مُسَوَّمَةً عِنْدَ رَبِّكَ وَمَا هِيَ مِنَ الظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍ
(83)
قولُهُ ـ تعالى شأنُه: {مُسَوَّمَةً عِنْدَ رَبِّكَ} مُسَوَّمَةً: أَيْ مُعَلَّمَةً، مِنَ السِّيمَا وَهِيَ الْعَلَامَةُ. وَقِيلَ: مَكْتُوبٌ عَلَى كُلِّ حَجَرٍ اسْمُ مَنْ رُمِيَ بِهِ، وَكَانَتْ لَا تُشَاكِلُ حِجَارَةَ الأَرْضِ. وقالَ الفرَّاءُ: زَعَمُوا أَنَّها كانَتْ بِحُمْرَةٍ وَسَوَادٍ فِي بَيَاضٍ، فَذَلِكَ تَسْوِيمُهَا. وَقَالَ كَعْبٌ: كَانَتْ مُعَلَّمَةً بِبَيَاضٍ وَحُمْرَةٍ، وَالسيماءُ العلامةُ ومِنْ ذلك قَولُ الشَّاعِرِ أُسَيْدِ بْنِ عَنْقاءَ الفَزَارِيِّ يَمْدَحُ عُمَيْلَةَ حِينَ قَاسَمَهُ مالَهُ:
غُلَامٌ رَمَاهُ اللهُ بِالْحُسْنِ يَافِعًا ........... لَهُ سِيمِيَاءُ لَا تَشُقُّ عَلَى الْبَصَرْ
وللبيت مناسبةً رفيعة وقصيدةٌ بديعةٌ ذكرها أبو عليٍّ القالي في أَمالِيهِ نُثْبِتُهما لما فيهما مِنْ فائدةِ وجمالٍ. فقد كانَ ابْنُ عَنْقاءَ مِنْ أَكْثَرِ أَهْلِ زَمانِهِ وأَشَدِّهم عارِضَةً ولِسانًا، وَطَالَ عُمُرُهُ، ونَكَبَهُ دَهْرُهُ، فاخْتَلَّتْ حالُهُ، فَمَرَّ عُمَيْلَةُ بْنُ كِلْدَةَ الفَزَارِيُّ، وهوَ غُلامٌ جميلٌ مِنْ ساداتِ فَزَارَةَ، فَسَلَّمَ عَلَيْهِ وقالَ: يا عَمُّ، ما أَصارَكَ إلى ما أَرْدى؟ فقالَ: بُخْلُ مِثْلِكَ بِمالِهِ، وصَوْني وَجْهِي عَنْ مَسْأَلَةِ النَّاسِ! فقالَ واللهِ لَئِنْ بَقيتُ إلى غَدٍ لأُغَيِّرَنَّ ما أَرْدَى مِنْ حالِكَ. فرَجَعَ ابْنُ عَنْقاءَ فَأَخْبَرَ أَهْلَهُ، فقالتْ: لقدْ غَرَّكَ كلامُ جُنْحِ لَيْلٍ!! فباتَ مُتَمَلْمِلًا بِيْنَ اليَأْسِ والرَّجاءِ. فلَمَّا كانَ السَّحَرُ، سَمِعَ رُغاءَ الإبِلِ، وثُغاءَ الشاءِ وصَهيلَ الخَيْلِ، ولَجَبَ الأَمْوالِ، فقالَ: ما هذا؟ فقالَ: هذا عُمَيْلَةُ ساقَ إِلَيْكَ مَالَهُ! ثمَّ قَسَمَ عُمَيْلَةُ مَالَهُ شَطْرَيْنِ وساهَمَهُ عَلَيْهِ، فقالَ ابْنُ عَنْقاءَ فِيهِ يُمَجِّدُهُ:
رَآنِي عَلَى مَا بِي عُمَيْلَةُ فَاشْتَكَى ........ إِلَى مَالِهِ حَالي أَسَرَّ كَمَا جَهَرْ
دَعَانِي فآسَانِي وَلَوْ ضَنَّ لَمْ أَلُمْ ..... عَلَى حِينَ لاَ بَدْوٌ يُرجَّى ولا حَضَرْ
فَقُلْتُ لَهُ خيرًا وأَثْنَيْتُ فِعْلَهُ ........ وَأَوْفَاكَ مَا أَبْلَيْتَ مَنْ ذَمَّ أَوْ شَكَرْ
غُلاَمٌ رَمَاهُ الله بِالخَيْرِ يافِعًا ............. لَهُ سِيمِيَاءُ لا تَشُقُّ عَلَى البَصَرْ
كَأَنَّ الثُريَّا عُلِّقَتْ في جَبِينِهِ ...... وَفِي خَدِّهِ الشِّعْرَي وَفِي وَجْهِهِ القَمَرْ
إذا قِيلَتِ العَوْرَاءُ أَغْضَى كَأَنّهُ ........... ذَلِيلٌ بِلاَ ذُلّ وَلَوْ شَاءَ لاَنْتَصَرْ
كَرِيمٌ نَمَتْهُ لِلمكَارِمِ حُرَّةٌ ............... فَجَاءَ وَلاَ بُخْلٌ لَدَيْهِ ولا حَصَرْ
وَلَمَّا رَأَى المَجْدَ استُعيرت ثِيَابُه ......... تَرَدَّى رِدَاءً وَاسِعَ الذَّيْلِ وَاتَّزَرْ
فالْمُسَوَّمَةُ: الَّتِي لَهَا سِيمَا، وَهِيَ الْعَلَامَةُ. وَالْعَلَامَاتُ تُوضَعُ لِأَغْرَاضٍ، مِنْهَا عَدَمُ الِاشْتِبَاهِ، وَمِنْهَا سُهُولَةُ الْإِحْضَارِ، وَهُوَ هُنَا مُكَنَّى بِهِ عَنِ الْمُعَدَّةِ الْمُهَيَّئَةِ لِأَنَّ الْإِعْدَادَ مِنْ لَوَازِمَ التَّوْسِيمِ بِقَرِينَةِ قَوْلِهِ: عِنْدَ رَبِّكَ لِأَنَّ تَسْوِيمَهَا عِنْدَ اللهِ هُوَ تَقْدِيرُهُ إِيَّاهَا لَهُمْ. فقد كانت الحِجارةُ التي أُهْلِكوا بِها مُعَلَّمَةٌ ومُدَوَّنٌ عَلى كُلِّ واحدَةٍ مِنْها اسْمُ الشَّخْصِ الذي سَوْفَ تُهْلِكُهُ، فهي تُخْطِئُهُ البَتَّةَ. وما زَالَتِ الحياةُ تُطالِعُنا كُلَّ يَوْمٍ بجديدٍ مِنَ المُكْتَشَفاتِ والمُخْتَرَعاتِ، مِمَّا عَلَّمَ اللهُ الإنْسَانَ، وما أودَعَ فيه مِنْ عَقلٍ وما أَمدَّهُ بِهِ مِنْ سُلْطانٍ، لكنَّه حَرَفَ هذا العقْلَ عَنْ وُجْهَتِهِ، وسخَّرَ علمَهُ في مضرَّتِه فاخترعَ ما يُسَمَّى بالقَنَابِلِ الذَّكِيَّةِ والصَواريخِ المُوَجَّهَةِ كالتي يُطْلِقُها الرُّوسُ عَلَيْنَا اليومَ، والتي يُحَمِّلونَ عَلَيْها صُورَةَ المَكانِ الذي يريدون تدميرَهُ، ويُطلقونَها فإذا تَطَابَقَتْ صُورةُ الهدفِ على الأرضِ مَعَ الصُورَةِ التي حُمِّلَتْها ضَرَبَتِ الهَدَفَ فدَمَّرَتْهُ، وإذا لم تجِدْ هدفها صَعِدَتْ فانْفَجَرَتْ في الفَضَاءِ، فهيَ لا تَضْرِبُ غيرَ الهَدَفِ الذي زُوِّدَتْ بِصُورَتِهِ، وللهِ المَثَلُ الأَعْلى، إذْ أَنَّ قَنَابِلَ البَشَرِ وصواريخَهم قد تُخدعُ ويموَّهُ عليها الهدفُ، ومِنْ ثَمَّ فإنَّ لَهَا مَدًى