فيض العليم ... سورة هود ، الآية: 68
كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا أَلَا إِنَّ ثَمُودَ كَفَرُوا رَبَّهُمْ أَلَا بُعْدًا لِثَمُودَ (68)
قولُهُ ـ تعالى شأنُهُ: {كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا} فَكاَنُوا بِسُرْعَةِ زَوَالِهِمْ، وَشُمُولَ هَلاَكِهِمْ، كَأنَّهُمْ لَمْ يُعَمِّرُوا دِيَارَهُمْ، وَلَمْ يُقِيمُوا فِيها، وكَأَنَّهُمْ لَمْ يُوجَدُوا أصلًا، وَالْمَغْنَى الْمُقَامُ الَّذِي يُقِيمُ الْحَيُّ بِهِ يُقَالُ: غَنِيَ الرَّجُلُ بِمَكَانِ كَذَا إِذَا أَقَامَ بِهِ. وَأخرج ابْنُ جريرٍ، وَابْنُ أبي حَاتِم، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ـ رَضِي اللهُ عَنْهُمَا فِي قَوْلِهِ: "كَأَن لم يَغْنَوْا فِيهَا" قَالَ: كَأَنْ لَمْ يَعيشُوا فِيهَا. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبي حَاتِمٍ وَأَبُو الشَّيْخ عَنهُ أيضًا: أنَّه قَالَ: كَأَن لم يَعْمُروا فِيهَا. وكذلك أَخْرَجَ عنه، ابْنُ الْأَنْبَارِيِّ فِي (الْوَقْفِ والابْتِداءِ)، والطِسْتِيُّ: أَنَّ نَافِعَ بْنَ الْأَزْرَقِ قَالَ لَهُ: أَخْبِرْنِي عَنْ قَوْلِهِ ـ عَزَّ وَجَلَّ: "كَأَن لم يغنوا فِيهَا" قَالَ: كَأَنْ لَمْ يَكُونُوا فِيهَا، يَعْنِي فِي الدُّنْيَا حِينَ عُذبُوا، وَلَمْ يَعْمُروا فِيهَا. قَالَ: وَهَلْ تَعْرِفُ الْعَرَبُ ذَلِكَ؟ قَالَ: نَعَمْ، أَمَا سَمِعْتَ لَبيدَ بْنَ رَبيعَةَ وَهُوَ يَقُولُ:
وغَنيتَ شَيْئًا قَبْلَ نَحْرِي وَأَحْسَنُ ........ لَو كَانَ للنَّفسِ اللَّجوجِ خُلُودُ
وَأخرج ابْنُ أَبي حَاتِمٍ عَنْ قَتَادَةَ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، فِي قَوْلِهِ: "كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا" قَالَ: كَأَنْ لَمْ يَنْعَمُوا فِيهَا.
ومادَّةُ "غَنِيَ: "غِنىً"، أوْ "غَنَاءً" كُلُّها مُتَساوِيَةٌ؛ لأَنَّ الغَنَاءَ هوَ الوُجودُ؛ وُجودُ شَيْءٍ يُغَنِي عَنْ شَيْءٍ، فالغِنَى هُوَ وُجودُ مالٍ يُغْنيكَ عَنْ غيرِكَ، والغِنَاءُ: ما نَسْمَعُهُ مِنَ المُغَنِّينَ، لأنَّه إذا أعجبتكَ أُغْنِيَةٌ تقيمُ معها، وتستغني بها عما سِواها مِنَ الكَلامِ، والغَانيةُ أيضًا هي التي تستغني بجمالِها الطبيعيِّ عن الزينةِ لما وهبها اللهُ مِنْ حُسْنٍ. وغَنِيَ فلانٌ، أَيْ أَصْبَحَ عِنْدَهُ مِنَ المَالِ ما يَجْعَلُهُ مُسْتَغْنِيًا عَنِ الحاجَةِ إلى غَيْرِهِ مِنَ الناسِ.
قولُهُ: {أَلَا إِنَّ ثَمُودَ كَفَرُوا رَبَّهُمْ} هذِهِ هيَ حَيْثِيَّاتُ العَذابِ الذي نَزَلَ بِهِمْ، وهذه هي أسبابُهُ. وقالَ: "كَفَرُوا ربَّهم" فعدَّى الفعلَ بنفسِه والمعنى: سَتَرُوا وُجُودَ رَبِّهم وأَخفوه، وكأَنَّه لا وُجودَ لَهُ، فلم يسمعوا لرسولِهِ الذي أرسلَهُ إليهم أمرًا ولا نهيًا ولا وَعْدًا ولا وعيدًا، فالرسولُ إنَّما يبلِّغُ رسالةَ مرسِلِهِ. وهذا الفعلُ يتعدَّى في العادةِ بالباءِ فيقالُ: "كَفَروا بِرَبِّهم" والمعنى حينئذٍ أنهم معترفونَ بوجود ربهم، لَكِنَّهم لَمْ يُؤمِنُوا بِهِ. فثمَّةَ فرقٌ إذًا بينَ أَنْ يَتَعَدَّى هذا الفعلُ بِنَفْسِهِ أو أَنْ يَتَعَدَّى بِغيرِهِ كالباءِ.
قولُهُ: {أَلَا بُعْدًا لِثَمُودَ} لأَنَّهم: يَسْتَحِقُّونَ مَا وَقَعَ عَلَيْهِمْ مِنْ إِهْلاكٍ وطَرْدٍ مِنْ رَحْمَةِ اللهِ، ولَنْ يَجِدُوا مَنْ يَعْطِفُ عَلَيْهِمْ لِفَدَاحَةِ ذَنْبِهِم، وعِظَمِ جُرْمِهم. والبُعْدُ هو الموتُ والهلاكُ، والفراقُ الذي لا لقاءَ بعدَهُ. واللهُ أعلم.
قولُهُ تعالى: {كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا} كَأَنْ: حرفٌ ناسخٌ ناصبٌ مشبَّهُ بالفعلِ مُخَفَّفَةٌ مِنَ الثَقِيلَةِ، واسْمُها مَحذوفٌ تقديرُهُ: كأَنَّهم، و "لَمْ يَغْنَوْا" حرفٌ جازِمٌ، وفِعْلٌ مضارعٌ مجزومٌ به، وعلامةُ جزمِهِ حذفُ النونِ من آخرهِ لأنَّهُ مِنَ الأفعالِ الخمسةِ، والواوُ الدالَّةُ على الجماعةِ ضميرٌ متَّصلٌ به مبنيٌّ على السكونِ في مَحَلِّ رفعِ فاعلهِ، والألفُ الفارقةُ، و "فِيهَا" جارٌّ ومجرورٌ مُتَعَلِّقٌ بِهِ، وهذه الجُمْلَةُ الفِعْلِيَّةُ في مَحَلِّ رَفْعِ خَبَرِ "كَأَنْ" وجُمْلَةُ "كَأَنْ" في مَحَلِّ النَّصْبِ على الحالِ مِنْ واوِ {أصبحوا} والتقديرُ: فَأَصْبَحوا جاثِمينَ، حالَ كَوْنِهم مُماثِلينَ لِمَنْ لَمْ يُوجَدْ، ولم يُقِمْ في مَكانٍ قَطُّ.
قولُهُ: {أَلَا إِنَّ ثَمُودَ كَفَرُوا رَبَّهُمْ} أَلَا: حَرْفُ تَنْبيهٍ، و "إِنَّ" حرفٌ ناصِبٌ ناسخٌ مشبَّهٌ بالفعلِ للتوكيد، و "ثَمُودَ" اسْمُهُ منصوبٌ، و "كَفَرُوا" فعلٌ ماضٍ مبنيٌّ على الضمِّ لاتِّصالِهِ بواوِ الجماعةِ، وهو ضميرٌ متَّصلٌ بهِ مبنيٌّ على السكونِ في محلِّ رفعِ فاعِلِهِ، والألفُ للتفريق، و "رَبَّهُمْ" مفعولٌ بهِ منصوبٌ وهو مضافٌ، وضميرُ الغائبينَ ضميرٌ متَّصلٌ به في محلِّ الجرِّ بالإضافةِ إليه، وهذه الجملةُ الفِعْلِيَّةُ في مَحَلِّ الرَّفعِ، خبرُ "إنَّ" وجُمْلَةُ "إنَّ" مُسْتَأْنَفَةٌ لا محلَّ لها من الإعراب.
قولُهُ: {أَلَا بُعْدًا لِثَمُودَ} أَلَا: حَرْفُ تَنْبِيهٍ، "بُعْدًا" مَصْدَرٌ نائبٌ مَنَابَ فِعْلِهِ، مَنْصوبٌ بِفِعْلِهِ المَحْذوفِ تَقْديرُهُ: أَلَا بَعُدوا بُعْدًا، و "لِثَمُودَ" جارٌ ومجرورٌ بالفتحةِ نيابَةً عن الكثرةِ لأنَّهُ ممنوعٌ من الصرفِ متعلِّقٌ بِـ "بُعْدًا" وزِيدَتِ اللامُ لِبيانِ المَدْعُوِّ عَلَيْهِم كَـ "لامِ" سُقيًا لَكَ.
وَقَرَأَ الجمهورُ: {ثمودًا} بالتَنْوينِ بِالصَّرْفِ، وقَرَأَ حَمْزَةُ وَحَفْصٌ عَنْ عَاصِمٍ: "أَلا إِنَّ ثَمُودَ" غَيْرَ مُنَوَّنٍ فِي كُلِّ الْقُرْآنِ، وَمَنْعُهُ لِلتَّعْرِيفِ وَالتَّأْنِيثِ بِمَعْنَى القبيلة.
وقرأ الجمهورُ: {أَلاَ بُعْدًا لِّثَمُودَ} بمَنْعِهِ الصَّرْفَ إِلَّا الكِسَائِيَّ فإنَّهُ صَرَفَهُ. وقد تقدَّمَ أَنَّ مَنْ مَنَعَ، فقد جعَلَهُ اسْمًا للقبيلةِ، ومَنْ صَرَفَ جعَلَهُ اسْمًا للحَيِّ، وأُنْشِدَ عَلى المَنْعِ:
ونادى صالحٌ يا ربِّ أنزلْ ...................... بآلِ ثمودَ منك عذابَا
وأُنْشِدَ على الصَرْفِ:
دَعَتْ أمُّ عمروٍ أَمْرَ شرٍّ عَلِمْتُهُ .............. بأرضِ ثمودٍ كلِّها فأَجابَها