وَيا قَوْمِ أَوْفُوا الْمِكْيالَ وَالْمِيزانَ بِالْقِسْطِ وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْياءَهُمْ وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ
(85)
قولُهُ ـ تعالى شأنُهُ: {وَيا قَوْمِ أَوْفُوا الْمِكْيالَ وَالْمِيزانَ بِالْقِسْطِ} وَإِعَادَةُ النِّدَاءِ هنا ب "وَيا قَوْمِ أَوْفُوا الْمِكْيالَ" لِزِيَادَةِ الِاهْتِمَامِ بِالْجُمْلَةِ وَالتَّنْبِيهِ لِمَضْمُونِهَا، وَهُوَ الْأَمْرُ بِإِيفَاءِ الْمِكْيَالِ وَالْمِيزَانِ. وإنَّما أُمِرَ بِتَسْوِيَتِهِمَا وتَعْدِيلِهِما صَريحًا هنا، بَعْدَ النَّهْيِ في الآيةِ التي قبلها عَنْ نَقْصِهِما مُبَالَغَةً في الحَمْلِ عَلى الإيفاءِ، والمَنْعِ مِنَ البَخْسِ، وتَنْبيهًا على أَنَّهُ لا يَكْفيهم مُجَرَّدُ الكَفِّ عَنِ النَّقْصِ والبَخْسِ، بَلْ يَجِبُ عَلَيْهم إِصْلاحُ مَا أَفْسَدوهُ، وجَعَلوهُ مِعْيارًا لِظُلْمِهم، وقانونًا لِعُدْوانِهم. وَهَذَا الْأَمْرُ تَأْكِيدٌ لِلنَّهْيِ عَنْ نَقْصِهِمَا. وَالشَّيْءُ يُؤَكَّدُ بِنَفْيِ ضِدِّهِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى في سُورَةِ طَهَ: {وَأَضَلَّ فِرْعَوْنُ قَوْمَهُ وَما هَدَى}، الآية: 79. لِزِيَادَةِ التَّرْغِيبِ فِي الْإِيفَاءِ بِطَلَبِ حُصُولِهِ بَعْدَ النَّهْيِ عَنْ ضِدِّهِ. ويجوزُ أَنْ يَكونَ المُرادُ بالأَمْرِ بِإيفاءِ المِكْيالِ والمِيزانِ الأَمْرَ بإيفاءِ المَكِيلاتِ والمَوْزوناتِ.
و "الْقِسْطُ" الْعَدْلُ. تَعْلِيلًا لِلْأَمْرِ بِهِ، لِأَنَّ الْعَدْلَ مَعْرُوفٌ حَسَنٌ، وَتَنْبِيهًا عَلَى أَنَّ ضِدَّهُ ظُلْمٌ وَجُورٌ وَهُوَ قَبِيحٌ مُنْكَرٌ.
قولُهُ: {وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْياءَهُمْ} أَيْ: ولا تَنْقُصُوا النَّاسَ حقوقَهمُ التي يَجِبُ عَلَيْكُمْ أَنْ تُوفوهم، كَيْلًا أَوْ وَزْنًا أَوْ غَيْرَ ذَلِكَ. والْبَخْسُ: النَّقْصُ. وَذِكْرُ ذَلِكَ بَعْدَ النَّهْيِ عَنْ نَقْصِ الْمِكْيَالِ وَالْمِيزَانِ تَذْيِيلٌ بِالتَّعْمِيمِ بَعْدَ تَخْصِيصٍ. لِأَنَّ التَّطْفِيفَ يُعتبَرُ مِنْ بَخْسِ النَّاسِ فِي أَشْيَائِهِمْ.
