قَالُوا لَقَدْ عَلِمْتَ مَا لَنَا فِي بَنَاتِكَ مِنْ حَقٍّ وَإِنَّكَ لَتَعْلَمُ مَا نُرِيدُ
(79)
قولُهُ ـ تعالى شأنُهُ: {قَالُوا لَقَدْ عَلِمْتَ مَا لَنَا فِي بَنَاتِكَ مِنْ حَقٍّ} أُكِّدَ بِتَنْزِيلِهِ مَنْزِلَةَ مَنْ يُنْكِرُ أَنَّهُ يَعْلَمُ لِأَنَّ حَالَهُ فِي عَرْضِهِ بَنَاتِهِ عَلَيْهِمْ كَحَالِ مَنْ لَا يَعْلَمُ خُلُقَهُمْ، والمعنى: قَالُوا لِلُوطٍ ـ عَلَيْهِ السَّلامُ: لقد عَلِمْتَ ما لَنَا مِنْ حَقِّ الاسْتِمتاعِ في أزواجِنا اللائي تُسَمِّيهِنَّ بَنَاتِكَ، وإِنَّكَ تَعْلَمُ عزوفنا عن ذلك لأننا لا نَشْتَهيهِنَّ فلاَ أَرَبَ لَنَا فِي النِّسَاءِ. أوْ لقد علمتَ أنَّه لا حَقَّ لنا في نكاحِ بناتِكَ؛ لأنَّكَ لا تُنْكِحُهُنَّ ولا تُزوِّجُ بِهَنَّ إلَّا مَنْ كانَ مُؤْمِنًا على دينكَ، ونَحنُ لسنا كذلك ولن نؤمنَ أَبدًا ولنْ نتبِّعَكَ على دينِك. وهذا الوجهُ مدفوعٌ بأنَّ زواجَ المؤمنةِ بالكافرٍ لم يَكُنْ محرَّمًا بعدُ، فقد كَانَ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ، تَزْوِيجُ الْمُسْلِمَةِ مِنَ الْكَافِرِ جَائِزًا وقد زَوَّجَ النَّبِيُّ محمدٌ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ ابْنَتَهُ رُقيَّةَ ـ رضيَ اللهُ عنها، مِنْ ابنِ عَمِّهِ عُتْبَةَ بْنِ أَبِي لَهَبٍ، وَزوَّجَ ابنتهُ زينبَ ـ رضي اللهُ عنها، مِنْ أَبِي العاصِ بْنِ الرَّبِيعِ وذلك قَبْلَ الْوَحْيِ، وَكَانَا كَافِرَيْنِ، فلَمَّا دَعَا قُرَيْشًا إلى أَمْرَيْنِ، قالَ بَعْضُهم لِبَعْضٍ: قدَ فَرَّغْتُمْ محمَّدًا مِنْ هَمِّهِ بِبَناتِهِ فَرُدُّوهُنَّ عَلَيْهِ فَمَشَوْا إلى أَبي العَاصِ فأَبَى عَلَيْهِمْ، ثمَّ مَشَوْا إلى عُتْبَةَ بِنِ أَبي لَهَبٍ ففارَقَ رُقَيَّةَ، وزَوَّجوهُ بِنْتَ سَعيدِ بْنِ العاصِ، فتَزَوَّجَ رقيَّةَ بعدهُ عُثْمَانُ بْنُ عَفَّانٍ ـ رضي اللهُ عنهما. ورَوى البَيْهَقِيُّ في (دلائلِ النبوَّةِ) مِنْ طَريقِ قَتَادَةَ ـ رضي اللهُ عنهُ، أَنَّ النَّبِيَّ ـ صَلَّى اللهُ عليه وسَلَّمَ، زوَّجَ ابْنَتَهُ أُمَّ كُلْثُومٍ ـ رضي اللهُ عنها، مِنْ ابْنِ عمِّهِ عُتْبَةَ بْنِ أَبي لَهَبٍ، وزوَّجَ أخاهُ رُقَيَّةَ ـ رَضِيَ اللهُ عنها، فلمَّا جاءَ الإسْلامُ أَمَرَ أَبُو لَهَبٍ ولَدَيْهِ فطَلَّقا بِنْتَيْ رسولِ اللهِ نِكايةً بِهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ. ثمَّ نَزَلَ التَحْريمُ بَعْدَ ذَلِكَ. فالْحَقُّ: هُنَا الْحَاجَةُ وَالْأَرَبُ، وَالْحَقُّ: مَا يَحِقُّ، لِأَحَدٍ أَوْ عَلَيْهِ، أَيْ يَجِبُ، فَيُقَالُ: لَهُ حَقٌّ فِي كَذَا، إِذَا كَانَ مُسْتَحِقًّا لَهُ، وعليهُ حقٌّ كذا وكذا إذا كانَ مستحقًّا عليه. وَيُقَالُ: مَا لَهُ حَقٌّ فِي كَذَا، بِمَعْنَى لَا يَسْتَحِقُّهُ، فَأُطْلِقَ هُنَا كِنَايَةً عَنْ عَدَمِ التَّعَلُّقِ بِالشَّيْءِ وَعَنِ التَّجَافِي عَنْهُ، وَقد تحيّر الْمُفَسِّرُونَ فِي تَقْرِيرِهِ. وَالْمَقْصودُ: ليس لَنَا رَغْبَةٌ فِي بَنَاتِكَ.
قولُهُ: {وَإِنَّكَ لَتَعْلَمُ مَا نُرِيدُ} أخرجَ الطبريُّ عنِ السُدِّيِّ ـ رضي اللهُ عنهما: "وإنَّكَ لَتَعْلَمُ مَا نُريدُ"، إِنَّا نُريدُ الرِّجالَ. أيْ: وَإِنَّكَ لَتَعْلَمُ أَنَّهُ لاَ غَرَضَ لَنَا، وَلاَ هَوًى، إِلاَّ فِي الذُّكُورِ، فلا نشتهي سواهم، وَهُوَ مَا جِئْنَا نَسْعَى إِلَيْهِ عِنْدَكَ، فَلا فَائِدَةَ مِنْ تِكْرَارِ هذِهِ الأَقْوَالِ عَلَينا. إذًا فقد أجمعوا أمرهم، على فِعْلِ ما يُريدونَ مِنْ فاحِشَةٍ، وأَصَرُّوا على ذلك، ولم يَنْفَعْهم نُصْحُ نبيِّهم ـ عليه السلامُ، فاسْتَحَقُّوا عذابَ اللهِ أَنْ يَنْزَلَ بهم مُصْبِحينَ، ولا حولَ ولا قوَّةَ إلَّا باللهِ العليِّ العَظيمِ.
قولُهُ تعالى: {قَالُوا لَقَدْ عَلِمْتَ مَا لَنَا فِي بَنَاتِكَ مِنْ حَقٍّ} قَالُوا: فِعْلٌ ماضٍ مبنيٌّ على الضمِّ لاتِّصالِهِ بواوِ الجماعةِ، وهو ضميرٌ متَّصلٌ بِهِ مبنيٌّ على السكونِ في محلِّ رفعِ فاعِلِهِ، والألفُ فارقةٌ والجُمْلَةُ مُسْتَأْنَفَةٌ فلا محلَّ لها من الإعرابِ. و "لَقَدْ عَلِمْتَ" اللامُ: مُوَطِّئَةٌ للقَسَمِ. و "قد" لِتَحْقيقِ الفعلِ الماضي. و "عَلِمْتَ" فِعْلٌ ماضٍ مبنيٌّ على السكونِ لاتِّصالِهِ بضميرِ رفعٍ متحرِّكٍ هو تاءُ الفاعل، وهي ضميرٌ متَّصلٌ به في محلِّ رفع فاعِلِهِ، والجُمْلَةُ الفِعْلِيَّةُ هذه "عَلِمْتَ"، جَوابُ القَسَمِ، وجُمْلَةُ القَسَمِ "لقد علمتَ" في مَحَلِّ النَّصْبَ بالقولِ ل "قَالُوا". و "مَا" نافيَةٌ تميميَّةٌ. و "لَنَا" جارٌّ ومَجْرورٌ في محلِّ الرَّفعِ، خَبَرٌ مُقَدَّمٌ للمُبْتَدَأِ، أَوْ في محلِّ النَّصْبِ على أنَّه خبرُ "ما" إنْ أعربتْ حِجازِيَّةً. و "فِي بَنَاتِكَ" جارٌّ ومجرورٌ مضافٌ مُتَعَلِّقٌ بالاسْتِقْرارِ الذي تَعَلَّقَ بِهِ الخَبَرُ. وكافُ الخطابِ ضميرٌ متَّصلٌ في محلِّ جرِّ مُضافٍ إليهِ، و "مِنْ حَقٍّ" مِنْ: حرفُ جرٍّ زائدٌ، و "حقٍّ" مجرورٌ لفظًا بِ "مِنْ" مرفوعٌ محلًّا على أنَّهُ مُبْتَدَأٌ مُؤخَّرٌ إنْ أعربتْ "ما" تميميَّةً، أوْ اسْمٌ لها إنْ أعربتْ حجازيَّةً، وفي الحالين فالجُمْلَةُ الاسْمِيَّةُ سادَّةٌ مَسَدَّ مَفْعُولَيْ "عَلِمَ". ويجوزُ أَنْ يَكونَ "مِنْ حَقٍّ" فاعِلًا بالجارِّ قَبْلَهُ لاعْتِمادِهِ عَلى نَفْيٍ، وعَلى كِلا القَوْلَيْنِ فإنَّ "مِنْ" مَزيدةٌ.
قولُهُ: {وَإِنَّكَ لَتَعْلَمُ مَا نُرِيدُ} وَإِنَّكَ: الواوُ: للعطفِ أَوْ حاليَّةٌ، و "إنَّ" حرفٌ ناصِبٌ ناسِخٌ، مشبَّهٌ بالفعلِ للتوكيدِ، وكافُ الخطابِ ضميرٌ متَّصلٌ به في محلِّ نصبِ اسْمِهِ. و "لَتَعْلَمُ" اللامُ: حرْفُ ابْتِداءٍ، المزحلقةُ للتوكيدِ، و "تَعْلَمُ" فعلٌ مُضارعٌ مرفوعٌ لتجرُّدِه مِنَ النَّاصِبِ والجازمِ، وفاعِلُهُ ضَميرٌ مستترٌ فيه وُجوبًا تقديرُهُ "أنتَ" يعودُ على "لوطٍ" عليه السَّلامُ. و "مَا" إمَّا مَوْصولَةٌ، أَوْ مَوْصوفَةٌ، أوْ مَصْدَرِيَّةٌ، أَوْ اسْتِفهامِيَّةٌ مُعَلِّقَةٌ ما قبلَها في مَحَلِّ النَّصْبِ مفعولًا ل "تَعْلَمُ" لأنَّهُ بِمَعْنى "عَرَفَ". و "نُرِيدُ" فعلٌ مُضارعٌ مرفوعٌ لتجرُّدِهِ مِنَ الناصِبِ والجازمِ، وفاعلُهُ ضميرٌ مستترٌ فيه وُجوبًا تقديرُهُ "نحنُ" يَعودُ على قومِ لوطٍ، وهذه الجُمْلَة "نُريدُ" صِلَةُ "ما" فلا محلَّ لها من الإعرابِ، أَوْ في محلِّ نصبٍ صِفَةٌ لَها، والعائدُ، أَوِ الرابطُ محذوفٌ تقديرُه: ما نُريدُهُ، أَوْ لَتَعْرِفُ إرادَتَنا، وجُملةُ "تَعْلَمُ" في مَحَلِّ الرَفعِ، خَبَرُ "إنَّ"، وجملةُ "إنَّ" في محلِّ النَّصْبِ عطْفًا على جُملَةِ القَسَمِ، كونَها مَقولَ "قَالُوا".