مَحْدودًا أَمَّا حجارةُ اللهِ ـ تَبَارَكَ وتَعالى التي رَجَمَ بِها قوم لوطٍ فإنَّ عليْها اسْمَ الشَّخْصِ الذي كُلِّفَتْ بِهَلاكِهِ فَلا تُخْطِئُهُ البَتَّةَ، وتَطَالُهُ أَيْنَما كانَ وحَيْثُما ذَهَبَ فلا تُصيبَ غَيْرَهُ أَبَدًا، ولقدْ ذَكَرَ المُفَسِّرونَ أَنَّ رَجُلًا مِنْ قَوْمِ لُوْطٍ ـ عليه السلامُ، كانَ يَتَّجِرُ في مَكَّةَ المكرَّمةَ، فلَمَّا اتَّجَهَ الحَجَرُ المُوكَلُ بِهِ، لِيُهْلِكَهُ أَوْقَفَهُ المَلائِكَةُ ومَنَعُوهُ مراعاةً لحُرْمَةِ الحرمِ الذي أمرَ اللهُ تعالى بحُرمتِهِ، فانتظر الحَجَرُ الرَّجُلَ حَتَّى قَضَى تِجارَتَهُ وغادَرَ الحَرَمَ الشَّريفَ فلَحِقِ بِهِ وقَضى عَلَيْهِ. فقد أَخْرَجَ إِسْحَقُ بْنُ بِشْرٍ وَابْنُ عَسَاكِرَ عَنْ مُجَاهِدٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، أَنَّه سُئِلَ هَلْ بَقِيَ مِنْ قومِ لُوْطٍ أَحَدٌ؟ فقَالَ: لَا إِلَّا رَجُلٌ بَقِي أَرْبَعِينَ يَوْمًا، كَانَ تَاجِرًا بِمَكَّةَ فَجَاءَهُ حَجَرٌ لِيُصيبَهُ فِي الْحَرَمِ، فَقَامَتْ إِلَيْهِ مَلَائِكَة الْحَرَمِ، فَقَالُوا للحَجَرِ ارْجِعْ مِنْ حَيْثُ جِئْتَ فَإِنَّ الرَّجُلَ فِي حَرَمِ اللهِ. فَرَجَعَ الْحَجَرُ فَوَقَفَ خَارِجًا مِنَ الْحَرَمِ أَرْبَعِينَ يَوْمًا بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ حَتَّى قَضَى الرَّجُلُ تِجَارَتَه فَلَمَّا خَرَجَ أَصَابَهُ الْحَجَرُ خَارِجًا مِنَ الْحَرَمِ.
وَالسَّومُ: العلامةُ، الوَسْمُ أثَرُ الكَيِّ. ووسَمْتُهُ أسِمهُ وَسْمًا وسِمَةً، إذا أَثَّرْتُ فيه بِسِمَةٍ وكَيٍّ. والجمعُ وُسُومٌ، وَسْماً وَسِمَةً فاتَّسَمَ. والوِسامُ والسِّمَةُ، بكسرِهِما ما وُسِمَ به الحَيَوانُ من ضُروبِ الصًّوَرِ. والمِيسَمُ، بكسرِ المَيسَمِ آلةُ الوسمِ كالْمِكْواةُ وغيرها والجمع مَواسِمُ ومَياسِمُ. قال تعالى في سورة في سورة القَلَمِ: {سَنَسِمُهُ عَلَى الْخُرْطُومِ} الآية: 16. وأَخْرَجَ الْفرْيَابِيُّ، وَابْنُ جَريرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبي حَاتِمٍ، وَأَبُو الشَّيْخِ عَنْ مُجَاهِدٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، فِي قَوْلِهِ: "مُسَوَّمَةً" قَالَ: مُعَلَّمَةً.