قولُهُ: {وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ} الْعَثْيُ: هُوَ الْفَسَادُ. وَلِذَلِكَ فَقَوْلُهُ مُفْسِدِينَ حَالٌ مُؤَكِّدَةٌ لِعَامِلِهَا مِثْلَ التَّوْكِيدِ اللَّفْظِيِّ مُبَالَغَةً فِي النَّهْيِ عَنِ الْفَسَادِ. فإنَّ العَثْيَ يَعُمُّ نَقْصَ الحُقوقِ وغَيْرَهُ مِنْ أَنْواعِ الفَسَادِ. وقيلَ البَخْسُ أَخَذُ العُشُورِ والمَكْسُ والإتاواتِ. قالَ زُهيرُ بْنُ أَبي سُلْمى:
أَفي كُلِّ أَسْواقِ العِراقِ إِتَاوَةٌ ......... وفي كُلِّ ما بَاعَ امْرُؤٌ مَكْسُ دِرهمِ
والعثْيُ في الأَرْضِ أيضًا: السَرِقَةُ، وقَطْعُ الطَّريقِ، والغَارَةُ، وفائدَةُ الحالِ إِخْراجُ ما يُقْصَدُ بِهِ الإصْلاحُ كَما فَعَلَهُ الخَضِرُ ـ عَلَيْهِ السَّلامُ، مِنْ خَرْقِ السَفينَةِ، وقَتْلِ الغُلامِ، وقيلَ مَعْناهُ: وَلاَ تَعْثَوْاْ فِي الأَرْضِ مُفْسِدينَ أَمْرَ آخِرَتِكم ومَصالِحَ دِينِكم. وَالْمُرَادُ: النَّهْيُ عَنِ الْفَسَادِ كُلِّهِ، كَمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ: "فِي الْأَرْضِ" فالْمَقْصُودُ مِنْهُ التَعْمِيمُ لِيَشْمَلَ جميعَ أَمَاكِنِ الْفَسَادِ.
وَقَدْ حَصَلَ النَّهْيُ عَنِ الْأَعَمِّ بَعْدَ النَّهْيِ عَنِ الْعَامِّ، وَبِهِ حَصَلَتْ خَمْسَةُ مُؤَكِّدَاتٍ: بِالْأَمْرِ بَعْدَ النَّهْيِ عَنِ الْفَسَادِ الْخَاصِّ، ثُمَّ بِالتَّعْمِيمِ بَعْدَ التَّخْصِيصِ، ثُمَّ بِزِيَادَةِ التَّعْمِيمِ، ثُمَّ بِتَأْكِيدِ التَّعْمِيمِ الْأَعَمِّ بِتَعْمِيمِ الْمَكَانِ، ثُمَّ بِتَأْكِيدِهِ بِالْمُؤَكِّدِ اللَّفْظِيِّ. وَسَلَكَ فِي نَهْيِهِمْ عَنِ الْفَسَادِ مَسْلَكَ التَّدَرُّجِ فَابْتَدَأَهُ بنهيهم عَن نوح مِنَ الْفَسَادِ فَاشٍ فِيهِمْ وَهُوَ التَّطْفِيفُ. ثُمَّ ارْتَقَى فَنَهَاهُمْ عَنْ جِنْسِ ذَلِكَ النَّوْعِ وَهُوَ أَكْلُ أَمْوَالِ النَّاسِ. ثُمَّ ارْتَقَى فَنَهَاهُمْ عَنِ الْجِنْسِ الْأَعْلَى لِلْفَسَادِ الشَّامِلِ لِجَمِيعِ أَنْوَاعِ الْمَفَاسِدِ وَهُوَ الْإِفْسَادُ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُ. وَهَذَا مِنْ أَسَالِيبِ الْحِكْمَةِ فِي تَهْيِئَةِ النُّفُوسِ بِقَبُولِ الْإِرْشَادِ وَالْكَمَالِ.
