكِيٌّ صَادِقٌ وَبَشَّرَهُ بِأَنَّهُ يَهَبُهُ نَسْلًا كَثِيرًا، وَيُعْطِيهِ الْأَرْضَ الَّتِي هُوَ سَائِرٌ فِيهَا (فِي الْإِصْحَاحِ 15 مِنْ سِفْرِ التَّكْوِينِ).
أَمَّا الْعَرَبُ فَإِنَّهُمْ وَإِنْ لَمْ يَرِدْ فِي كَلَامِهِمْ شَيْءٌ يُفِيدُ اعْتِدَادَهُمْ بِالْأَحْلَامِ، وَلَعَلَّ قَوْلَ كَعْبِ بْنِ زُهَيْرٍ ـ رَضِيَ الله عَنْهُ:
فَلا يَغُرَّنْكَ مَا مَنَّتْ ومَا وَعَدَتْ ........... إنَّ الأمَانِيَّ وَالأحْلامَ تَضْلِيل
يُفِيدُ عَدَمَ اعْتِدَادِهِمْ بِالْأَحْلَامِ، فَإِنَّ الْأَحْلَامَ فِي الْبَيْتِ هِيَ مِرَائِي النَّوْمِ. وَلَكِنَّ ذِكْرَ ابْنِ إِسْحَاقَ رُؤْيَا عَبْدِ الْمُطَّلِبِ وَهُوَ قَائِمٌ فِي الْحِجْرِ أَنَّهُ أَتَاهُ آتٍ فَأَمَرَهُ بِحَفْرِ بِئْرِ زَمْزَمَ فَوَصَفَ لَهُ مَكَانَهَا، وَكَانَتْ جُرْهُمْ سَدَمُوهَا عِنْدَ خُرُوجِهِمْ مِنْ مَكَّةَ. وَذَكَرَ ابْنُ إِسْحَاقَ رُؤْيَا عَاتِكَةَ بِنْتِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ أَنَّ: (رَاكِبًا أَقْبَلَ عَلَى بَعِيرٍ فَوَقَفَ بِالْأَبْطُحِ ثُمَّ صَرَخَ: يَا آلَ غُدَرَ اُخْرُجُوا إِلَى مُصَارِعِكُمْ فِي ثَلَاثٍ) فَكَانَتْ وَقْعَةُ بَدْرٍ عَقِبَهَا بِثَلَاثِ لَيَالٍ.
وَقَدْ عُدَّتِ الْمَرَائِي النَّوْمِيَّةُ فِي أُصُولِ الْحِكْمَةِ الْإِشْرَاقِيَّةِ وَهِيَ مِنْ تُرَاثِهَا عَنْ حِكْمَةِ الْأَدْيَانِ السَّالِفَةِ مِثْلَ الْحَنِيفِيَّةِ. وَبَالَغَ فِي تَقْرِيبِهَا بِالْأُصُولِ النَّفْسِيَّةِ شِهَابُ الدِّينِ الْحَكِيمُ السُّهْرَوَرْدِيُّ فِي (هَيَاكِلِ النُّورِ وَحِكْمَةِ الْإِشْرَاقِ)، وَأَبُو عَلِيٍّ بْنُ سِينَا فِي (الْإِشَارَاتِ) بِمَا حَاصِلُهُ: وَأَصْلُهُ: أَنَّ النَّفْسَ النَّاطِقَةَ (وَهِيَ الْمُعَبَّرُ عَنْهَا بِالرُّوحِ) هِيَ مِنَ الْجَوَاهِرِ الْمُجَرَّدَةِ الَّتِي مَقَرُّهَا الْعَالَمُ الْعُلْوِيُّ، فَهِيَ قَابِلَةٌ لِاكْتِشَافِ الْكَائِنَاتِ عَلَى تَفَاوُتٍ فِي هَذَا الْقَبُولِ، وَأَنَّهَا تُودَعُ فِي جِسْمِ الْجَنِينِ عِنْدَ اكْتِمَالِ طَوْرِ الْمُضْغَةِ، وَأَنَّ لِلنَّفْسِ النَّاطِقَةِ آثَارًا مِنَ الِانْكِشَافَاتِ إِذَا ظَهَرَتْ فَقَدْ يَنْتَقِشُ بَعْضُهَا بِمَدَارِكِ صَاحِبِ النَّفْسِ فِي لَوْحِ حِسِّهِ الْمُشْتَرَكِ، وَقَدْ يَصْرِفُهُ عَنِ الِانْتِقَاشِ شَاغِلَانِ: أَحَدُهُمَا حِسِّيٌّ خَارِجِيٌّ، وَالْآخَرُ بَاطِنِيٌّ عَقْلِيٌّ أَوْ وَهْمِيٌّ، وَقُوَى النَّفْسِ مُتَجَاذِبَةٌ مُتَنَازِعَةٌ فَإِذَا اشْتَدَّ بَعْضُهَا ضَعُفَ الْبَعْضُ الْآخَرُ كَمَا إِذَا هَاجَ الْغَضَبُ ضَعُفَتِ الشَّهْوَةُ، فَكَذَلِكَ إِنْ تَجَرَّدَ الْحِسُّ الْبَاطِنُ لِلْعَمَلِ شُغِلَ عَنِ الْحِسِّ الظَّاهِرِ، وَالنَّوْمُ شَاغِلٌ لِلْحِسِّ، فَإِذَا قَلَّتْ شَوَاغِلُ الْحَوَاسِّ الظَّاهِرَةِ فَقَدْ تَتَخَلَّصُ النَّفْسُ عَنْ شَغْلِ مُخَيِّلَاتِهَا، فَتَطَّلِعُ عَلَى أُمُورٍ مُغَيَّبَةٍ، فَتَكُونُ الْمَنَامَاتُ الصَّادِقَةُ. وَالرُّؤْيَا الصَّادِقَةُ حَالَةٌ يُكْرِمُ اللهُ بِهَا بَعْضَ أَصْفِيَائِهِ الَّذِينَ زَكَتْ نُفُوسُهُمْ فَتَتَّصِلُ نُفُوسُهُمْ بِتَعَلُّقَاتٍ مِنْ عِلْمِ اللهِ وَتَعَلُّقَاتٍ مِنْ إِرَادَتِهِ وَقُدْرَتِهِ وَأَمْرِهِ التَّكْوِينِيِّ فَتَنْكَشِفُ بِهَا الْأَشْيَاءُ الْمُغَيَّبَةُ بِالزَّمَانِ قَبْلَ وُقُوعِهَا، أَوِ الْمُغَيَّبَةُ بِالْمَكَانِ قَبْلَ اطِّلَاعِ النَّاسِ عَلَيْهَا اطِّلَاعًا عَادِيًّا، وَلذَلِك قَالَ النبيُّ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((الرُّؤْيَا الصَّالِحَةُ مِنَ الرَّجُلِ الصَّالِحِ جُزْءٌ مِنْ سِتَّةٍ وَأَرْبَعِينَ جُزْءً مِنَ النبوَّة)). أخرجهُ الأئمَّةُ: مالك مِنْ حَديثِ أَنَسِ بْنِ مالكٍ: (2/956) وأَحْمَدُ: (2/233) والبخاري (6983)، ومسلم (2264)، التِرْمِذِيُّ: (2279) وابْنُ ماجَةَ: (3894)، عن ابنِ عمرَ، وأَبي هُرَيْرَةَ وأَنَسِ بْنِ مالكِ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهم أَجْمَعينَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَريرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبي حَاتِمٍ، وَأَبُو الشَّيْخِ، وَالْحَاكِم، وَابْنُ مِرْدُوَيْهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا، فِي قَوْلِهِ: {إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَبًا" قَالَ رُؤْيا الْأَنْبِيَاء وَحْيٌ.
والرُّؤْيَا مَرَاتِبُ مِنْهَا: أَنْ يَرَى النائمُ صُوَرَ أَفْعَالٍ تَتَحَقَّقُ أَمْثَالُهَا فِي الْوُجُودِ كرُؤْيا النبيِّ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَنَّهُ يُهَاجِرُ مِنْ مَكَّةَ إِلَى أَرْضٍ ذَاتِ نَخْلٍ، وَظَنُّهُ أَنَّ تِلْكَ الْأَرْضَ الْيَمَامَةُ فَظَهَرَ أَنَّهَا الْمَدِينَةُ، وَلَا شَكَّ أَنَّهُ لَمَّا رَأَى الْمَدِينَةَ وَجَدَهَا مُطَابِقَةً لِلصُّورَةِ الَّتِي رَآهَا. وَمِثْلَ رُؤْيَاهُ امْرَأَةً فِي سَرَقَةٍ مِنْ حَرِيرٍ فَقيل لَهُ اكْشِفْها فَهِيَ زَوْجُكَ، فَكَشَفَ فَإِذَا هِيَ عَائِشَةُ ـ رضي اللهُ عنها، فَعَلِمَ أَنْ سَيَتَزَوَّجَهَا. وَهَذَا النَّوْعُ نَادِرٌ وَحَالَةُ الْكَشْفِ فِيهِ قَوِيَّةٌ. وَمِنْهَا أَن يَرَى صُوَرَ تَكُونُ رُمُوزًا لِلْحَقَائِقِ الَّتِي سَتَحْصُلُ أَوِ الَّتِي حَصَلَتْ فِي الْوَاقِعِ، وَتِلْكَ مِنْ قَبِيلِ مُكَاشَفَةِ النَّفْسِ لِلْمَعَانِي وَالْمَوَاهِي، وَتَشْكِيلِ الْمُخَيِّلَةِ تِلْكَ الْحَقَائِقَ فِي أَشْكَالٍ مَحْسُوسَةٍ هِيَ مِنْ مَظَاهِرَ تِلْكَ الْمَعَانِي، وَهُوَ ضَرْبٌ مِنْ ضُرُوبِ التَّشْبِيهِ وَالتَّمْثِيلِ الَّذِي تَخْتَرِعُهُ أَلْبَابُ الْخُطَبَاءِ وَالشُّعَرَاءِ، إِلَّا أَنَّ هَذَا تَخْتَرِعُهُ الْأَلْبَابُ فِي حَالَةِ هَدُوءِ الدِّمَاغِ مِنَ الشَّوَاغِلِ الشَّاغِلَةِ، فَيَكُونُ أَتْقَنَ وَأَصْدَقَ. وَهَذَا أَكْثَرُ أَنْوَاعِ الْمَرَائِي. وَمِنْهُ رُؤْيا النَّبِيِّ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَنَّهُ يَشْرَبُ مِنْ قَدَحِ لَبَنٍ حَتَّى رَأَى الرِّيَّ فِي أَظْفَارِهِ ثُمَّ أَعْطَى فَضْلَهُ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ. وَتَعْبِيرُهُ ذَلِكَ بِأَنَّهُ الْعِلْمُ. وَكَذَلِكَ رُؤْيَاهُ امْرَأَةً سَوْدَاءَ نَاشِرَةً شَعْرَهَا خَارِجَةً مِنَ الْمَدِينَةِ إِلَى الْجَحْفَةِ، فَعَبَّرَهَا بِالْحُمَّى تَنْتَقِلُ مِنَ الْمَدِينَةِ إِلَى الْجَحْفَةِ، وَرُؤيا عَبْدُ اللهِ بْنُ سَلَامٍ ـ رضي الله عنه، أَنَّهُ فِي رَوْضَةٍ، وَأَنَّ فِيهَا عَمُودًا، وَأَنَّ فِيهِ عُرْوَةً، وَأَنَّهُ أَخَذَ بِتِلْكَ الْعُرْوَةِ فَارْتَقَى إِلَى أَعْلَى العمودِ، فعَبَّرَهُ النَّبِيُّ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، بِأَنَّهُ لَا يَزَالُ آخِذًا بِالْإِيمَانِ الَّذِي هُوَ الْعُرْوَةُ الْوُثْقَى، وَأَنَّ الرَّوْضَةَ هِيَ الْجَنَّةُ، فَقَدْ تَطَابَقَ التَّمْثِيلُ النَّوْمِيُّ مَعَ التَّمْثِيلِ الْمُتَعَارَفِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقى} سُورَة الْبَقَرَة، الآية: 256 كما تقدَّمَ بيانُهُ.
قولُهُ: {إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَبًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ} رَأَيْتُ: مِنْ الرُؤيا التي هِيَ رُؤْيا مَنَامِيَّةٌ، لَا رُؤْيَا بَصَريَّةٌ، و تَكونُ الرُّؤيَا رَمزًا لأُمورٍ مُغَيَّبَةٍ، فهذِهِ الكَوَاكِبُ أَحَدَ عَشَرَ، وهي رَمْزٌ لإخْوَتِهِ وعَدَدُهم أَحَدَ عَشَرَ، قالَهُ ابْنُ عبَّاسٍ وقَتَادَةُ ـ رضيَ اللهُ عنهم: الكَواكِبُ إِخْوَتُهُ، والشَّمْسُ أُمَّهُ، والقَمَرُ أَبوهُ، وهذا تَأْويلَ الرُّؤيا كَمَا فَهِمَها أَبوهُ يَعقوبُ ـ عَلَيْهِ السَّلامُ، والسُجُودُ كنايةٌ عنِ الخُضُوعِ. فقد أَخْرَجَ ابْن الْمُنْذر عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا، فِي قَوْلِهِ: "أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَبًا" قَالَ: إخْوَتُه. وَالشَّمْس: قَالَ" أُمُّهُ. وَالْقَمَر: قَالَ أَبوهُ. ولأُمِّهِ راحيلَ ثُلُثُ الْحُسْنِ. وَأَخْرَج عَبْدُ الرَّزَّاق وَابْنُ جَريرٍ وَأَبُو الشَّيْخِ عَنْ قَتَادَةَ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ فِي قَوْلِهِ: "أَحَدَ عَشَرَ كَوْكبًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ" قَالَ: الْكَوَاكِبُ إخْوَتُهُ، وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ أَبَوَاهُ. وَأَخرجَ سَعيدُ بْنُ مَنْصُورٍ، وَالْبَزَّارُ، وَأَبُو يَعْلَى، وَابْنُ جَريرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبي حَاتِمٍ، والعَقيلِيُّ، وَابْنُ حِبَّان، فِي الضُّعَفَاءِ، وَأَبُو الشَّيْخِ، وَالْحَاكِمُ وَصَححهُ، وَابْنُ مِرْدُوَيْهِ، وَأَبُو نُعَيْمٍ، وَالْبَيْهَقِيُّ مَعًا فِي دَلَائِلِ النُّبُوَّةِ، عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ ـ رَضِي اللهُ عَنْهُ، قَالَ: جَاءَ بُسْتَانِيٌّ يَهُودِيٌّ إِلَى النَّبِيِّ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ أَخْبِرْنِي عَنِ الْكَوَاكِبِ الَّتِي رَآهَا يُوسُفُ ـ عَلَيْهِ السَّلَامُ، سَاجِدَةً لَهُ مَا أَسْمَاؤها؟ فَسَكَتَ النَّبِيُّ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَلَمْ يُجِبْهُ بِشَيْءٍ فَنَزَلَ جِبْرِيلُ ـ عَلَيْهِ السَّلَامُ، فَأَخْبَرَهُ بِأَسْمائها فَبَعَثَ رَسُولُ اللهِ ـ صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، إِلَى البُسْتَانِيِّ الْيَهُودِيِّ فَقَالَ: ((هَل أَنْت مُؤمِنٌ إِنْ أَخْبَرْتُكَ بِأَسْمائها؟)) قَالَ: نعم. قَالَ: ((جَرَيَانُ، وَالطَّارِقُ، وَالذَّيَّالُ، وَذُو الْكَتِفَيْنِ، وَقَابِسُ، وَوَثَّابُ، وَعَمُودَانُ، وَالْفَلِيقُ، وَالْمُصْبِحُ، وَالضَّرُوحُ، وَالْفُرُغُ، وَالضِّيَاءُ، وَالنُّورُ. فَقَالَ الْيَهُودِيُّ: إِي وَاللهِ إِنَّهَا لَأَسْمَاؤُهَا. وَذَكَرَ السُّهَيْلِيُّ مُسْنَدًا إلى الحَرْثِ بْنِ أَبِي أُسَامَةَ فَذَكَرَ الْحَدِيثَ، وَفِيهِ بَعْضُ اخْتِلَافٍ، وَذَكَرَ النَّطْحَ عِوَضًا عَنِ الْمُصْبَحِ. وَعَنْ وَهْبٍ أَنَّ يُوسُفَ رَأَى وَهُوَ ابْنُ سَبْعِ سِنِينَ أَنَّ إِحْدَى عَشْرَةَ عَصًا طُوَالًا كَانَتْ مَرْكُوزَةً فِي الْأَرْضِ كَهَيْئَةِ الدَّارَةِ، وَإِذَا عَصًا صَغِيرَةٌ تَثِبُ عَلَيْهَا حَتَّى اقْتَلَعَتْهَا وَغَلَبَتْهَا، فَوَصَفَ ذَلِكَ لِأَبِيهِ فَقَالَ: إِيَّاكَ أَنْ تَذْكُرَ هَذَا لِإِخْوَتِكَ، ثُمَّ رَأَى وَهُوَ ابْنُ ثِنْتَيْ عَشْرَةَ سَنَةً الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالْكَوَاكِبَ سُجُودًا لَهُ فَقَصَّهَا عَلَى أَبِيهِ فَقَالَ لَهُ: لَا تَقُصُّهَا عَلَيْهِمْ فَيَبْغُوا لَكَ الْغَوَائِلَ.
قولُهُ: {رَأَيْتُهُمْ لِي ساجِدِينَ} قيلَ: إِنَّهُ رأَى كواكِبَ حَقيَّقةً، والشمْسَ والقَمَرَ، فَتَأَوَّلَها أبوهُ يَعقوبُ ـ عَلَيْهِ السَّلامُ، إِخْوَتَهُ وأَبَوَيْهِ، وهذَا هوَ قَوْلُ الجُمْهورِ، وقِيلَ: الإِخْوَةُ والأَبُ والخالَةُ، لأَنَّ أُمَّهُ راحيلَ ـ رضي اللهُ عنها، كانَتْ مَيِّتَةً، وَكَانَ بَيْنَ رُؤْيَا يُوسُفَ وَمَسِيرِ إِخْوَتِهِ إِلَيْهِ أَرْبَعُونَ سَنَةً، وَقِيلَ: ثَمَانُونَ سَنَةً. وَرُوِيَ أَنَّ رُؤْيَا يُوسُفَ كَانَتْ لَيْلَةَ الْقَدْرِ لَيْلَةَ جُمُعَةٍ. أَخْرَجَهُ أَبُو الشَّيْخ عَنِ ابْنِ مُنَبِّهٍ عَنْ أَبِيهِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَريرٍ عَنِ ابْنِ زَيْدٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، قَالَ: مَا رَضِي إخْوَتُهُ ـ وكانوا أَنْبِيَاءَ، أَنْ يَسْجُدَوا لَهُ حَتَّى سَجَدَ لَهُ أَبَوَاهُ، حِينَ بَلَغَهُمْ.