وأَخْرَجَ ابْنُ أَبي حَاتِم وَأَبُو الشَّيْخ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا، فِي قَوْلِهِ تعالى: "مُسَوَّمَةً" قَالَ: السَّوْمُ بَيَاضٌ فِي حُمْرَةٍ. ولا تَنَاقُضَ بينَ القولينِ، فإنَّ الأَوَّلَ تَفْسيرٌ، والثاني وصفٌ. واللهُ أعلم. وَكذلك قولُ ابْنِ جريجِ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، فيما أَخْرَجَ عَنْهُ أَبُو الشَّيْخ أنَّهُ قَالَ: حِجَارَة مُسَوَّمَةٌ لَا تُشاكِلُ حِجَارَةَ الأَرْضِ. وَما أَخْرَجَ ابْنُ جريرٍ، وَابْنُ أَبي حَاتِمٍ، وَأَبُو الشَّيْخِ عَنِ الرَّبيعِ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، فِي قَوْلِهِ: "مُسَوَّمَةً" قَالَ: عَلَيْهَا سِيمَا، خطوطٌ صفر. وَأَخرجَ عبدُ الرَّزَّاقِ، وَابْنُ جَريرٍ، وَأَبُو الشَّيْخِ، عَنْ قَتَادَةَ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهَ، "مُسَوَّمَةً" مُطَوَّقَة بهَا نُصحٌ مِنْ حُمْرَة. وكلُّ هذِهِ الأَقوالِ وَصْفٌ للوَسْمِ، وهوَ: العلامةُ.
قولُهُ: {وَمَا هِيَ مِنَ الظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍ} تَهْديدٌ لِمُشْرِكِيْ قُرَيْشٍ ووَعيدٌ، بأَنَّ مِثْلَ هذِهِ الحِجَارَةٍ التِي أَهْلَكَ اللهُ بِهَا قَوْمَ لُوطٍ مُعَدٌّ وَجَاهِزٌ، بِأَمْرِ اللهِ تَعَالَى، لإهْلاَكِ الظَّالِمِينَ الفَجَرَةِ، وَهُمْ لَيْسُوا بِنَجْوَةٍ مِنْهَا. فالضَمِيرُ في "وَما هِيَ" يَعُودُ إِلَى الْحِجَارَةِ، أَيْ وَمَا تِلْكَ الْحِجَارَةُ بِبَعِيدٍ، أَيْ أَنَّ اللهَ تعالى قَادِرٌ عَلَى أَنْ يَرْمِيَ الْمُشْرِكِينَ بِمِثْلِهَا. يؤيِّدُ ذلكَ مَا أَخْرَجَ ابْنْ جَريرٍ الطَبَرِيُّ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبي حَاتِمٍ، وَأَبُو الشَّيْخِ، عَنْ مُجَاهِد ـ رَضِيَ اللهُ عَنهُ، فِي قَوْلِهِ تعالى: "وَمَا هِيَ من الظَّالِمين بِبَعِيد" قَالَ: يُرْهِبُ بهَا قُريْشًا أَنْ يُصيبَهم مَا أَصَابَ الْقَوْم. وَأَخْرَجَ ابْنُ أبي حَاتِم عَنِ السُّدِّيِّ ـ رَضِيَ اللهُ عَنهُ: "وَمَا هِيَ من الظَّالِمين بِبَعِيد" يَقُول: مِنْ ظَلَمَة الْعَرَبِ إِنْ لم يُؤمنُوا أَنْ يُعذَّبوا بهَا. ويَعُمُّ التهديدُ ويمتدُّ لِيَشْمَلَ كلَّ ظالم في كلِّ زمانٍ ومكانٍ فقد أَخْرَجَ ابْنُ أبي حَاتِم وَأَبُو الشَّيْخ عَن الرّبيع ـ رَضِيَ اللهُ عنه، فِي الْآيَة، قَالَ: كُلُّ ظَالِم فِيمَا سَمِعْنَا قد جُعِلَ بِحِذائِهِ حَجَرٌ يَنْتَظِرُ مَتَى يُؤمَرُ أَنْ يَقَعَ بِهِ، فَخَوَّفَ الظَلَمَةَ فَقَالَ: "وَمَا هِيَ مِنَ الظَّالِمينَ بِبَعِيدٍ". ورُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ فيما ذَكَرَ القُرْطُبِيُّ وغيرُهُ من الأئمَّةِ أَنَّهُ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: ((سَيَكُونُ فِي آخِرِ أُمَّتِي قَوْمٌ يَكْتَفِي رِجَالُهُمْ بِالرِّجَالِ وَنِسَاؤُهُمْ بِالنِّسَاءِ فَإِذَا كَانَ ذَلِكَ فَارْتَقِبُوا عَذَابَ قَوْمِ لُوطٍ أَنْ يُرْسِلَ اللهُ عَلَيْهِمْ حِجَارَةً مِنْ سِجِّيلٍ))، ثُمَّ تَلَا رَسُولُ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "وَما هِيَ مِنَ الظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍ". وَفِي رِوَايَةٍ عَنْهُ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّم: ((لَا تَذْهَبُ اللَّيَالِي وَالْأَيَّامُ حَتَّى تَسْتَحِلَّ هَذِهِ الْأُمَّةُ أَدْبَارَ الرِّجَالِ كَمَا اسْتَحَلُّوا أَدْبَارَ النِّسَاءِ فَتُصِيبُ طَوَائِفَ مِنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ حِجَارَةٌ مِنْ رَبِّكَ)). وَأَخْرَجَ ابْنُ جريرٍ، وَابْنُ أَبي حَاتِم، وَأَبُو الشَّيْخ، عَنْ قَتَادَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: "وَمَا هِيَ من الظَّالِمين بِبَعِيد" قَالَ: مِنْ ظَالِمي هَذِهِ الْأُمَّةِ، ثمَّ يَقُول: وَاللهِ مَا أَجَارَ اللهُ مِنْهَا ظَالِمًا بَعْدُ.
وقد تتعدَّدُ أواعُ الحجارةِ ولكنَّ العذابَ واحدٌ، فقد أَخْرَجَ ابْنُ أَبي الدُّنْيَا فِي (ذَمِّ المَلاهِي)، وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَالْبَيْهَقِيُّ فِي (شُعَبِ الْإِيمَانِ) عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْمُنْكَدِرِ، وَيزِيدِ بْنِ حَفْصَةَ، وَصَفوَانَ بْنِ سليمٍ، أَنَّ خَالِدَ بْنَ الْوَلِيدِ كَتَبَ إِلَى أَبي بَكْرٍ الصِّديقِ ـ رَضِيَ اللهُ عَنهُما، أَنَّهُ قَدْ وَجَدَ رَجُلاً فِي بَعْضِ نَواحي الْعَرَبِ يُنْكَحُ كَمَا كَانَتْ تُنْكَحُ الْمَرْأَةُ، وَقَامَتْ عَلَيْهِ بِذَلِكَ الْبَيِّنَةُ، فَاسْتَشَارَ أَبُو بَكْرِ ـ رَضِيَ اللهُ عنهُ، أَصْحَابَ رَسُولِ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبي طَالِبٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: إِنَّ هَذَا ذَنْبٌ لَمْ يَعْصِ اللهَ بِهِ أُمَّةٌ مِنَ الْأُمَمِ إِلَّا أُمَّةٌ وَاحِدَةٌ، فَصَنَعَ اللهُ بِهَا مَا قَدْ عَلِمْتُمْ، أَرَى أَنْ تُحْرِقَهُ بالنَّارِ. فَاجْتَمَعَ أَصْحَابُ النَّبِيِّ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، عَلى أَنْ يَحْرِقوهُ بالنَّارِ. فَكَتَبَ أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، إِلَى خَالِدٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ أَنِ احْرِقْهُ بالنَّارِ. ثمَّ حَرَقَهُمُ ابْنُ الزُبَيْرِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ فِي إِمارَتِهِ، ثُمَّ حَرَقَهُم هِشَامُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكَ.
وَأخرجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْ رَبيعَةَ بْنِ أَبي عَبْدِ الرَّحْمَنِ الرَّأْي قَالَ: عَذَّبَ اللهُ قومَ لُوطٍ فَرَمَاهُمْ بحِجارَةٍ مِنْ سِجِّيلٍ، فَلَا تُرْفَعُ تِلْكَ الْعقُوبَةُ عَمَّنْ عَمِلَ كعَمَلِ قَوْمِ لُوطٍ. ومِنْ هَذا القَبيلِ سُحاقُ النِّساءِ زِنًى بَيْنَهُنَّ. ورُوِيَ أَنَّ سُلَيْمانَ ـ عَلَيْهِ السَّلامُ، قالَ لإبْليسَ: أَيُّ الأَعْمالِ أَحَبُّ إِلَيْكَ، وأَبْغَضُ إلى اللهِ؟ قالَ: لَوْلا مَنْزِلَتُكَ عِنْدَ اللهِ مَا أَخْبَرْتُكَ، إنّي لَسْتُ أَعْلَمُ شَيْئًا أَحَبَّ إليَّ وَأَبْغَضَ إلى اللهِ مِنِ اسْتِغْناءِ الرَّجُلِ بالرَّجُلِ، والمَرْأَةِ بالمَرْأَةِ، وَأَوَّلُ مَنْ عَلَّمَ النِّساءَ السُّحاقَ بِنْتُ إِبْليسَ، وتُسَمَّى الدلهان، رَأَتِ الرِّجالَ قَدِ اسْتَغْنَوْا بالرِّجالِ فجاءَتْ إلى النِّساءِ في صورةِ امْرَأَةٍ وشَهَّتْ إِلَيهِنَّ رُكُوبَ بَعْضِهِنَّ عَلى بَعْضِهِنَّ وعَلَّمَتْهُنَّ كَيْفَ يَصْنَعْنَ قالَهُ الثَّعْلَبِيُّ. وذكر النُوَيْرِيُّ في (نهايَةِ الأَرَبِ في فُنُونِ الأَدَبِ) له، عنِ الكِسائيِّ: قالَ كَعْبُ: إنَّ أَصْحابَ الرَسِّ كانوا بِحَضْرَمَوْتَ، وكانُوا كَثيرًا، فَبَنَوْا هُناكَ مَدينَةً كانَتْ أَرْبَعينَ مِيلًا في مِثْلِ ذَلِكَ، فاحْتَفَروا لَها القَنَواتِ مِنْ تَحْتِ الأَرْضِ، وسَمُّوها رَسًّا، وكانَ ذَلِكَ أَيْضًا اسْمَ مَلِكِهِمْ، فَأَقامُوا في بَلَدِهم دَهْرًا طَويلًا يَعْبُدونَ اللهَ تَعالى حَقَّ عِبادَتِهِ؛ ثمَّ تَغَيَّرُوا عَنْ ذَلِكَ، وعَبَدُوا الأَصْنَامَ، وكانَ مِمَّا أَحْدَثوهُ إتيانُ النِّساءِ في أَدْبارِهِنَّ، والمُبادَلَةُ بِهِنَّ، فَكانَ كُلٌّ مِنْهُمْ يَبْعَثُ بِامْرَأَتِهِ إِلى الآخَرِ، فَشَقَّ ذَلِكَ عَلى النِّساءِ، فأَتَاهُنَّ إِبْلِيسُ في صُورَةِ امْرَأَةٍ، وعَلَّمَهُنَّ السُّحاقَ فَفَعَلْنَهُ، وهُمْ أَوَّلُ مَنْ أَتى النِّساءَ في أَدْبارِهِنَّ وساحَقَ؛ فاشْتُهِرَتْ هذِهِ القَبَائحُ فيهِمْ. فبَعَثَ اللهُ إِلَيْهِمْ رَسُولًا اسْمُهُ حَنْظَلَةُ، وقيلَ: خالدُ بْنُ سِنَان. وقيلَ: ابْنُ صَفْوان. فدَعَاهمْ إلى طاعَةِ اللهِ، ونَهاهُمْ عَنْ عِبادَةِ الأَصْنَامِ، وفِعْلِ القَبَائِحِ، وحَذَّرَهمْ، وذَكَّرَهمْ مَا حَلَّ بِمَنْ قَبْلَهم مِنَ الأُمَمِ، فَكَذَّبُوهُ، فَوَعَظَهُمْ دَهْرًا طَويلًا، وهم لا يَرْجِعون، فَضَرَبَهُمُ اللهُ بالقَحْطِ، فَقَتَلُوا نَبِيَّهُمْ وأَحْرَقوهُ بالنَّارِ؛ فصاحَ بِهِمْ جِبْريلُ صَيْحَةً، فصاروا حِجارَةً سُودًا، وخُسِفَتْ مَدينَتُهم.