قولُهُ تعالى: {وَيا قَوْمِ أَوْفُوا الْمِكْيالَ وَالْمِيزانَ بِالْقِسْطِ} الواوُ: للعطفِ، واليَاءُ: لنداءِ المتوسِّطِ بُعدُهُ، و "قَوْمِ" مُنادَى مُضافٌ مَنْصوبٌ، عَطْوفًا عَلى المُنادى الأَوَّلِ وعلامَةُ النَّصْبِ الفَتْحَةُ المُقَدَّرَةُ عَلى ما قبْلِ ياءِ المتكلِّمِ المَحْذوفَةِ للتَخْفيفِ، و "الياءُ" المَحذوفةُ ضميرٌ متَّصلٌ في محلِّ جرِّ مُضافٍ إِليْهِ، وجُمْلَةُ النِّداءِ معطوفة على جملةِ النداءِ في الآية التي قبلها على كونها في مَحَلِّ النَّصْبِ بالقولِ، ل "قَالَ". و "أَوْفُوا" فِعْلُ أَمْرٍ مَبْنِيٌّ عَلى حَذْفِ النُونِ لأَنَّ مُضَارِعَهُ مِنَ الأَفعالِ الخَمْسَةِ، وواوُ الجماعةِ ضميرٌ متَّصلٌ بِهِ مَبْنَيٌّ على السُّكونِ في محلِّ رفعِ فاعِلِهِ، والأَلِفُ الفارقةُ، و "الْمِكْيَالَ" مفعولٌ به منصوبٌ. و "الْمِيزَانَ" معطوفٌ عَلَيْهِ. و "بِالْقِسْطِ" الْبَاءُ حَرْفُ جَرٍّ لِلْمُلَابَسَةِ، مُتَعَلقٌ بِ "أَوْفُوا" فَيُفِيدُ أَنَّ الْإِيفَاءَ يُلَابِسُهُ الْقِسْطُ، و "القِسْطِ" مَجْرورٌ بحرفِ الجَرِّ، والجارُّ والمَجْرورُ في محلِّ النَّصْبِ على الحالِ مِنْ واوِ الضَّميرِ في "أَوْفُوا"، والجُمْلَةُ في مَحَلِّ النَّصْبِ بالقولِ ل "قَالَ" عَلَى كونِها جَوابَ النِّداءِ.
قولُهُ: {وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْياءَهُمْ} الواوُ عاطفة، و "لا" ناهيةٌ جازمةٌ و "تَبْخَسوا" فعلٌ مضارعٌ مجزومٌ ب "لا" الناهية، وعلامةُ جزمِهِ حذْفُ النُونِ منِ آخرهِ لأنَّهُ من الأفعالِ الْخَمْسَةِ، والواوُ الدالَّةُ على الجماعةِ ضميرٌ متَّصلٌ به مبنيٌّ على السكونِ في مَحَلِّ رَفْعِ فاعلِهِ، الألفُ الفارقةُ، و "النَّاسَ" مَفْعولٌ بِهِ أَوَّلُ مَنْصُوبٌ، و "أشياءَ" مفعولُهُ الثاني منصوبٌ بِهِ، وهو مضافٌ، و "هم" ضميرُ الغائبينَ متَّصلٌ به في محلِّ جرٍّ بالإضافةِ إليه، وَتَعْدِيَةُ "تَبْخَسُوا" إِلَى مَفْعُولَيْنِ بِاعْتِبَارِهِ ضِدَّ "أَعْطَى" فَهُوَ مِنْ بَابِ "كَسَا". والجُمْلَةُ مَعطوفَةٌ عَلى جُمْلِةِ "أَوْفُوا".
قولُهُ: {وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ} وَلَا تَعْثَوْا: مثلُ "ولا تبخسوا"، وَالْعَثْيُ: بِالْيَاءِ، مِنْ بَابِ سَعَى وَرَمَى وَرَضِيَ، وَبِالْوَاوِ كَ "دَعَا"، و "فِي الْأَرْضِ" جارٌّ ومجرورٌ مُتَعَلِّقٌ بِهِ. و ""مُفْسِدِينَ" حالٌ مُؤَكِّدَةٌ لِفاعِلِ "تَعْثَوْا" وهذه الجُمْلَةُ الفعليَّةُ في مَحَلِّ النَّصْبِ عَطْفًا على جُمْلَةِ "أَوْفُوا".