قولُهُ تعالى: {إِذْ قالَ يُوسُفُ لِأَبِيهِ يا أَبَتِ} إذْ: ظَرْفٌ لِمَا مَضَى مِنَ الزَّمانِ في مَحَلِّ النَّصْبِ عَلَى الظَّرْفِيَّةِ مَبْنِيٌّ عَلَى السُّكونِ مُتَعَلِّقٌ بِـ "نَقُصُّ" أَوْ بِ "اذْكُرْ" مَحْذوفًا. و "قَالَ" فِعْلٌ ماضٍ مبنيٌّ على الفتحِ، و "يُوسُفُ" فاعِلٌ مرفوعٌ. و "لِأَبِيهِ" مُتَعَلِّقٌ بِهِ، والجُمْلَةُ الفِعْلِيَّةُ في مَحَلِّ الجَرِّ بإضافَةِ "إذ" إليها. و "يَا أداةُ نِداءٍ. و "أَبَتِ" مُنَادَى مُضافٌ مَنْصوبٌ بالنداءِ، وعلامَةُ نَصْبِهِ فَتْحَةٌ مُقَدَّرَةٌ عَلَى مَا قَبْلَ ياءِ المُتَكَلِّمِ، المُعَوَّضَةِ عَنْها تاءُ التَأنيث للتَّفْخيمِ، مَنَعَ مِنْ ظُهُورِها اشْتِغَالُ المَحَلِّ بالفَتْحَةِ المَجْلوبَةِ لِمُنَاسَبَةِ التاءِ؛ لأنَّ التَّاءَ لا يَكونُ ما قَبْلَها إلَّا مَفْتُوحًا و "أَب" مُضافٌ وياءُ المُتَكَلِّمِ المُعَوَّضَة عَنْها تاءُ التَأْنيثِ في مَحَلِّ جَرِّ مُضافٍ إِلَيْهِ، مَبْنِيَّة على السَّكونِ لِشِبَهِها بالحَرْفِ شَبَهًا وَضْعِيًّا، وتاءُ التَأْنيثِ حَرْفٌ لا مَحَلَّ لَهَا مِنَ الإعْرابِ مَبْنِيَّةٌ عَلَى الفَتْحِ، وإنَّما حُرِّكَتْ لِكَوْنِها عَلَى حَرْفٍ واحِدٍ، وكانَتِ الحَرَكَةُ فَتْحَةً تَحْريكًا لَهَا بِحَرَكَةِ أَصْلِهَا الذي هُوَ الياءُ في بَعْضِ لُغاتِها، وجُمْلَةُ النِّداءِ في مَحَلِّ النَّصْبِ مَقَولَ القولِ ل "قال". وهذا أَسْهَلُ الوجوهِ، إذْ فِيهِ إِبْقاءُ "إذ" عَلَى كَوْنِهِ ظَرْفًا ماضِيًا. وقيلَ: النَّاصِبُ لَهُ "الغافلين" قالَهُ مَكِيٌّ. وقيل: هو منصوبٌ ب "نَقُصُّ"، أي: نَقُصُّ عليك وقتَ قولِهِ كَيْتَ وكَيْتَ، وهذا فيهِ إِخْراجُ "إذ" عَنِ المُضِيِّ وعَنِ الظَرْفِيَّةِ، وإنْ قَدَّرْتَ المَفْعُولَ مَحْذُوفًا، أَيْ: نَقُصُّ عَلَيْكَ الحالَ وَقْتَ قَوْلِهِ، لَزِمَ إِخْراجُها عَنِ المُضِيِّ. وقيلَ: هوَ مَنْصُوبٌ بِمُضْمَرٍ، أَيْ: اذْكُرْ. وقيلَ: هوَ مَنْصوبٌ عَلَى أَنَّهُ بَدَلٌ مِنْ {أَحْسَنَ القَصَصِ} بَدَلَ اشْتِمَالٍ. لأَنَّ الوَقْتَ يَشْمَلُ عَلَى القَصَصِ وهوَ المَقْصوصُ". أَوْ بدلَ بَعْضٍ مِنْ {أَحْسَنَ الْقَصَصِ} الآية التي قبلها، عَلَى أَنْ يَكُونَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَعْنَى الْمَفْعُولِ، فَإِنَّ أَحْسَنَ الْقَصَصِ يَشْتَمِلُ عَلَى قَصَصٍ كَثِيرٍ، مِنْهُ قَصَصُ زَمَانِ قَوْلِ يُوسُفَ ـ عَلَيْهِ السَّلَامُ، لِأَبِيهِ: "إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَبًا" وَمَا عَقَبَ قَوْلَهُ ذَلِكَ مِنَ الْحَوَادِثِ. فَإِذَا حُمِلَ {أَحْسَنَ الْقَصَصِ} عَلَى الْمَصْدَرِ فَالْأَحْسَنُ أَنْ يَكُونَ إِذْ مَنْصُوبًا بِفِعْلٍ مَحْذُوفٍ يَدُلُّ عَلَيْهِ الْمَقَامُ، وَالتَّقْدِيرُ: اذْكُرْ. وَالنِّدَاءُ فِي الْآيَةِ مَعَ كَوْنِ الْمُنَادَى حَاضِرًا مَقْصُودٌ بِهِ الِاهْتِمَامُ بِالْخَبَرِ الَّذِي سَيُلْقَى إِلَى الْمُخَاطَبِ فَيُنْزِلُ الْمُخَاطَبَ مَنْزِلَةَ الْغَائِبِ الْمَطْلُوبِ حُضُورُهُ، وَهُوَ كِنَايَةٌ عَنِ الِاهْتِمَامِ أَوِ اسْتِعَارَةٌ لَهُ.