قالَ بعضُ الشافِعِيَّةِ: إذا كانتِ المَرْأَةُ تَميلُ إلى النِّساءِ، وخافَتْ مِنَ النَّظَرِ إلى وَجْهِ المَرْأَةِ وكَفَّيْها الفِتْنَةَ، لَمْ يَجُزْ لَها النَّظَرُ، كَما في الرَّجُلِ مَعَ الرَّجُلِ. قال غلإمامُ الأذْرَعِيُّ: وهذا مِمّا يُبْتَلى بِهِ ذَواتُ السُّحاقِ.
وقالَ الإمامُ البَغَوِيُّ: في الآيَةِ دَليلٌ أَنَّ الاسْتِمْناءَ باليَدِ حَرَامٌ، وهوَ قوْلُ العُلَماءِ.
وقالَ ابْنُ جُريجٍ: سَألتُ عَطاءَ عَنْهُ فقالَ: بَلَغَني عَنْ رَسُولِ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ: ((أَنَّ قومًا يُحْشَرونَ وأَيديهم حَبالى)) وأَظُنُّهم هؤلاءِ.
وعن سَعيدِ بْنِ جُبَيْرٍ ـ رضي اللهُ عنهُ: عَذَّبَ اللهُ أُمَّةً كانُوا يَعْبثونَ بِمَذاكِيرِهم.
ويَصْلُحُ هذا الضميرُ "هي" لِأَنْ يَعُودَ أيضًا إِلَى مَا عَادَتْ إِلَيْهِ الضَّمَائِرُ الْمَجْرُورَةُ قَبْلَهُ وَهِيَ الْمَدِينَةُ، فَيَكُونُ الْمَعْنَى وَمَا تِلْكَ الْقرْيَة بِبَعِيد مِنَ الْمُشْرِكِينَ، أَيِ الْعَرَبِ، فَمَنْ شَاءَ فَلْيَذْهَبْ إِلَيْهَا فَيَنْظُرُ مَصِيرَهَا، فَالْمُرَادُ إذًا هو الْبُعْدُ الْمَكَانِيُّ. والغايةُ العِبْرَةُ والعِظَةُ. واللهُ أعلمُ بمرادِهِ.
قولُهُ تعالى: {مُسَوَّمَةً عِنْدَ رَبِّكَ} مُسَوَّمَةً: مَنْصُوبٌ على الحَالِ مِنْ "حِجَارَةً". وقيلَ: نَعْتٌ لها، وحينئذٍ يَلْزَمُ تَقَدُّمُ الوَصْفِ غَيْرِ الصَّريحِ على الصَريحِ، لأَنَّ {مِنْ سِجِّيلٍ} صِفَةٌ لِ {حِجَارة}، والأَوْلى أَنْ يُجْعَلَ حالًا مِنها، وسَوَّغَ مَجِيئَها مِنَ النَّكِرَةِ تَخَصُّصُ النَّكِرَةِ بالوَصْفِ. و "عِنْدَ" منصوبٌ على الظَرفيَّةِ المكانيَّةِ، مُتَعَلِّقٌ بِ "مُسَوَّمَةً"، وهو مُضَافٌ، و "رَبِّكَ" ربِّ: لفظُ الربوبِيَّةِ مَجْرورٌ بالإضافةِ إِلَيْهِ وهو مُضافٌ أَيْضًا، و "كَ" كافُ الخِطابِ ضَميرٌ مُتَّصِلٌ بِهِ مبنيٌّ على الفتحِ في مَحَلِّ الجَرِّ بالإضافَةِ إِلَيْهِ.