قولُهُ: {إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَبًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ} إِنِّي: حرفٌ ناصِبٌ ناسخٌ مشبَّهٌ بالفعلِ للتوكيدِ، والياءُ: ضميرٌ متَّصلٌ به سْمُهُ مبنيٌّ على السكونِ في محلِّ نصبِ اسمِهِ. و "رَأَيْتُ" فعلٌ ماضٍ مبنيٌّ على السكونِ لاتِّصالهِ بضمير رفعٍ متحرِّكٍ هو تاءُ الفاعلِ، وهي ضميرٌ متَّصلٌ بِهِ مبنيٌّ على الضمِّ في محلِّ رفعِ فاعلِهِ، والجُمْلَةُ في مَحَلِّ رَفعِ خَبَرِ "إنَّ"، وجُمْلَةُ "إنَّ" في مَحَلِّ النَّصبِ بِ "قال" عَلى كَوْنِها جَوابَ النِّداءِ. والرُؤْيَةُ هُنَا مَنَامِيَّةٌ، وقد تَقَدَّمَ أَنَّها تَنْصِبُ مَفْعولَيْنِ كالعِلْمِيَّةِ، وعَلَى هذا يكون قد حَذَفَ المفعولَ الثاني من قوله: "رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَبًا" ولكنَّ حَذْفَه اقْتِصارًا مُمْتَنِعٌ، فَلَمْ يَبْقَ إلَّا اخْتِصارًا، وهوَ قليلٌ أَوْ مُمْتَنِعٌ عِنْدَ بَعْضِهم. و "أَحَدَ عَشَرَ" عَدَدٌ مُرَكَّبٌ في مَحَلِّ النَّصْبِ عَلَى المَفْعولِيَّةِ الأُولى لرُؤْيَةِ، مَبْنِيًّ عَلَى فَتْحِ الجُزْأَيْنِ بُنِيَ الجِزْءُ الأَوَّلُ لِشِبَهِهِ بالحَرْفِ، شَبَهًا افْتِقارِيًّا لافْتِقارِهِ إِلى الجُزْءِ الثاني، في دَلالَتِهِ عَلَى المَعْنَى المُرادِ، وبُنِيَ الجِزْءُ الثاني لِشِبَهِهِ بالحَرْفِ، شَبَهًا مَعْنَوِيًّا لِتَضَمُّنِهِ مَعْنَى حَرْفِ العَطْفِ، وإنَّما حُرِّكا لِيُعْلَمَ أَوَّ لُهُما أَصْلًا في الإعْرابِ، وكانَتِ الحَرَكَةُ فَتْحَةً للخِفَّةِ مَعَ ثِقَلِ التَرْكيبِ، و "كَوْكَبًا" تَمييزٌ لـِ "أَحَدَ عَشَرَ" مَنْصوبٌ بِهِ. وَ "الشَّمْسَ" وَ "الْقَمَرَ" مَعْطوفانِ عَلَى "أَحَدَ عَشَرَ"، على أنَّ الواوَ عاطفةٌ، وحِينَئِذٍ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكونَ ذَلِكَ مِنْ بابِ ذِكْرِ الخاصِّ بَعْدَ العامِ تَفْصيلًا؛ لأَنَّ الشَّمْسُ والقَمَرَ دَخَلا في قولِهِ: "أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَبا" فهوَ كَقَوْلِهِ تعالى: {وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ} بعدَ قولِهِ: {وملائكَتِهِ} سورةُ البَقَرَةِ، الآية: 98، ويُحْتَمَلُ أَنْ تَكونَ الواوُ لِعَطْفِ المُغَايِرِ، فيَكونُ قَدْ رَأَى الشَّمْسَ والقَمَرَ زِيادَةً عَلَى الأَحَدَ عَشَرَ بِخِلافِ الأَوَّلِ، فإنَّهُ يَكونُ رَأَى الأَحَدَ عَشَرَ، ومِنْ جُمْلَتَها الشَّمْس والقمر، وقد تقدَّم الوجهانِ في التفسير.