قولُهُ: {وَمَا هِيَ مِنَ الظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍ} الواوُ: حرفُ عَطفٍ، أَوْ حالِيَّةٌ، أَوْ اسْتِئْنافِيَّةٌ. و "ما" حِجَازِيَّةٌ، أَوْ تَميمِيَّةٌ. و "هِيَ" ضميرٌ منفصلٌ في محلِّ رفعِ اسْمِها، إنْ أُعْرِبتْ "ما" حِجَازِيَّةً، أَوْ في مَحَلِّ رَفْعِ مُبْتَدَأٍ، إنْ أعربتْ "ما" تَمِيميَّةً. و "مِنَ" حرفُ جرٍّ مُتَعَلِّقٌ ب "بَعِيدٍ"، و "الظَّالِمِينَ" مجرورٌ بحرفِ الجرِّ، وعلامةُ جرِّهِ الياءُ لأنَّهُ جمعُ المذكَّرِ السالمِ. و "بِبَعِيدٍ" الباءُ حرفُ جرٍّ زائدٌ، و "بعيدٍ" مجرورٌ بحرف الجرِّ الزائدِ لفظًا، منصوبٌ محلًا خبرًا ل "ما" الحجازيَّةِ، أو مَرفوعٌ محلًا خَبَرًا لها إنْ أُعْربتْ تميميَّةً، والجُمْلَةُ الاسْمِيَّةُ في محلِّ النَّصبِ على الحالِ مِنَ {حِجَارَةً} ويجوزُ أن تُعْطَفَ عَلى جُمْلَةِ {أَمْطَرْنا} على كِوْنِها جوابًا لِشَرْطِ "لَمَّا" ويجوزُ أنْ تُعْرَبَ مُسْتَأْنَفَةً، وفي هذين الحالين الأخيرينِ لا يكونُ لها مَحَلٌّ مِنَ الإعرابِ.
ولَمْ يُؤَنِّثْ "بَعيد" تبعًا ل "هي" مع أنَّ الشَّأْنَ أَنْ تُطَابِقَ الصفةُ مَوْصُوفَها فِي تَأْنِيثِهِ، إمَّا لأنَّهُ في الأَصْلِ نَعْتٌ لِمَكَانٍ محْذوفٍ تَقْديرُهُ: وما هِيَ بِمَكانٍ بَعيدٍ، بَلْ هوَ قَريبٌ، والمُرادُ بِهِ السَّماءُ، أَوْ القُرَى المُهْلَكَةُ، وإمَّا لأَنَّ المرادَ ب "هي" العُقوبَةُ والعِقابُ وهما واحِدٌ، وإمَّا لِتَأْويلِ "الحِجارَةِ" بِ "عذابٍ" أَوْ بِشَيْءٍ بَعيدٍ. وَالْعَرَبُ قَدْ يُجْرُونَ فَعِيلًا الَّذِي بِمَعْنَى فَاعِلٍ مَجْرَى الَّذِي بِمَعْنَى مَفْعُولٍ إِذَا جَرَى عَلَى مُؤَنَّثٍ غَيْرِ حَقِيقِيِّ التَّأْنِيثِ زِيَادَةً فِي التَّخْفِيفِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى فِي سُورَةِ الْأَعْرَاف: {إِنَّ رَحْمَتَ اللهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ} الآية: 56. وَكقَوْلِهِ في سورة الأحزابِ: {وَما يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ تَكُونُ قَرِيبًا} الْآية: 63. وَكقَوْلِهِ في سورة يس: {قالَ مَنْ يُحْيِ الْعِظامَ وَهِيَ رَمِيمٌ} الآيَة: 78. وَقِيلَ: إِنَّ قَوْلَهُ: {وَما كانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا} سورة مَرْيَم، الآية: 28. هو مِنْ هَذَا الْقَبِيلِ، أَيْ بَاغِيَةٌ. وَقِيلَ: أَصْلُهُ "فَعُولٌ" أي: "بَغُويٌ" فَوَقَعَ إِبْدَالٌ وَإِدْغَامٌ. وَتَأَوَّلَ الزَّمَخْشَرِيُّ مَا هُنَا عَلَى أَنَّهُ صِفَةٌ لِمَحْذُوفٍ، أَيْ بِمَكَانٍ بَعِيدٍ، أَوْ بِشَيْءٍ بَعيدٍ عَنِ الِاحْتِمَالَيْنِ فِي مُعَادِ ضَمِيرِ هِيَ.