قولُهُ: {رَأَيْتُهُمْ لِي ساجِدِينَ} رَأَيْتُهُمْ: فعلٌ ماضٍ مبنيٌّ على السكونِ لاتِّصالهِ بضمير رفعٍ متحرِّكٍ هو تاءُ الفاعلِ، وهي ضميرٌ متَّصلٌ بِهِ مبنيٌّ على الضمِّ في محلِّ رفعِ فاعلِهِ، و "هم" ضميرٌ متَّصلٌ به في محلِّ نصبِ مفعولِهِ الأوَّل، وَقد اسْتَعْمَلَ ضَمِيرَ جَمْعِ الْمُذَكَّرِ لِلْكَوَاكِبِ وَالشَّمْسِ وَالْقَمَرِ فِي قَوْلِهِ: "رَأَيْتُهُمْ لِي ساجِدِينَ"، لِأَنَّ كَوْنَ ذَلِكَ لِلْعُقَلَاءِ غَالِبٌ لَا مُطَّرِدٌ، كَمَا قَالَ تَعَالَى فِي الْأَصْنَامِ: {وَتَراهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ وَهُمْ لَا يُبْصِرُونَ} سُورَة الْأَعْرَاف، الآية: 198، وَقَالَ في سُورَة النَّمْلُ: {يَا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا} الآية: 18. وَقَالَ جَمَاعَةٌ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ: إِنَّهُ لَمَّا كَانَتِ الْحَالَةُ الْمَرْئِيَّةُ مِنَ الْكَوَاكِبِ وَالشَّمْسِ وَالْقَمَرِ حَالَةَ الْعُقَلَاءِ، وَهِيَ حَالَةُ السُّجُودِ نَزَّلَهَا مَنْزِلَةَ الْعُقَلَاءِ، فَأَطْلَقَ عَلَيْهَا ضَمِيرَ "هُمْ" وَصِيغَةَ جَمْعِهِمْ. وهذه الجُمْلَةُ تأكيد لفظيٌّ للجُمْلَةِ الأُولى. لأنَّهُ لمَّا طالَ الفصلُ بالمفاعيل، كُرِّرَتْ كَمَا كُرِّرَتْ "أَنَّكم" في قولِهِ تعالى: {أَيَعِدُكُمْ أَنَّكُمْ إِذَا مِتُّمْ وَكُنْتُمْ تُرَابًا وَعِظَامًا أَنَّكُمْ مُخْرَجُونَ} الآية: 35، مِنْ سُورَةِ المُؤمنون. وقيل: إنَّهُ لَيْسَ بِتَأْكيدٍ، وإنَّما هوَ كلامٌ مُسْتَأْنَفٌ عَلى تَقْديرِ سُؤالٍ، وقَعَ جوابًا لَهُ، كَأَنَّ يَعْقوبَ ـ عَلَيْهِ السَّلامُ، قالَ لَهُ عِنْدَ قوْلِهِ: "إنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَبًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ" قالَ سائلًا عَنْ حالِ رُؤْيَتِها: كيفَ رَأَيْتَها؟ فقالَ: رَأَيْتُهم لي ساجدين؟. و "لِي" جَارٌّ ومَجْرٌورٌ مُتَعَلِّقٌ بـ "سَاجِدِينَ". وَتَقْدِيمُ الْمَجْرُورِ عَلَى عَامِلِهِ فِي قَوْلِهِ: "لِي ساجِدِينَ" لِلِاهْتِمَامِ، عَبَّرَ بِهِ عَنْ مَعْنَى تَضَمُّنِهِ كَلَامَ يُوسُفَ ـ عَلَيْهِ السَّلَامُ، بِلُغَتِهِ يَدُلُّ عَلَى حَالَةٍ فِي الْكَوَاكِبِ مِنَ التَّعْظِيمِ لَهُ تَقْتَضِي الِاهْتِمَامَ بِذِكْرِهِ فَأَفَادَهُ تَقْدِيمُ الْمَجْرُورِ فِي اللُّغَةِ الْعَرَبِيَّةِ. و "سَاجِدِينَ" مَفعولٌ ثانٍ لِـ "رَأَيْتُ" منصوبٌ وعلامةُ نصبِهِ الياءُ لأنَّهُ جمعُ المذكَّرِ السالِمِ، والنونُ عوضٌ عنِ التنوينِ في الاسمِ المُفْرَدِ. و "ساجدين" صفةٌ جُمِعَ جَمْعَ العقلاءِ. فقيلَ: لأَنَّهُ لَمَّا عامَلَهم معاملةَ العُقَلاءِ في إِسْنَادِ فِعْلَهم إليهم جَمَعَهم جَمْعَهم، والشَّيْءُ قد يُعامَلُ معاملةَ شَيْءٍ آخَرَ إِذا شَارَكَهُ في صِفَةٍ مَّا. وَجُمْلَةُ رَأَيْتُهُمْ مُؤَكِّدَةٌ لِجُمْلَةِ رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَباً، جِيءَ بِهَا عَلَى الِاسْتِعْمَالِ فِي حِكَايَةِ الْمَرَائِي الْحُلْمِيَّةِ أَنْ يُعَادَ فِعْلُ الرُّؤْيَةِ تَأْكِيدًا لَفْظِيًّا أَوِ اسْتِئْنَافًا بَيَانِيًّا، كَأَنَّ سَامِعَ الرُّؤْيَا يَسْتَزِيدُ الرَّائِي أَخْبَارًا عَمَّا رَأَى.
قرأ الجمهورُ: {يوسُفُ} وقرأَ طَلْحَةُ بْنُ مُصَرِّفٍ: "يُؤسَف" بالهمز وفتح السين، وفيه سِتٌّ لُغاتٍ: "يُوسَف" بِضَمِّ الياءِ وسُكونِ الواوِ وبِفَتْحِ السينِ وبِضَمِّها، وبِكَسْرِها وكَذلِكَ بِالهَمْزِ.
قرأَ الجُمهورُ: {يا أَبَتِ} بِكَسْرِ التَّاءِ، وحُذِفَتِ الياءُ مِنْ أَبي وَجُعِلَتْ التاءُ بَدَلًا مِنْها، قالَهُ سِيبَوَيِهِ، وقرَأَ ابْنُ عامِرٍ وحْدَهُ وأَبو جَعْفَرَ والأَعْرَجُ: "يا أَبَتَ" بفتحها، وكانَ ابْنُ كَثيرٍ وابْنُ عامِرٍ يَقِفانِ بالهاءِ. فأَمَّا قِراءَةُ ابْنِ عامِرٍ بِفَتْحِ التاءِ فَلَهَا وجْهان: إمَّا أَنْ يَكونَ: "يا أبتا"، ثمَّ حُذِفَتِ الأَلِفُ تَخْفيفًا وبَقِيَتِ الفَتْحَةُ دَالَّةً عَلَى الأَلِفِ، وإِمَّا أَنْ يَكونَ جاريًا مُجْرَى قولِهم: يا طَلْحَةُ أَقْبِلْ، رَخَّمُوهُ ثمَّ رَدُّوا العلامَة، َولم يُعْتَدَّ بِها بَعْدَ التَرْخيمِ، وهذا كقولهم: اجْتَمَعَتِ اليَمَامَةُ. ثمَّ قالوا: اجْتَمَعَتْ أَهْلُ اليَمامَةِ، فَرَدُّوا لَفْظَةَ الأَهْلِ ولمِ يَعْتَدُّوا بِها. وَيَجُوزُ كَسْرُ هَذِهِ التَّاءِ وَفَتْحُهَا. وَهذه التَّاءُ خَاصَّةٌ بِكَلِمَةِ الْأَبِ وَكَلِمَةِ الْأُمِّ فِي النِّدَاءِ خَاصَّةً عَلَى نِيَّةِ الْإِضَافَةِ إِلَى الْمُتَكَلِّمِ، فَمُفَادُهَا مُفَادُ: يَا أَبِي، وَلَا يَكَادُ الْعَرَبُ يَقُولُونَ: يَا أَبِي. وَوَرَدَ فِي سَلَامِ ابْنِ عُمَرَ عَلَى النَّبِيِّ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَصَاحِبِهِ حِينَ وَقَفَ عَلَى قُبُورِهِمُ الْمُنَوَّرَةِ. وَقَدْ تَحَيَّرَ أَئِمَّةُ اللُّغَةِ فِي تَعْلِيلِ وَصْلِهَا بِآخِرِ الْكَلِمَةِ فِي النِّدَاءِ وَاخْتَارُوا أَنَّ أَصْلَهَا تَاءُ تَأْنِيثٍ بِقَرِينَةِ أَنَّهُمْ قَدْ يَجْعَلُونَهَا هَاءً فِي الْوَقْفِ، وَأَنَّهَا جُعِلَتْ عِوَضًا عَنْ يَاءِ الْمُتَكَلِّمِ لِعِلَّةٍ غَيْرِ وَجِيهَةٍ. وَالَّذِي يَظْهَرُ لِي أَنَّ أَصْلَهَا هَاءُ السَّكْتِ جَلَبُوهَا لِلْوَقْفِ عَلَى آخِرِ الْأَبِ لِأَنَّهُ نُقِصَ مِنْ لَامِ الْكَلِمَةِ، ثُمَّ لَمَّا شَابَهَتْ هَاءَ التَّأْنِيثِ بِكَثْرَةِ الِاسْتِعْمَالِ عُومِلَتْ مُعَامَلَةَ آخِرِ الْكَلِمَةِ إِذَا أَضَافُوا الْمُنَادَى فَقَالُوا: يَا أَبَتِي، ثُمَّ اسْتَغْنَوْا عَنْ يَاءِ الْإِضَافَةِ بِالْكَسْرَةِ لِكَثْرَةِ الِاسْتِعْمَالِ. وَيَدُلُّ لِذَلِكَ بَقَاءُ الْيَاءِ فِي بَعْضِ الْكَلَامِ كَقَوْلِ الشَّاعِرِ:
أَيا أَبَتِي لَا زِلْتَ فِينَا فَإِنَّمَا .......... لَنَا أَمَلٌ فِي الْعَيْشِ مَا دُمْتَ عَائِشًا
فجَمَعَ في "أَبَتِي"، بينَ العِوَضِ، والمَعَوَّضِ، وهُما: التاءُ وياءُ المُتَكَلِّمِ؛ لأنَّ التاءَ عِوَضٌ عَنْ ياءِ المُتَكَلِّمِ في قولِهِ: "يا أبت"، وهذا لا يَجُوزُ إلَّا في الضَرورَةِ، أمَّا الكوفيون فقد أَجازوهُ مُطْلَقًا الكثيرُ منهم.
قَرَأَ الجُمهورُ: {أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَبًا} بِفَتْحِ الْعَيْنِ، مِنْ عَشَرَ. وقَرَأَ أَبو جَعْفَرٍ والحَسَنُ وطَلْحَةُ بْنُ سُلَيْمانَ: "أَحَدَ عْشَرَ كَوْكَبًا" بِسُكونِ العَيْنِ لِتَوالي الحَرَكاتِ، كأَنَّهم قَصَدُوا التَّنْبيهَ بِهَذا التَّخْفيفِ عَلَى أَنَّ الاسْمَيْنِ جُعِلا اسْمًا واحِدًا.